نصر القفاص
يطلق عدد من المؤرخين على عام 1907, عام "الأحزاب والنادي الأهلي"
باعتباره العام الذى انطلق منه المصريين لإنشاء أحزاب.. ولأن الصحوة كانت نتيجة
فهم واضح وعميق.. جاء التعبير عنها مذهلا لسلطتى الاحتلال – العثمانى والانجليزى –
فبدأ كل منهما محاولاته للالتفاف على هذه الصحوة واستيعابها.. قبل الذهاب إلى
إجهاضها.. يكشف ذلك ملامح خريطة الأحزاب التى انطلقت "النخب" فى تشكيلها.
المعلومات وبعض تفاصيلها تكشف عمق "أزمة الديمقراطية"
وحقيقة موقف الشعب المصرى من "قضية الأحزاب".. فإذا كان "الحزب
الوطنى المصرى" قد تم تشكيله برؤية وطنية, وأهداف واضحة.. وقام على قيادته
رموز قدمت أفكارها ومواقفها للرأي العام.. فإن غيره من الأحزاب قامت على أرضيات
مختلفة, ولأصحابها مآرب شتى.. تفاوتت أسباب قيام الأحزاب, ما بين التقرب إلى
الاستعمار أو الخديوى.. وصولا إلى تشكيل كيانات تحمى مصالح أصحابها.. وبينهما كان
هناك من يحاولون استثمار اللحظة التاريخية والمناخ السائد آنذاك.
بدأ تكوين الأحزاب دون وجود قانون يحكم إطلاقها.. كانت العملية
نتيجة تطور الأحداث ونضج الشعور الوطنى.. وتأسست أهم الأحزاب على ضفاف الصحف..
بمعنى أن الصحف كانت البيئة الحاضنة للتيارات السياسية.. لذلك سنجد أن حزب "الإصلاح
على المبادئ الدستورية" قام برئاسته "صاحب" ورئيس تحرير جريدة
"المؤيد" الشيخ "على يوسف".. وتأسس حزب "الأمة"
من أحضان جريدة "الجريدة" التى كان يرأس تحريرها "أحمد لطفى
السيد" لتعبر عن أثرياء وأعيان ومثقفى هذه الفترة.
سبق حزب "الأمة" الجميع من حيث النشأة.. فقد تم إعلان
تأسيسه يوم 20 سبتمبر عام 1907.. ربما لأنه أدرك صعوبة تجنب رياح "الوطنية
المصرية" التى أطلقها "مصطفى كامل" مع "محمد فريد"
وأنهما ذاهبان لا محالة إلى تأسيس حزب.. دعا ذلك "حسن باشا عبد الرازق"
رئيس مجلس إدارة شركة "الجريدة" إلى دعوة الجمعية العمومية للشركة – 50
عضوا – وتم الإعلان عن تحويل الشركة إلى حزب – الأمة – وبعدها تم إعلان
"محمود باشا سليمان" رئيسا للحزب – والد محمد محمود رئيس الوزراء الأسبق
– وتولى "حسن باشا عبد الرازق" منصب وكيل الحزب – والد الشيخ على عبد
الرازق – ومعه وكيلا – أيضا – "على باشا شعراوى" والذى كان واحدا من
ثلاثة قام بهم وعليهم "الوفد المصرى" فيما بعد.. وتم إعلان "أحمد
لطفى السيد" سكرتيرا دائما – أمينا عاما – إلى جانب رئاسته لتحرير
"الجريدة" وأطلق مؤسسو الحزب على أنفسهم "أصحاب المصالح الحقيقية"
ردا على سلطات الاحتلال الانجليزي.. ففى هذا الزمان كان الاحتلال يتهم من يناهضون
وجوده, بأنهم ليسوا أصحاب مصالح حقيقية فى البلاد.. وكان أصحاب هذا الحزب من الذين
التفوا حول "محمد عبده" بعد عودته من المنفى.. وكانوا يدعمونه وقت أن
تولى منصب "مفتى الديار" حتى رحيله عام 1905.. والإشارة مهمة لتوضيح
تأثرهم بمنهجه بعد ان راجع تجربته مع "الثورة العرابية" واختار الدعوة
للإصلاح عبر التنوير.. لذلك سنجد أن حزب "الأمة" أوضح اتجاهه الفكرى
والسياسى, بأن تحقيق الاستقلال لا يتحقق بالكلام!! واختار الحزب أن يكون مهادنا
للدولة العثمانية, ومؤيدا "للخديوى عباس الثانى" بوضوح.. وتراوحت مواقفه
من الاستعمار الانجليزى بين المهادنة والجفاء.. دون الذهاب إلى حالة عدا واضحة!!
