آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! عصى موسى (6)

 


 

 

نصر القفاص

 

دخلت الحملة الفرنسية مصر عام 1798 رافعة رايات احترام الدين, وزعم "نابليون" أنه جاء من أجل التطوير والتحديث ونشر العلم والمعرفة.. فعل ذلك التفافا على اعتقاد يحكم الدول الإسلامية اسمه "الخلافة الإسلامية" وكشف الشعب المصرى خداعه وكذبه.. فكانت ثورتى القاهرة الأولى والثانية.. لأن "الحركة الوطنية" كان قد اكتمل نضجها بعد عشرات السنوات من الاحتلال العثمانى الذى حكم رافعا رايات "الخلافة".. فرض "عمر مكرم" ورفاقه "محمد على" حاكما رغما عن إرادة السلطان العثمانى.. وجرت فى النهر مياه كثيرة.. كان "فيروس الاستعمار" يطور نفسه – يتحور – حتى وجد ضالته فى اصطياد الدول والشعوب, عبر "شبكة الديون" التى تفقد الدولة قدرتها على المقاومة.. سقط "الخديوى اسماعيل" فى "المصيدة" وتم عزله وتنصيب ابنه "توفيق" ليحدث "تحور للفيروس" أخذ عنوان "الديمقراطية" لمقاومة ما أسموه "الطغيان العسكرى"!!

 

عشية التهام "بريطانيا" فريستها – مصر – بعث "الأميرال سيمور" قائد الأسطول البريطانى بخطاب إلى "الخديوى توفيق" يوم 26 يوليو 1882.. جاء فيه: "أنا أميرال الأسطول البريطانى, أرى الفرصة سانحة لأسارع بالتأكيد لسموكم.. بأن حكومة بريطانيا العظمى لا تنوى مطلقا فتح مصر.. ولا التعرض لدين المصريين بحال من الأحوال.. وأن غرضها الوحيد هو أن تحمى سموكم والمصريين من العصاه"!!

 

صدر قرار "حل الجيش المصرى" وتسريح ضباطه وجنوده!

 

تم إلغاء الدستور وتعطيل المجلس النيابى!

 

مضى نحو عام على تمكن الاستعمار الجديد من مصر – الانجليزى – فوقف "جلادستون" رئيس وزراء بريطانيا أمام "مجلس العموم" يوم 6 أغسطس عام 1883 ليقول: "لم تنس حكومة جلالة الملكة وعودها.. ولن يبق جنود بريطانيا بوادى النيل يوما واحدا أكثر مما تقتضيه الضرورة"!!

 

لاحظ أن الكلام الجديد – الكذب – عن وادى النيل!!

 

لاحظ عبارة "أكثر مما تقتضيه الضرورة"!

 

بعد ساعات راح "جلادستون" يشرح أكثر.. فقال يوم 8 أغسطس: "لم نذهب إلى مصر لأغراض أنانية.. رغبتنا الوحيدة هى تعجيل الإصلاح.. وعند تمام هذا الإصلاح سنرحل"! ثم تحدث مرة أخرى للصحف التى نشرت تصريحا له يوم 9 أغسطس قال فيه: "الحكومة البريطانية لم تفكر فى ضم مصر, لأن هذا العمل يمس الشرف البريطانى"!!

 

استمرت "أسطوانة الشرف" بما تحويه من "أغاني الإصلاح"!!

 

كان الكلام يقال فى "بريطانيا", لا تسمعه مصر.. التوضيح والتبرير كان لشعبهم.. أما الشعب المصرى الذى أصبح بلا جيش ولا دستور ولا مجلس نيابى.. لا يهمهم.. المهم أن "الخديوى" إستمر على كرسى السلطة.. وسلم مفاتيح الوطن "للورد كرومر" المندوب السامى باعتباره الحاكم الحقيقى.. كانت الدولة العثمانية مضطرة لبلع الإهانة.. قل أنها كانت قد تعودت على الإهانة.. فالمهم أن يبقى "السلطان" على الكرسى مستمتعا بالسلطة والنفوذ والثروة.. فما حدث كله كان باتفاق معه على أن ينعم بثوب الخليفة.. ونصل إلى يوم 16 يونيو 1884, لتنشر فيه الصحف البريطانية تصريحا على لسان "اللورد جرانفيل" وزير الخارجية يعلن خلالها عهدا.. أو تعهدا.. قال فيه: "تتعهد حكومة جلالة الملكة, بأن تسحب جنودها مطلع عام 1888 بشرط أن ترى دول العالم أن الجلاء يمكن أن يتم بدون تعكير السلام والأمن فى مصر".. ولتأكيد المعنى ذهب "جلادستون" رئيس الوزراء إلى "مجلس العموم" ليقول أمامه يوم 23 يونيو: "نتعهد ألا نطيل احتلالنا الحربى لمصر إلى ما بعد أول يناير 1888.. وعندما يحين وقت تنفيذ ما تعهدنا به.. لابد أن ننفذ تعهدنا حتى لا تفقد بلادنا شرفها أمام العالم"!!

