محمود جابر
منذ مشاهدة فيلم الموريتانى ولد الصلاحى، وأحداثه تتقلب فى رأسي من
محاور عدة، أهم هذه المحاور، هو حديث النبى الذى يقول فيه لان يخطأ الحاكم أو القاضي
فى العفو خير، له من إن يخطأ فى العقوبة...
فما أقسى أن يُعاقب بريء، بيد أن العفو – بالخطأ- عن المذنب قد
يجعله يصلح من حاله، وليس العكس، فربما البريء الذى يتعرض للعقوبة بشكل خطأ يصبح أداة
هدم للمجتمع فضلا عن انهيار قيمة وانتماءه.
من هنا فهمت مدى عظمة حديث النبى فى تأسيس مجتمع مدنى إنسانى عظيم
يتسع صدره وقوانينه من اجل حرية الإنسان، لا من اجل تكبيه وسجنه وتقيد حريته.
*****
الموريتانى : فيلم "الموريتاني" فيلم يصور التجارب
المنهكة وغير الإنسانية التي تعرض لها المعتقلين في القاعدة البحرية الأمريكية
الواقعة في خليج غوانتانامو بكوبا.
يعرض الفيلم قصة المواطن محمد ولد صلاحي الذي اعتقل في موريتانيا
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشبهة العلاقة بمنفذي هجمات برجي مبنى التجارة
العالمي وتم تسليمه للأميركيين.
تبدأ الأحداث من موريتانيا، بعد مرور شهرين على هجمات 11سبتمبر/
أيلول 2001 على برجي مركز التجارة العالمي في أمريكا. وخلال الاحتفال بفرح في أحد
البيوت الموريتانية، تأتي رجال الشرطة وتطلب الشاب محمدو ولد صلاحي (طاهر رحيم)،
ويأمرونه بمرافقتهم إلى المركز. يذهب بسلاسة مطمئناً والدته بأنه لم يفعل شيئاً،
وسيعود إليها سريعاً، من دون أن يعلم أنها ستكون المرة الأخيرة التي يراها فيها.
اتهم بالباطن، لا بالعلن، بأنه أحد المحركين الرئيسيين للهجمات على الرغم من عدم
وجود دليل واضح ومباشر يؤكد ارتباطه بها.
يقفز الفيلم من عام 2001 إلى 2005 مباشرة، كأنه اختصار للوقت،
خصوصاً أننا أمام فيلم يمتد ساعتين وتسع دقائق، لكن المخرج زاد من التنقل بين
الأعوام، مع التركيز على التواريخ أكثر من الغوص في عمق التأثير النفسي والفعلي
الذي تركته تحقيقات الجيش الأمريكي والمخابرات «إف بي آي» مع صلاحي.
ينطلق الفيلم من موريتانيا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، حيث تم اعتقال ولد صلاحي
(رحيم)، لكنه يقفز بعد ذلك إلى عام 2005، عندما وافقت نانسي هولاندر (فوستر) على
إجبار الحكومة على اتهام المعتقل بأنه اقترف ذنباً ما. لماذا نقل الشاب من بلده
إلى عدة دول لينتهي به المطاف في «جوانتانامو» بعيداً عن القواعد العسكرية
الأمريكية، وبعيداً أيضاً عن عين القانون وسلطته؟ هل هو مذنب؟ وما التهمة الحقيقية
التي سجن بسببها؟
نانسي هولاندر محامية دفاع تتولى القضايا الصعبة، خصوصاً تلك التي
تواجه فيها الحكومة الأمريكية. وتتولى قضية محمدو ولد صلاحي وتعمل برفقة مساعدة
لها تدعى تيري (شايلين وودلي) تجيد التحدث بالفرنسية، لأنه لا يجيد الإنجليزية،
إنما يتحدث العربية والفرنسية والألمانية. وتذهب نانسي وتيري لزيارة المتهم في
السجن، والحصول على توكيل منه لرفع قضية على الحكومة، بل أكثر من ذلك، تطلب منه
نانسي التوقيع من أجل مقاضاة الحكومة ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد،
والرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. من هنا تعتبر قضية ولد صلاحي من أكثر القضايا شهرة
وإثارة للقلق في أمريكا.