وكان "أحمد لطفى السيد" هو عقله المفكر, وصاحب المنهج الذى قام عليه
الحزب.. كما أنه وضع سياسة تحرير "الجريدة" للحد الذى جعل عدد من
المؤرخين يذهب إلى القول بأن الحزب كان فكر "أحمد لطفى السيد" الذى
اختلف مع فكر "مصطفى كامل" القائم على "الاستقلال التام أو الموت
الزؤام" من الاحتلال الانجليزى!!
صحيح أن حزب "الأمة" سبق "الحزب الوطنى
المصرى" من حيث تاريخ إعلان التأسيس بأيام قليلة.. وجاء إعلان تأسيس حزب
"الإصلاح على المبادئ الدستورية" بعده بأيام قليلة – أيضا – فقد تم
إعلان تأسيس الحزب يوم 9 ديسمبر عام 1907.. تولى رئاسة الحزب الشيخ "على
يوسف" رئيس تحرير "المؤيد".. وتولى "أحمد باشا حشمت" منصب
وكيل الحزب.. والذى أصبح يشار إليه بأنه كان أول وزير حزبى فى تاريخ مصر, حين تولى
نظارة – وزارة – الحربية فى حكومة "بطرس باشا غالى".. وتشير قرائن عديدة
إلى أن "الخديوى عباس الثانى" كان وراء هذا الحزب تماما.. منها أن كبار
الأعيان من أصول تركية انضموا إليه.. كما انضم إليه العازفين عن ممارسة السياسة,
من المقربين جدا للخديوى.. إضافة إلى اهتمام الحزب وتركيزه على شكل إعلانه.. فقد
قام الحزب بإرسال خطاب لوزير الداخلية بتفاصيل التأسيس وتشكيلة الحزب.. وفى اليوم
التالى صدرت جريدة المؤيد" بعنوان رئيسى يقول: "الإصلاح أول حزب يستوفى
شروط الأحزاب السياسية"!
الحقيقة أنه لم تكن هناك شروط.. ولا كان هناك قانون للأحزاب.
لكن الحزب أراد التأكيد على هذا الحرص تجنيا لغضب الانجليز, تجاه
"الخديوى" الذى ذهب فى اتجاه رياح تطالب بممارسة الديمقراطية!! لذلك
سنجد أن أفكاره التى تمثل برنامجه, قامت على دعم السلطة الخديوية.. ثم مطالبته –
مجرد المطالبة – لانجلترا بتنفيذ وعودها لمصر!!
كانت تلك هى الأحزاب الثلاثة البارزة فى التجربة الحزبية الأولى فى
مصر.
إستمر "الحزب الوطنى المصرى" حتى قيام "ثورة
23 يوليو" أما حزبى "الإصلاح" و"الأمة" فقد اندمجا
وأصبحا حزب "الأحرار الدستوريين" فى أعقاب "ثورة
1919".. واستمر – أيضا – حتى قيام ثورة يوليو.. لكن الإشارة ضرورية ومهمة إلى
أحزاب أخرى ظهرت فى الوقت نفسه.. ومهما كانت هامشية أو لم تترك أثرا يلفت
الانتباه, فالتوقف أمامها شديد الأهمية.. فهذه الأحزاب وبرامجها تكشف حجم الرغبة
المصرية لتأسيس تجربة ديمقراطية منذ أكثر من قرن.
ضمن هذه الأحزاب.. كان "الحزب الجمهورى" وأعلن
القائمين عليه أنهم ينادون بإعلان مصر "جمهورية" على أن يحكمها
"ولى النعم أفندينا الخديوى المعظم"!!
ومن جانبه أعلن
"أخنوخ فانوس" عن تأسيس حزب أسماه "المصرى" وطرح
أفكارا علمانية تدعو إلى فصل الدين عن السياسة.. وطالب فى برنامج نشرته الصحف
بضرورة أن يكون هناك دستور ومجلس نيابى, وأنه يتبنى ذلك النهج.. وطالب بإلغاء
التمييز بين الجنسين.. لكنه دعا إلى تشكيل المجلس النيابى على أساس طائفى.. لذلك
ولد متهما بأن "المندوب السامى البريطانى" وراءه!!..
وظهر – أيضا – الحزب "الاشتراكي الديمقراطي المبارك"
وأسسه الدكتور "حسن جمال الدين" وكان الحزب يعلن انحيازه للفلاحين,
ويطالب بتحسين أحوالهم.. وكان أول من طالب بتحديد ساعات عمل للفلاحين, وحقهم فى
نصيب عادل من عائد الأرض.. وطالب الحزب بمنح معاشات للعجزة والمرضى.. وطرح لأول
مرة منع تشغيل النساء فى الأعمال الشاقة.. وتبنى تحديد سلطة "عمدة" كل
قرية ومنعه من التحكم فى أهلها!!