 

أضطر هنا إلى تذكر الفنان "توفيق الدقن" القائل "أحلى من الشرف مافيش"!!

 

تم احتلال مصر بما يسمى "ميثاق النزاهة" واستمر باسم "الشرف البريطانى"!!

 

هنا يجوز لنا أن نسأل.. هل يختلف الشرف الأمريكى عن الشرف البريطانى؟!

 

هل اختلف كلام "جلادستون" عام 1882 عن كلام "أوباما" عام 2009؟!

 

السخرية والأسئلة تفرضهما حالة "الوعى" إن شئنا فهم ما يدور حولنا.. وحتى لا نستمر ندور داخل "دائرة مغلقة" تم كسرها يوم "23 يوليو 1952".. وعدنا ندور داخلها برحيل قائد وزعيم الثورة.. فالاستقلال لم يتحقق بما يفاخرون به من عناوين "الليبرالية" و"الديمقراطية".. بل تحقق بإرادة أمة عبر عنها شبابها من الضباط بامتلاك الوعى والثقافة والفكر.. وليس بقوة السلاح.. لأن ما امتلكوه من أسلحة صباح إعلان "الحركة المباركة" كان أضعف بكثير من أسلحة استعمار كان مازال جاثما على صدر الوطن.

 

نعود إلى ذلك الزمن.. شهدت بريطانيا تغييرا أدى إلى ذهاب "جلادستون" وتولى رئاسة الوزرا "سالسبرى" الذى وقف أمام "مجلس العموم" يوم 10 يونيو 1887.. أى قبل شهور من موعد تنفيذ تعهدات بلاده.. وقال: "لا تستطيع الحكومة الانجليزية وضع مصر تحت حمايتها, وذلك بناء على تعهدات سابقة.. واحتراما لقواعد القانون الدولى.. فمهمتنا يجب أن تتوقف عند الاتفاق مع الباب العالى – الخليفة – على الدفاع عن الخديوى ضد الفتن السياسية"!! ثم أضاف موضحا: "لقد عقدنا اتفاقية فى هذا الصدد مع تركيا, وهى تقتضى بأن الاحتلال الانجليزى لمصر ينتهى بعد ثلاث سنوات"!!

 

كانت هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها إعلان أنه هناك اتفاق على احتلال لثلاث سنوات فقط.. ليتأكد أن ما سبق هذا الإعلان كان أكاذيبا لا تحتمل شكا.. المهم أننا هنا بصدد تعبير كان غريبا وجديدا تمثله كلمة "الحماية" لأن الاستعمار يعرف أن للكلمة معنى.. سنجد أن قادة دول الاستعمار يجيدون اللعب بالكلمة والتلاعب بالألفاظ.. فهم يتحدثون عن مصر, ثم يذكرون "وادى النيل" ويحدثونك عن مهمة لفرض الاستقرار.. لذلك ينفون الاحتلال.. بعدها "يحدثونك" عن "الحماية" التى تم فرضها عام 1914 إحتراما للشرف البريطانى!!

 

يوم أول ديسمبر عام 1888.. كان موعد الجلاء بموجب التعهد الذى قطعون على أنفسهم قد انتهى.. لكن وزير الخزانة يقول أمام "مجلس العموم" البريطانى: "يمكننا أن نتوقع فى مستقبل قريب جدا الجلاء عن وادى النيل كله"!!.. ولأن "المستقبل القريب" لا تحمل معنى محدد أو "توقيت واضح" فقد مضى نحو عام على هذا الكلام – الكذب – حتى جاء يوم 12 أغسطس عام 1889.. وقف "اللورد سالسبرى" رئيس الوزراء أمام "مجلس اللوردات" ليقول: "لا نستطيع إعلان حمايتنا على مصر.. ولا إعلان نيتنا بأننا نريد احتلالها فعليا وأبديا.. لأن هذا يعد نقضا لتعهدات انجلترا الدولية"!!

 

رئيس وزراء بريطانيا ينفى الرغبة فى الاحتلال "فعليا وأبديا"!!

 

الحقيقة أنهم كانوا يحتلون مصر "فعليا".. أما حكاية "أبديا" فهى تحمل معنى!! والمعنى سنجده فى تصريح على لسان "اللورد روزبيرى" الذى كان قد تولى المسئولية كوزير للخارجية.. يقول: "تعهدت انجلترا بالجلاء عن مصر متى قامت فيها حكومة غير مزعزعة.. ولقد حان وقت الجلاء"!!.. ولك أن تصدق أن هذا التصريح صدر يوم 25 يناير عام 1893.. أى بعد عشر سنوات من الاحتلال, الذى قالوا يوم تنفيذه أنه لن يستمر لأكثر من أيام.. ثم قالوا أنه لن يطول لعام.. بعدها كشفوا عن اتفاقهم مع سلطة الاحتلال العثمانى على ثلاث سنوات من الاحتلال.. ووصلنا إلى قولهم "سيحدث الجلاء فى المستقبل القريب"!!

