آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! مصطفى كامل (7)

 


 

 

مصر القفاص

 

تربع "الخديوى توفيق" على عرش السلطة.. تسلم الانجليز حكم مصر بعد هزيمة "أحمد عرابى".. إكتفى السلطان العثمانى بأن تصله الجزية السنوية التى يدفعها الشعب.. كانت قيمة الجزية 400 ألف جنيه, ورفعها "الخديوى إسماعيل" إلى 750 ألف جنيه سنويا ثمنا للقب "خديوى" وأن يحكم أولاده من بعده!! ليتم شطب الاتفاق على أن يحكم مصر أكبر أبناء أسرة "محمد على" واتفقت الأطراف الثلاثة على إبعاد الشعب تماما عن حقيقة ما يحدث فى بلاده!

 

تبعثرت "النخبة" التى كانت تطالب بدستور ومجلس نيابى.

 

فقدت مصر جيشها تماما.. وشرعت سلطة الاحتلال الجديد فى فصل مصر عن السودان.. تولى "جوردون باشا" تنفيذ المهمة بعد أن عينوه حاكما على السودان.. تتابعت ثورات الشعب السودانى رفضا لهذه الأوضاع.. إستخدم الانجليز موارد مصر المالية والبشرية لإخماد هذه الثورات.. كان الهدف تأسيس حالة عداء بين شعبى وادى النيل.. اكتملت الخطة – المؤامرة – بتوقيع اتفاقية عام 1899 التى وضعت خطا فاصلا بين حدود دولتين, كانتا دولة واحدة.. بدأت الخطة فى "زمن الخديوى إسماعيل" وانتهت فى زمن حفيده "الخديوى عباس حلمى".

 

أصبحت "الديمقراطية" جريمة تطارد سلطة الاحتلال من يحاول ارتكابها.. ولا مانع من ممارسة قدر من الحرية.. هنا ظهر "مصطفى كامل" الشاب الوطنى الذى فهم ما حدث لبلاده.. أمتلك سلاح العلم وفهم التاريخ.. كما امتلك القدرة على ممارسة السياسة, بما تعلمه فى "باريس" ونجح فى أن يكون مجرى جديد لنهر الوطنية.. قرر استثمار رغبة الدولة العثمانية فى استعادة نفوذها داخل مصر.. وساعده أن مصر أصبح يجلس على كرسى الحكم فيها, اعتبارا من يوم 26 مارس عام 1892 "الخديوى عباس حلمى" الذى تولى السلطة بعد وفاة والده – توفيق – وكان عمره دون 18 عاما – تكرر الأمر مع الملك فاروق – وكان كل من "عباس حلمى" و"مصطفى كامل" يؤمنان بمنهج الخلافة.. كليهما كان يلقى رعاية من "الآستانة" وكليهما حصل على لقب "الباشا" بفرمان من الباب العالى!! واختلفا فى إيمان "مصطفى كامل" بالوطنية المصرية إلى حد أنه جعلها عقيدة.. أما "عباس حلمى" فكانت المصرية بالنسبة له هى كرسى الحكم!!

 

اسم "مصطفى كامل" وسيرته يستحقان وقفة عميقة.

 

دور "مصطفى كامل" فى بلورة مفهوم الوطنية المصرية, لا يجوز مرور الكرام عليه.. فقد فتح عينيه ليجد بلاده يعبث بمقدراتها الاستعمار الانجليزى.. كان "أبوه" ضابط جيش و"جده" فلاح ووالدته بنت ضابط جيش.. والبيئة التى نشأ فيها اجتماعيا هى حى "الخليفة" وكلها عوامل أسهمت فى تنشئته وتكوينه من طفولته.. تميز منذ نعومة أظافره بفصاحة اللسان, وظهرت عليه موهبة الخطابة مبكرا.. وبقيت فى ذاكرته واقعة تستحق أن نعرفها.. قدم شقيقه "على فهمى" تفاصيلها فى مذكراته.. قال أنهم اختاروه ليقف خطيبا أمام "الخديوى توفيق" يوم أن قام بزيارة لمدرسته.. طلب منه حرس الخديوى أن يقدم نفسه له بقوله "عبد سموك فلان" لكنه رفض.. حين تقدم نحو الخديوى قال له إسمى "مصطفى كامل" فقط.. وبعد أن غادر الخديوى إتجه نحو من طلب منه أن يقدم نفسه بقوله "عبد سموك" وقال له: "لم يكن أبى عبدا.. وأنا لست عبدا لأحد"!! سمع "على باشا مبارك" وزير المعارف الحوار.. وكان أن أعجبه هذا الطفل الفصيح.. قربه منه وأثنى عليه وشمله برعايته, وأدى ذلك إلى مبادرته بتأسيس "جمعية الصليبة" للخطابة – الصليبة ضاحية بالقلعة – وبدأ بعدها يبحث عن الجمعيات السرية التى يكونها الطلبة.. إختار الالتحاق بكلية "الحقوق" وكان اسمها "مدرسة الحقوق" ولنا أن نعرف أن مصروفات "الحقوق" فى هذا الزمان كانت 30 جنيها سنويا.. بينما مصروفات الطب والهندسة فكانت 15 جنيها فقط!! وخلال دراسته كان له صديق اسمه "فؤاد" ووالده "لطيف سليم" الضابط المرموق وقائد "أحمد عرابى".. فسمع منه الكثير عن "الثورة العرابية".. وخلال فترة دراسته وبعد إتمامها كان يكتب المقال على صفحات "الأهرام" ثم صادفه لقاءات مع "عبد الله النديم" وتعرف على الشيخ "على يوسف" صاحب ورئيس تحرير "المؤيد" وكانت أهم وأشهر الصحف المصرية وأكثرها توزيعا.. وكل ذلك جعله مرغوبا ومطلوبا من جانب "الخديوى عباس حلمى" الذى نسج علاقة معه قائمة على احترام وتقدير متبادلين.