قائمة أحزاب "المرحلة الحزبية الأولى" تضم حزبا رفع شعار
"المسالمة" واختار لنفسه اسم حزب "الأحرار" وكانت
رؤيته تقوم على ضرورة "مسالمة المحتلين" وتنبيههم بالحسنى إلى ما يرى
فيه فائدة لمصر وأهلها!! وجاء فى برنامجه: "مسألة الأجانب من سكان القطر
المصرى على اختلاف مللهم.. يجب أن نعتبرهم أخوة لنا.. لهم ما لنا وعليهم ما
علينا"!!.. وكان الحزب تفوح منه بوضوح رائحة "اللورد كرومر"!!
وكذلك كان "الحزب الدستورى" الذى أسسه "إدريس بك راغب"
الذى يحفظ لقبه أهل اسكندرية.. وجاء فى برنامج الحزب أنه: "نحترم ونجل حقوق
الحضرة الفخيمة الخديوية وامتيازاتها.. كما نحترم كافة حقوق السلالة الخديوية
الكريمة" ثم أوضح موقفه من الاستعمار الانجليوى: "تتفق أفكارنا مع أفكار
جمهور من ساسة الانجليز, ونخص منهم بالذكر جناب اللورد كرومر"!!
واضح – وفق فهمى ورؤيتى – أن "مصطفى كامل" ترك أثره
الواضح على عملية إطلاق الأحزاب فى مصر لأول مرة.. فقد تحرك "الخديوى"
بدعم أكثر من حزب.. وتحرك "المندوب السامى البريطانى" لإطلاق أحزاب أخرى
تلعب أدوارا فى مواجهة تيار "الوطنية المصرية" وواضح أن أفكار الجمهورية
والاشتراكية.. كانت مطروحة فى المجتمع المصرى, قبل سنوات طوال من ولادة قادة
"ثورة 23 يوليو".. والواضح أن نضج الثمرة أزعج الاحتلال, الذى راح يدرس
ويفكر فى قتل هذا "الجنين" قبل ولادته.. فقد كانت المطالبة بالديمقراطية
ودستور للبلاد, سببا رئيسيا فى احتلال البلاد من جانب الانجليز بتواطؤ – ميثاق
النزاهة – مع الاستعمار العثمانى!!
تحركت سلطات الاحتلال بسرعة.
صدر يوم 25 مارس عام 1909 قانون جديد للمطبوعات.
إذا كانت الصحف قد أصبحت بيئة حاضنة لإنشاء أحزاب.. فيجب ضرب هذه
الصحف.. وضربها يكون بالقانون تقديرا لمعايير المجتمع البريطانى!! صدر القانون
بتوقيع رئيس مجلس النظار – الوزراء – "بطرس غالى" باعتباره وزير
الداخلية فى الوقت نفسه.. وبموجب القانون يتم إحالة الصحفيين إلى محاكم الجنايات,
وإلغاء إحالتهم إلى محاكم الجنح – الابتدائية – باعتبار أن الحرية جريمة!!
انطلق "القانون" الجديد للمطبوعات فى مطاردة الصحف
لخنقها!
أكتشف الانجليز أن الصحف هى الشباك الذى يمكن أن تدخل منه
"الديمقراطية" وهى خط أحمر للمستعمر والمستبد!! وبموجب هذا القانون تم
إغلاق جريدة "القطر المصرى" التى كان يرأس تحريرها "أحمد
حلمى" وكانت واحدة من صحف عديدة تتبنى نهج "الحزب الوطنى المصرى"..
وصدر قرار الإغلاق يوم 23 يناير عام 1910.. بعدها صدر قرار إغلاق جريدة
"العلم" التى كان يصدرها الحزب نفسه يوم 7 نوفمبر عام 1912.. وما بين
التاريخين توالت قرارات تعطيل وإيقاف لفترات.. ثم طارد القانون عددا من كبار
الصحفيين.. كان أبرزهم الشيخ "عبد العزيز جاويش" رئيس تحرير
"اللواء" وأحد أقطاب الحزب نفسه.. نال نصيبه من السجن مع "أحمد
حلمى" وكاد "محمد فريد" أن يتعرض للسجن.. لكنه اختار الهرب من مصر,
لمواصلة كفاحه ودوره من الخارج.. وعاش لسنوات متنقلا ما بين "إسطنبول"
و"باريس" و"برلين" و"جنيف" حتى مات مريضا.. فقيرا..
فى "ألمانيا!!..
وعاش "الحزب الوطنى المصرى" بعدها, إلى أن قامت
"ثورة 23 يوليو" لكنه كان الحزب الوحيد الذى حاربه الاستعمار بضراوة..
وكان الحزب الوحيد الذى كرمه قادة ثورة يوليو ووثقوا فى قياداته.. وذلك مشوار يجب
أن نتوقف أمامه..
يتبع
0 تعليقات