 

وصلنا إلى يوم 9 اكتوبر عام 1894.. ولم يصل "المستقبل القريب"!!

 

فى هذا اليوم أعلن "السير كامبل بانرمان" وزير الحربية البريطانى أن: "إحتلال مصر ليس سوى أمر وقتى.. نحن لا يمكننا البقاء فى مصر إلى الأبد.. إلا إذا نقضنا تعهداتنا الرسمية, وجعلنا أنفسنا محتقرين فى نظر أوروبا"!! وتمضى الشهور ليقف "السير تشارلس" وكيل وزارة الخارجية ليلقى محاضرة أمام دبلوماسيين فى أوروبا.. كانت يوم 14 اكتوبر عام 1895 قال خلالها: "الاحتلال الانجليزى مصدر ضعف لانجلترا.. وحيث أننا لا نرى أية مصلحة فى البقاء فى مصر, فلا يوجد سبب يمنع جلاءنا عن هذا البلد"!

 

إستمر الكذب الانجليزى.. حتى عزلوا "الخديوى عباس" وفرضوا الحماية على مصر, بمجرد اندلاع الحرب العالمية الأولى.. هى "الحماية" نفسها التى كانوا ينفون إعلانها لسنوات, دون أن يفهم أحدا فى "مصر" ولا "الآستانة" للكلمة معنى.. كان "إعلان الحماية" يجرى الترتيب له مع دول أوروبا التى تناقش فى غرف مظلمة تقسيم دول العالم بينها.. وكانت "الحماية" مواكبة لما تم تسميته "إتفاق سايكس – بيكو".. كما كانت "الحماية" مقدمة لأخطر طبخة مسمومة فى القرن العشرين.. صدر "وعد بلفور" الذى أعطى للصهاينة وطن عربى – فلسطين – قبل إعلان نهاية الحرب العالمية الأولى.. لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل صراع مصر مع القوى التى سلبتها إرادتها وسيادتها عام 1517 يوم أن سقطت تحت "الاحتلال العثمانى"!!

 

الوثائق التى أكدت أن احتلال انجلترا لمصر, كانت جريمة سابقة الإعداد مع "سبق الإصرار والترصد" وأن اصطيادها بالديون كان مجرد خطوة على طريق طويل.. وتم التنفيذ عبر شبكة نصبوها للجيش والشعب عنوانها "الديمقراطية" والسعى لتحقيق "الاستقرار" و"الإصلاح" فى مصر.. وكل هذا ما كان يمكن أن يحدث دون وجود رأس سلطة ساذج إلى حد الخيانة إسمه "الخديوى إسماعيل"!.. وما كان يمكن أن يحدث دون تنصيب إبنه "الخديوى توفيق".. وما كان يمكن أن يحدث دون "حل الجيش المصرى" وتشويه "أحمد عرابى".. ثم بعثرة أوراق "مشروع نخبة" كانت تتشكل ويرفع راياتها "محمد عبده" و"عبد الله النديم" مع شطب أمل الشعب المصرى – حقه – فى أن يكون له دستور ومجلس نيابى!!

 

ماذا تقول وثائقهم التى كشفوها؟!

 

تقول تلك الوثائق أن الحكومة البريطانية أوفدت إلى مصر "اللورد دوفرين" عقب التخلص من "أحمد عرابى" والقضاء على ثورته.. قضى فترة يدرس الأوضاع, لينتهى إلى تقديم تقرير يوم 6 فبراير عام 1883 شرح فيه رؤيته لقواعد التعامل مع الفريسة – مصر – فى المستقبل.. ونحن نسمى هذه التقارير فى زمننا "إستراتيجية" فأوضح صاحب التقرير – الإستراتيجية – "يجب فرض الحماية المقنعة على مصر.. يتحقق ذلك بوضع طائفة من كبار الموظفين الانجليز على رأس المصالح العامة والوزارات.. وهؤلاء يخضعون مباشرة للمندوب السامى".. وأضاف التقرير أنه يجب: "إنتاج أكبر قدر من التأكيدات والتصريحات, التى تنفى رغبة انجلترا فى احتلال مصر.. ثم تطوير ذلك بنفى فرض الحماية"!! واستمر العمل بهذه الاستراتيجية – التقرير – حتى احترقت باندلاع ثورة 1919.. كان لابد من تقرير جديد.. رؤية جديدة.. استراتيجية جديدة.. حدث ذلك فعلا.. رسمها "لورد ملنر" الذى صاغ الرؤية الجديدة فى تقرير سلمه لحكومة بلاده يوم 9 ديسمبر عام 1920.. نشرته الحكومة البريطانية يوم 19 فبراير عام 1921.. ولنا أن نتخيل مفاجأة "ملنر" التى أصبحت استراتيجية المستعمر الجديدة.. لقد كانت "الديمقراطية" باعتبارها "عصى موسى"!!..

 

يتبع

 

نصر القفاص

 

إرسال تعليق

0 تعليقات