في المقابل، يطلب من المحامي في البحرية الأمريكية الكولونيل ستيوارت كوتش
(كومبرباتش)، تولي الدفاع عن قضية الحكومة، فيسير على خط نانسي نفسه، إنما كل واحد
منهما يمشي باتجاه، وكل منهما يكتشف مفاجآت تغيّر مجرى الأبحاث والأحداث. يطلب
الملفات كاملة، فإذا به أمام أوراق كل ما كتب فيها غير مقنع، مجرد «شائعات»
وأقاويل بلا مستندات حقيقية تدعمها، ولا أي دليل، أو إثبات واحد يمكن إدانة المتهم
به. ثم يعرف ستيوارت أن المعلومات الحقيقية مخبأة في ملفات أخرى سرية لا يمكن
الاطلاع عليها سوى من قبل جهاز المخابرات، لكنه يعرف كيف يتسلل من خلال أحد
أصدقائه، ليكتشف عمق وبشاعة الجرائم التي ترتكبها حكومة بلده بحق هؤلاء الأبرياء.
الفيلم يعرض بعض من مراحل التعذيب التي تعرض لها المتهم، منها جلسات الكهرباء
والضرب والتعرية والاعتداء والاغتصاب. استجواب يستمر 18 ساعة يومياً، وعلى مدى
ثلاثة أعوام، تهديد بسجن أمه، وتعذيبها هي أيضاً في «جوانتانامو»، كي يتمكنوا من
سحب اعتراف منه يقر فيه بأنه هو من خطط ووقف خلف العمليات الإرهابية في 11 سبتمبر/
أيلول. الأوراق التي تقرأها نانسي ما هي إلا اعترافات ولد صلاحي بالحقيقة كاملة
وأرسلها لها، بينما المعلومات نفسها قرأها الكولونيل في ملفات سرية محفوظة لدى
ال«أف بي آي» ولا يمكن الاطلاع عليها.
ومن أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً في الجمهور، تلك التي يسمح فيها لمحمدو ولد
صلاحي بالمثول أمام المحكمة عبر الكاميرا التي تصوره بنقل مباشر من «جوانتانامو»
إلى أمريكا، ليمثل أمام القاضي وبحضور محامي الدفاع عنه، ومحامي الدفاع عن الدولة
في 14سبتمبر/ أيلول 2009 قال فيها إنه وثق بالعدالة الأمريكية، لكنه لم يتخيل أن
يسجن ثماني سنوات بلا محاكمة، وأن تمارس عليه أمريكا تلك الألاعيب والضغوط
والتخويف والتعذيب. وقال: «لم يغفر لي السجانون أخطاء لم أرتكبها، لكنني أسامحهم..
هذا ما يريده الله منا».
وقوله إنه لا يحمل أي ضغينة تجاه من عذبوه، لأن، باللغة العربية،
كما يقول «الحرية والتسامح يشكلان كلمة واحدة».
الفيلم يقدم صورة طيبة ونقية عن الشاب المسلم المتسامح الطيب، بينما أمريكا تمارس
العنصرية واللاإنسانية بشكل بشع، والقمع والرقابة على كل كلمة يكتبها أو يقولها
المسجون.
***
ولد صلاحي مهندس متدين تخرج من هامبورغ بألمانيا، لم يكن إرهابي
ولا مجرما بل كان إنسان طبيعيا معتدلا متسامحا .
زار أفغانستان بناء على الدعاية الغربية التى كانت تنشر فى المحطات
الرسمية وتطلب من المسلمين مساعدة إخوانهم فى أفغانستان، كانت الحكومات الغربية
توفر منصات الإعلام بكل اللغات لاستقطاب مسلمين يحاربون فى معركتها ضد الاتحاد
السوفيتى، وتوفر لهم الدعم التدريبى، وتوفر لهم سبل الانتقال من بلدانهم الأصلية أو
البلدان الغربية للذهاب الى أفغانستان، فولد الصلاحى مثل الآلاف من المسلمين الذين
ذهبوا بدافع تأثير الإعلام الغربى وبدوافع أخلاقية وعبر وسائل شرعية وقانونية .
وفى الوقت نفسه يكشف الفيلم كيف إن الإدارة الأمريكية أرادت ان
تتخلص من عدد كبير من هؤلاء الشباب الذين شاركوا فى الحرب فى أفغانستان عبر وسائل
متعددة ودول اغلبها عربية ومسلمة أشار ولد الصلاحى لواحدة من هذه الدول وهى الأردن
!!
ورغم قسوة ما فعلته أمريكا فى هؤلاء الشباب المسلمين، فإن الإدارة الأمريكية
للهروب من الاستحقاقات القانونية، عملت على توفير ملاذات آمنة خارج حدود أمريكا
وفى البلدان العربية والإسلامية للتخلص من هؤلاء الشباب دون رقابة أو محاسبة
قانونية من القانون الامريكى.