 

حدث موقف ترك أثره فى نفس "مصطفى كامل" عام 1894 وكان "الخديوى عباس" محل تقديره.. وقعت "حادثة الحدود" فى شهر يناير.. تفاصيل الواقعة أن الخديوى الشاب كان يقوم بجولة تفتيش فى صعيد مصر بصحبة "محمد ماهر باشا" وكيل وزارة الحربية – والد أحمد وعلى ماهر – وخلال الجولة اندفع الخديوى ووجه نقدا علنيا للضباط الانجليز.. كان "الجنرال كيتشنر" هو سر دار – قائد – الجيش, فاعتبر أن ما أقدم عليه الخديوى – الجالس على كرسى حكم مصر – نال من هيبته.. قرر تقديم استقالته "للورد كرومر" الحاكم الفعلى للبلاد.. التقط "كرومر" الواقعة لتأديب وتهذيب "الخديوى الشاب" ففرض عليه أن يصدر بيانا, يتم نشره فى الجريدة الرسمية.. يتضمن البيان إعلان الاحترام والتقدير للجيش الانجليزى.. فعلها الخديوى صاغرا.. وأكثر من ذلك أنه نفذ أمر "كرومر" بعزل "ماهر باشا"من منصبه لأنه حضر الواقعة!!

 

 

بقيت الحادثة محفورة على جدار ذاكرة "مصطفى كامل" واعتبرها إهانة لوطن بأكمله.. ذهب إلى "فرنسا" بمرارتها.. وجد فى "باريس" مناخا يسمح له بالرد على هذه الإهانة.. صادفه توفيقا وقبولا من النخب الفرنسية, الذين ساعدوه فى التعرف على "النخب الألمانية" وكلهم كانوا ضد "أكاذيب بريطانيا" التى طال احتلالها لمصر.. وتحول "مصطفى كامل" إلى صداع فى رأس سلطات الاحتلال الجديد.. لكنه كان يلقى دعم سلطات الاحتلال القديم – العثمانى – راهن كثيرا على تعاطف فرنسا مع حق المصريين فى جلاء الانجليز.. لكنه تعرض لصدمة "الاتفاق الودى" الذى وقعته كل من فرنسا وانجلترا عام 1904, اتفق الطرفان على تقسيم المنطقة بينهما.. أدهشه أن ألمانيا – أيضا – باركت الاتفاق, مقابل غض النظر عن توسعاتها الاستعمارية.. لم يعد له غير "الإمبراطورية العثمانية" كداعم وراغب فى جلاء الانجليز.

 

ظهر "أحمد لطفى السيد" فى حياة "مصطفى كامل" الذى حاول إقناعه ببناء كيان سياسى سرى لمقاومة الاحتلال.. لكن "أحمد لطفى السيد" كان يرفض العمل السرى, ونجح فى إقناع "مصطفى كامل" الذى التف حوله الشعب بصورة مذهلة.. فقد كانت خطاباته التى يلقيها خلال جولاته بالمدن والقرى, لها مفعول السحر فى إيقاظ الروح الوطنية.. أصبحت مقالاته التى كان يكتبها على صفحات "الأهرام" وجريدة "المؤيد" بمثابة شعلة جديدة للحرية.

 

كان "سعد زغلول" فى هذا الوقت قاضيا وأكبر سنا من "مصطفى كامل"!!

 

عاد "كيتشنر" مرة أخرى ليترك جرحا جديدا فى نفسيته!!

أقدمت قوات الاحتلال الانجليزى بقيادة "كيتشنر" على تنفيذ حملة عسكرية تجاه إقليم "دنقلة" فى السودان.. منعت مراسلى الصحف من متابعة الأحداث, واكتفت بتوزيع نشرة رسمية على الصحف تحمل تفاصيل ما يحدث.. التقط الشيخ "على يوسف" برقيات سرية من "كيتشنر" بعث بها إلى "اللورد كرومر" تخبره بأن "الطاعون" يحصد أرواح ضباط وجنود.. إضافة إلى "الكوليرا" التى انتشرت كوباء فى هذا الوقت.. نشرت جريدة "المؤيد" نص البرقيات.. فوجئت سلطة الاحتلال بالأخبار منشورة.. قررت توجيه تهمة إفشاء أسرار عسكرية للشيخ "على يوسف" وأخذت معه متهما "توفيق كيرلس" الموظف فى مكتب البريد!!