الفيلم أظهر الفيلم كذلك أن العدالة في الولايات المتحدة الأميركية
عدالة حقيقية وأن الأميركيين شعب عظيم، استطاع رغم آلام الحادي عشر سبتمبر أن يحكم
العقل والعدالة بدل العاطفة والرغبة بالانتقام من إنسان تحوم حوله الشبهات رغم
براءته".
ويعد الفيلم من الأفلام الأكثر جاذبية لعدة السباب :
أولها أنه يحكي قصة حقيقية أبطالها ما زالوا على قيد الحياة،
وثانيها أنه مأخوذ عن قصة كتبها الموريتاني محمدو ولد صلاحي بنفسه عن السنوات ال14
التي أمضاها في سجن «جوانتانامو» مسجوناً بلا أي سبب، أو تهمة واضحة، فقط لمجرد
الشك في أنه على علاقة بالتنظيم الإرهابي، و«ابن لادن»، شاهداً على التعذيب
والترهيب، وكل المخالفات التي ارتكبتها السلطات الأمريكية بحق 779 سجيناً في
المعتقل الشهير، لم تتم إدانة إلا ثمانية منهم، بينما اعتُقل الآخرون من دون أن
تنسب إليهم أي تهمة، ولا تمت محاكمتهم. وولد صلاحي واحد من هؤلاء المعذبين، لكنه
يختلف عنهم بجرأته على كتابة ما حصل معه بالتفاصيل.
***
لكن الأهم فى موضوع الفيلم هو السؤال : الأمن أم الحرية؟
الأمن والحرية صنوان لا ينفصمان. فبدون الحرية والديمقراطية لا
يتحقق الأمن والسلام الاجتماعي وبدون الأمن تصبح الحرية والديمقراطية بلا معنى.
في إطار حملتها الأمنية لمكافحة الإرهاب تسعى الحكومات إلى اتخاذ
إجراءات أمنية وقانونية للحيلولة دون وقوع هجمات إرهابية على أراضيها ولمكافحة
مختلف النشاطات الإرهابية وتجفيف منابعها.
ويدور الجدل في الأوساط السياسية والأمنية والقانونية حول الحدود
التي تفصل بين مكافحة الإرهاب وبين ضمان الحريات في هذه الدول بما في ذلك الدول
"الديمقراطية". ففي الوقت الذي يرى البعض ضرورة التنازل عن بعض الحريات
الشخصية لصالح حماية المجتمع وصون حرياته، يرى البعض الأخر أن الحريات الشخصية هي
جزء لا يتجزأ من منظومة قيم النظم الديموقراطية التي لا يمكن التنازل عنها أو عن
جزء منها، وبان حماية الحرية لا يمكن أن تتحقق من خلال تقييد الحرية نفسها. وقد
لجأت الحكومات الغربية مثلا إلى إتباع وسائل قانونية وأمنية تتعارض تماما مع القيم
الديمقراطية ولا تختلف عن تلك المتبعة في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. وقد
أصبح الباحثون عن الحرية في ذلك الغرب الديمقراطي الرحب متهمين من قبل السلطات
والمجتمع بأنهم قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت.وهم غالبا مدانون حتى يثبتون
براءتهم بأنفسهم. جاليات معينة تخضع للمراقبة والمضايقة. أحكام مسبقة على أشخاص
بسبب اللون، الجنسية، الديانة والهوية.
إن الحرية تتجلّى فى أشكال عديدة، فى حرية التعبير، وحرية
الاجتماع، وحرية إنشاء الأحزاب والجمعيات، وحرية الاعتقاد، وغيرها. كل من هذه
الحريات والتآلف فيما بينها هو الذى يؤدى إلى إقامة نظام عام صحّى وإلى صونه
والحفاظ على الأمن. كل قيد على الحرية لا بدّ أن يكون محددا فى مداه ومدّته وأن
يهدف إلى تعزيز ممارسة الحرية فى معناها المتآلف.
مفهوم الحرية على أنها حق يوضع أيضا فى مقابلة مع حقوق أخرى، هى
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الحرية وغيرها من الحقوق المدنية
والسياسية للبشر، مثل الحق فى الحياة، والحق فى محاكمات عادلة، والحق فى صون
خصوصية الناس، والحق فى الاشتراك فى إدارة الشئون العامة، هى على نفس مستوى الحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هى لا تعلو عليها. لا شك فى ذلك.
0 تعليقات