 

ورغم عدم وجود دليل على الاتهام, تم نصب محاكمة لكليهما.. فشلت المحكمة فى إدانة "على يوسف" فقضت ببراءته.. وأصدرت حكما مخففا ضد "توفيق كيرلس" وهو ما أغضب "وكيل النيابة" خلال نظر القضية!!

 

كان "محمد فريد" هو "وكيل النيابة" فقرر كشف تدخل سلطة الاحتلال فى عمل القضاء.. أصبح الأمر فضيحة بعد أن حملها "مصطفى كامل" للصحف الفرنسية.. أعلن "محمد فريد" استقالته من عمله كوكيل للنيابة, وقرر أن يعمل محاميا على درب "مصطفى كامل" الذى حمل على عاتقه تنوير الأمة نحو "مهنة المحاماة" ولأن الشعب يقدره ويحبه أصبح يقدر "المحاماة" كمهنة.. فى اللحظة نفسها كان والد "محمد فريد" يشكو للمقربين بأنه سيفضحه ويفتح "دكان محاماة" باعتبار أن مكاتب المحامين فى ذلك الوقت كان مكانها "دكان"!!

 

وكانت "الصحافة" أيضا "مهنة" لا تحظى باحترام!!

 

لعبت "المقاهى" دورا كبيرا ومهما ومؤثرا فى صناعة الاعتبار "للمحاماة" و"الصحافة"!!

 

نسبة الأمية كانت كبيرة جدا.. الصحيفة هى مصدر المعلومة والمعرفة.. وكانت الصحافة سلاحا اقتصاديا وسياسيا.. فضلا عن أنها كانت مشروعها تنويريا.. فقبل نهاية القرن التاسع عشر.. تحديدا عام 1899 كانت تصدر فى مصر خمسون جريدة يومية.. نعم خمسون جريدة عربية يومية.. إضافة إلى تسع صحف يومية باللغة الفرنسية, وواحدة باللغة الانجليزية, وأربعة يومية باللغة الإيطالية, وخمسة يومية باللغة اليونانية..

 

وكانت الصحف العربية مجتمعة يصل توزيعها إلى 97 ألف نسخة يوميا..

 

 والصحف المطبوعة بلغات أجنبية يصل توزيعها إلى 110 ألف نسخة يوميا.. وكلها أرقام تم تدقيقها علميا.. وضمن هذه الصحف كانت جريدة "اللواء" التى أصدرها "مصطفى كامل" يوم 2 يناير عام 1900.. ولك أن تندهش لو علمت أن عدد الجريدة الصادر يوم 10 فبراير يحوى مقالا كتبه "مصطفى كامل" كان عنوانه "حقوق الشعب وواجباته" وذكر فى هذا المقال: "إن مصر تبدو متأخرة قياسا إلى أوروبا.. لأن مواطنينا لم يعرفوا بعد حقوقهم السياسية ولم يتمتعوا بها.. وبالتالى فهم لا يؤدون واجباتهم الوطنية.. لذلك وقعت مصر تحت السيطرة الأجنبية.. وعجز رجالاتها عن الحفاظ على ارتباطهم بالشعب, عماد البلاد ومصدر رخائها.. ولو عرف الشعب أن حقوقهم وواجباتهم, باعتبارهم مواطنين متساوية.. ولو أدرك الحكام أن وجودهم رهين بإرادة الشعب.. وأنه يمكن عزلهم إذا خانوا ثقته.. لاستعادت مصر مكانتها اللائقة بين أمم العالم"!!

 

كان الشعب يقرأ هذه المعانى ويبحث عن هذا الفكر.. قبل أكثر من قرن!!

 

كانت "المقاهى" هى السبيل لمعرفة ما تحمله الصحف من أخبار ومقالات.. كل مقهى يجلس عليه "أفندى" أو أكثر لقراءة الصحيفة على من يلتفون حوله بحثا عن المعرفة.. وكانت "المقاهى" تتبارى فى اجتذاب عدد أكبر من "الأفندية" لقراءة أكبر عدد من الصحف.. لتتحول المقاهى إلى منتديات.. أو قل مقرات أحزاب, قبل ظهور الأحزاب!!

 

أغلق "الانجليز" أبواب "الديمقراطية" فجاءتهم من الشباك!!

 

اعتقدت سلطات الاحتلال أن الجهل بالقراءة والكتابة, هما مفتاح البقاء والاستمرار.. فإذا بالصحف والمقاهى تنسف لها ما اعتقدته وتؤرق مضاجعها.. فالشعوب يمكن خداعها.. لكن مستحيل استغفالها.. هكذا علمنا التاريخ وتقول المعلومات باعتبارها العلامات الاسترشادية لطريق الوعى!!

 

 

 يتبع

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات