محمود جابر
فى الجزء السابق تناولنا فى البحث آيات القرآن التى تحدثت عن قضية
الردة ومدار الآيات التى تتحدث عن عذاب أخروي تربط سبب العذاب ليس بالردة فى حد
ذاتها بل بدوافعها التى تشمل العناد والبحث عن مصلحة مادية، وعليه فكل من كان دافع
الردة لا يشمل نفعا ولا عنادا لا يشمله العاب الاخروى.
كل الآيات السابقة لم يدر فيها تصريحا ولا تلميحا بعقوبة دنيوية،
من قبيل التعزير والحبس والقتل والتفريق ونحوه مما ورد فى كل كتب الفقه، التى بنت
تلك الأحكام على الرواية الحديثية وليس النص القرآنى.
هناك مساحة كبيرة وواسعة يشترك فيها المرتد مع المنافق فى الوصف،
مثل الكفر بعد الإيمان... ومع هذا امسك النبى عن المنافقين ولم يصلنا حكما من
النبى على مرتد.
والآيات واضحة وضوحا لا لبس فيه فى قبول توبة المرتد، فى حين أن
الايات لا تقبل توبة المنافق، ولا يوفقه الله إليها، ومع هذا فالمنافق لا عقوبة
عليه .
وهنا سوف ننتقل الى الشق الاخر من البحث فى الروايات الحديثية التى تناولت هذه
القضية :
روايات الردة:
1 ـ عن ابن عباس: ارتدّ رجل من الأنصار فلحق بالمشركين، فأنزل الله
عَزَّ وَجَلَّ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ … إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا}، فكتب بها قومه
إليه، فلما قرئت عليه، قال: «والله ما كذبني قومي على رسول الله، ولا كذب رسول
الله على الله، والله أصدق الثلاثة، فرجع تائباً إلى رسول الله، فقبل ذلك منه
وخلّى سبيله».
السنن الصغرى 3: 281؛
سنن الترمذي 7/10 .
2 ـ ارتدَّ نبهان عن الإسلام، فاستتابه رسول الله، فتاب وخلّى
سبيله، فارتدّ ثانية، فاستتابه فتاب وخلّى سبيله، وفي الثالثة أو الرابعة دعا عليه
أنْ: اللهم مكنّا من نبهان والحبل في عنقه، فحمل إلى رسول الله على تلك الحالة،
فأمر النبي بقتله، وعندما اقتيد للقتل مال برأسه إلى من يقوده وهمس له بشيءٍ، فقال
رسول الله : «ماذا قال؟» فقال الرجل: أنه يقول أني مسلم وأقول أشهد أن لا إله
الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأمر رسول الله’ بإخلاء سبيله. وروى البيهقي في السنن الكبرى برقم 16610
وهذا يدلّ على أن المرتد مهما تكرر الارتداد منه عن الإسلام، ثم
يتوب لا يقتل.
3 ـ ارتدت امرأة يقال لها أُمُّ مروان، فأمر النبي أن يعرض عليها
الإسلام، فإن رجعت وإلا قتلت، فعرضوا عليها، فأبت فقتلت. السنن الصغرى 3: 278.
وقفات مع روايات أخر في عقوبة المرتدّ
1 ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد
جميعاً، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رَزين، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر×
عن المرتد فقال: «من رغبَ عن الإسلام وكفر بما أنزل الله على محمد بعد إسلامه فلا
توبة له، وقد وجبَ قتله وبانت منه امرأته ويقسّم ما ترك على وُلْدِه». الكافي 1: 256/7.
سند الحديث معتبر حتى مع ورود سهل بن زياد فيه، وقد ضعّفه أكثر
الرجاليين، إلاّ أنّ رواية عددٍ من الأصحاب الثقات يقوّي حديثه، ومن جهة أُخرى ففي
طبقته إبراهيم بن هاشم، والد علي بن إبراهيم، وقد نقلا هذا الحديث عن ابن محبوب.
وأما دلالة الحديث فأولاً: لا ينبغي الوقوف عند ألفاظ هذا الحديث،
فعدم الدقّة في التعبير ووضع الغالب فيه موضع التام ملحوظ، إذ إنّ عبارة «ويقسّم
ما ترك على ولده» غير دقيقة، والصحيح «يقسّم ما ترك على ورثته» ليشمل الزوجة
والوالدين، ولو عدموا فالإخوة والأخوات وهكذا، ولكن بما أن الرجل في العادة يكون
له أولاد، وعند موته لا يكون أبواه على قيد الحياة، يتسامح في التعبير، فيعبّر
بولده بدلاً من ورثته.
وعلى هذا المنوال يمكن النظر إلى تعريف المرتد وسائر الأحكام
الواردة في هذه الرواية، وعليه يمكن أن يكون المراد: إنّ هذه الأحكام إنّما تجري
بعد تنفيذ حكم الإعدام، لا في صورة فراره أو العفو عنه وما إلى ذلك.
ثانياً: لفظ «رغب عن» يعني الإعراض والكراهية التي إنّما تحصل عندما
يتعرّف الفرد على الشيء ولا يراه موافقاً ومنسجماً مع عقله وعاطفته، وعليه يكون
الجاهلون بالإسلام خارجين عن موضوع الارتداد.
ثالثاً: قيد «بعد إسلامه» وكذلك «الكفر» يعطينا معنىً دقيقاً، فالكفر
يعني التغطية، فلابد أن يكون هناك شيء حتى يمكن للكافر تغطيته، وبديهي أن المرتد
لم يغطِّ ظاهر القرآن الخارجي، فلابد من القول: إنه قد ارتكزت في ذاته حقيقة
وحقانية القرآن، وقام الكافر بتغطية تلك الحقيقة، وفي الواقع إنّ الكفر بما نزل
على النبي’ يعني تغطية تلك الحقيقة، وما دامت المسألة خافية على الفرد لا تتخذ شكل
الحقيقة. وإنّ «بعد إسلامه» تعني بعد الاعتقاد به، وعليه عندما يثبت لشخص أن ما
أنزل الله على نبيه حقّ، واعتقد بذلك، ثم كفر بما ثبت لديه واعتقده يكون ذلك منه
عناداً محضاً للحق الواضح.
من هنا فإنّ هذا الحديث كالآية الخامسة والعشرين من سورة محمد،
وبعض ما تقدم من الآيات الأخرى تشترط التبيّن للارتداد، فيخرج ذوو الشبهات
الكثيرة، مثل أكثر الناس في العصر الحاضر، ولم يتضح لهم الإسلام بعد، يخرجون من
موضع الارتداد.
رابعاً: عبارة «فلا توبة له» يبدو أنه أُسيء فهمها، إذ قالوا: «لا توبة
له عند الحاكم» أو أنه عند الله أيضاً؟ في حين أنها لنفي الجنس، أي أنه لا وجود
للتوبة لمثل هذا الشخص، فالتوبة تعني الرجوع والعودة، وهي إنّما تصدق على من يضل
الطريق ثم يدرك ضلالته فيعود، وأما حينما تتضح حقانية الدين الإسلامي له، واعتقد
بذلك ثم يأتي ويكفر بما اعتقده عناداً واستكباراً فلا توبة له، إذ لم يكن ما قام
به عن جهالة، بل تعمد أن يسلك طريق الضلالة بعد اتضاح الحق له ولم تكن لديه أي
شبهة.
وعليه توضح عبارة «لا توبة له» موضوع المرتد، فهو الذي لا تُتصور له توبة ، ويبدو
أن مثل هذا الفرد المعاند المناهض للحق، يعدّ فاسداً عند جميع العقلاء، ويتفق
قولهم على وجوب قتله، إذن وجوب قتله ليس حكماً تعبدياً شرعياً يثبت قسوة الإسلام،
بل هو حكم يوافق رأي العقلاء وبناءهم.
2 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن
بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبدالله ع أنّ رجلاً من المسلمين تنصّر، فأتي به
أمير المؤمنين ، فاستتابه فأبى عليه، فقبض على شعره ثم قال: طأوا يا عباد الله،
فوطئ حتى مات. الكافي 2: 256/2.
تقدّم أن ذكرنا عدم تمامية سند هذا الحديث؛ لعدم توثيق موسى بن بكر
عند الرجاليين، مضافاً إلى أن مضمونه يتنافى وأحكام الشريعة، وما نعلمه من الإمام
علي، فلا وجود للقتل بالوطء في الشرع، ولم يفتِ أحدٌ من فقهاء الشيعة والسنة بقتل
المرتد بهذه الطريقة.
إشكال: استقر لدى الفقهاء إنّ حدّ الزانية المحصنة الرجم، وحدّ
اللواط هو القتل بالرمي من شاهق أو هدم جدار عليه ونحو ذلك، فما الضير في أن يكون
قتل المرتد بالوطء من هذا القبيل؟
جوابه: أولاً: إنّ هذا الحديث ضعيف السند، وثانياً: إنّ رجم المحصنة قد تبيّن من
الشرع بخلاف وطء المرتد، وعليه لا يمكن لهذا المورد أن يشكّل صغرى أو مصداقاً
للموارد الموجودة في الشرع.
وبعبارة أخرى: إنّ الموارد الموجودة في الشرع من هذا القبيل نادرة جدّاً، فهي خلاف
القاعدة والقانون الأولي، وكلما كان هناك دليل حمل على مورده، وما لم يكن هناك
دليل قطعي لا يصار إليه.
وبعبارة أوضح: إنّ الأُمور المنافية للطبع والعاطفة إنّما تنسب إلى
الشرع إذا ثبتت بالسند المتواتر أو المقارب للتواتر.
3 ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن غير واحدٍ من
أصحابنا، عن أبي جعفر وأبي عبدالله ع في المرتد يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل،
والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت ورجعت وإلاّ خلّدت في السجن وضيّق
عليها في حبسها. الكافي 3: 256/7.
سند الحديث جيد، ومضمونه يفرّق بين المرتد والمرتدة، إلا أنه
كالأحاديث السابقة يشتمل على كلمات لا يمكن استنباط حكم قتل المرتد منها بسهولة،
فمن البعيد أن يكون معنى كلمة «يستتاب» أو «استُتيب» أمراً للمرتد بالتوبة. إذ في
هذه الحالة لا نحتاج إلى استتابة المرتد من قبل إمام المسلمين أو الحاكم الشرعي،
بل يكفي أن يستتيبهُ جندي بسيط، فإن لم يتب نال جزاءه.
فيبدو أن استتابة المرتد يجب أن تكون من قبل شخص عالم بجميع
الأحكام الإسلامية، كإمام المسلمين، بأن يجيب عن شبهات المرتد ثم يطلب منه الرجوع
إلى الإسلام، فإن امتنع قتل، وأمّا إذا كان ذهنه مفعماً بالشبهات في أصول الدين وفروعه
وتطبيقاتهما، ولديه إشكالات حول سلوكيات المسلمين وما إلى ذلك، تغدو استتابته
فاقدة للمعنى.
وببيان آخر: إنّ الآية السادسة من سورة التوبة تقول: {وَ إِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}
فهذه آية عامة تثبت عدم الحكم بالقتل ما دام هناك جهل، فلابد من إزالة الجهل، وما
دامت هناك شبهة لم يُجب عنها لا يمكن عدّ المرتدّ عالماً. وبعبارة ثالثة: إنّ
المرتد إذا لم تكن لديه أيّة شبهة وكانت أحقّية الإسلام واضحة عنده، ومع ذلك يخرج
عن الإسلام، فهو معاند، ويجوز قتله عند جميع العقلاء، وأما إذا كانت لديه شبهة فإن
البيان الوارد في ذيل الآية السادسة في سورة التوبة يحول دون قتله، مضافاً إلى أنّ
كلمة «يُستتاب» إنّما تصدق يقيناً إذا طلبت التوبة منه بعد الإجابة عن شبهاته.
سؤال: ما هو سبب التفريق بين المرتد المرتدة؟
جوابه: ربما لكون المرأة أضعف عنصرٍ في المجتمع، فقد منحت شيئاً من التخفيف، أو
ربما لقوّة عاطفتها، لا تعود إلى الإسلام بعد حلّ شبهاتها بسبب الضغائن الشخصية،
لذا تحبس ليمضي وقتٌ تخفّ معه حدّة عاطفتها وتعود إلى الإسلام ويخلّى سبيلها.
سؤال: لماذا اختير للمرأة الخلود في الحبس؟
جوابه: يبدو أن تخليدها في الحبس منوط بإصرارها على الكفر، وإلاّ فمجرد رجوعها إلى
الإسلام يلغي حبسها.
4 ـ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد،
عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله ع في
الصبي يختار الشرك وهو بين أبويه؟ قال: «لا يترك، وذلك إذا كان أحد أبويه نصرانياً». الكافي 4: 256/7.
فيما يتعلق بسند الحديث لم يرد مدح أو ذم في القاسم بن سليمان، برغم وجوده في تسعة
عشر ومئة سندٍ، وقد ورد في إسناد تفسير علي بن إبراهيم القمي. معجم رجال الحديث 20: 5114/22.
وكذلك يبدو أنّ مراد الرواية أنّ والدَي الطفل إذا لم يكونا مسلمين، وكذلك الطفل
لم يكن مسلماً، كسائر الأطفال في البلدان غير الإسلامية امتيازاً للولد، وعليه لا
ينبغي أن يترك، بل لابد من محاورته ونصحه وبيان الإسلام له، وبطريق أولى إذا كان
كلا والديه مسلماً، وأمّا عبارات الحديث ففيها إشكالات تحول دون التمسّك بعين
ألفاظه، فمثلاً: إذا كان أحد الوالدين نصرانياً والآخر مسلماً، فكيف يكون الولد
مشركاً؟ فهل لفظ (مشرك) ورد سهواً أو لفظ (نصراني)؟ أو هناك توجيه آخر؟
وقريب منه الرواية الآتية، وهي السابعة في الباب ومضمونها كالآتي:
5 ـ حُميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد من
أصحابه، عن أبان بن عثمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله ع في الصبي إذا شبّ
فاختار النصرانية وأحد أبويه نصراني أو مسلمين؟ قال: «لا يترك ولكن يضرب على
الإسلام». الكافي 7: 257/7.
وهو حديث مرسل، ولكن هل يضرب حقيقة، أي يجبر على الإسلام بالقوّة؟!
فلدى الشباب حمية وعنفوانٌ، وغالباً ما يكون الضرب دافعاً له نحو التمرّد،
والإسلام لا يروم دفع الناس إلى التمرّد.
6 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن
جميل بن دراج وغيره عن أحدهما‘ في رجل رجع عن الإسلام؟ قال: «يستتاب فإن تاب وإلاّ
قتل»، قيل لجميل: فما تقول إن تاب ثم رجع عن الإسلام؟ قال: «يستتاب»، قيل: فما
تقول إن تاب ثم رجع؟ قال: «لم أسمع في هذا شيئاً»، ولكنه عندي بمنزلة الزاني الذي
يقام عليه الحدّ مرتين، ثم يقتل بعد ذلك، وقال: روى أصحابنا أنّ الزاني يقتل في
المرّة الثالثة. الكافى 5: 256/7.
سند الحديث صحيح، وصدره كالحديث الثالث، إلاّ أنّ تصوّر تكرار
الارتداد والتوبة منه وفقاً للمبنى الذي شرحناه مشكل، إذ لو بُيِّنَ له الإسلام
جيداً، فإمّا أن يقتنع وإمّا أنّ يرفض، إلاّ إذا كان مرهف المشاعر شديد العاطفة،
فيقبل الإسلام متأثراً بأحاسيسه، وكذلك يخرج من الإسلام لتأثير نفس الأحاسيس،
وعندها لا يكون اجتهاد جميل بن دراج صحيحاً، ولا يقتل في المرّة الثالثة أو
الرابعة، وفي الحقيقة نظر جميل إلى المسألة من زاوية الجرح والمجرح، وقاس مسألتنا
على الزاني، في حين نرى أن الفرد إذا كان عاقلاً ومالكاً لزمام عواطفه، لا يكون
هناك معنىً لارتداده المتكرر، فإذا تكرر منه الارتداد اتضح أنه مريض، وليس مجرماً،
وعليه لا يستحق العقوبة لأنه مرفوع عنه القلم.
خلاصة
البحث :
لم تذكر عقوبة القتل كحد للردة في القرآن كما مر، ورغم أن القرآن تحدث عن الردة في
أكثر من آية، إلا أن أيا منها لم تشر إلى عقوبة القتل. فكيف يذكر القرآن حدودا أقل
درجة (السرقة، الزنا، القذف..)، ولا يذكر حدا على درجة عالية من الخطورة عقوبته
القتل؟
آيات القرآن تناقض حد الردة. ورد في القرآن العديد من الآيات التي
تنص صراحة على حكم مخالف لحد الردة. فلمَ لا يؤخذ بها ويؤخذ بأحاديث نبوية رغم
الملاحظات الواردة حولها؟
من هذه الآيات: (لا إكراه
في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة، 256، وقوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن
شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) 29الكهف، وقوله تعالى (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا
مؤمنين)99 يونس...
مخالفة النبي نفسه للأحاديث التي يستند عليها مؤيدو حد الردة في
حالات عديدة. ففي صحيح مسلم أن أعرابيا بايع على الإسلام ثم جاء إلى النبي يطلب
التراجع قائلا "أقِلْني بيعتي" (أي اعفني من البيعة للإسلام التي في
عنقي)، ولم يأمر النبي بقتله وتركه يذهب لحاله.
ومعلوم أن الحدود لا يمكن إسقاطها في الإسلام، فلو كان للردة حد
شرعي لما أمكن للنبي أن يترك الأعرابي دون أن يقتله. يعني هذا أن الأحاديث التي
تشير إلى قتل المرتد مرتبطة بسياقات خاصة (المرتد المحارب) ما دام النبي نفسه لم يلتزم بها في
المطلق، وبذلك تكون عقوبة الرد مماثلة لعقوبة الخيانة العزمى فى العصر الحديث .
قبول الشفاعة في المرتدين. لا تجوز الشفاعة في الحدود في الإسلام،
لذا رفض النبي العفو عن امرأة من قبيلة مخزوم سرقت رغم استعطاف الصحابة له. لكنه
في المقابل، قبل الشفاعة في صحابي بعدما ارتد هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح.
فلو كان حداً لما قبل الشفاعة فيه.
تعامله مع المنافقين: لم يقتل النبي المنافقين بتهمة الردة رغم
معرفته بحقيقة أمرهم. بل على العكس عاملهم معاملة المسلمين، حتى إنه صلى على
زعيمهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكفّنه بقميصه واستغفر له.
موقف النبي في صلح الحديبية: كان أحد شروط قريش أن من يرجع من
المسلمين إلى مكة (وهي تحت سيطرة قريش آنذاك) لا يملك النبي أن يطالب به. فلو كان
هناك حد شرعي للردة لرفض النبي هذا الشرط لأنه يضمن حق الردة الطوعية وأصر على
تطبيق عقوبة القتل في حق المرتدين. وهذا دليل آخر لأن لا تفاوض بخصوص حد من
الحدود، حسب مؤيدي الحدود أنفسهم.
ربط حد الردة بحالة الحرب. الحديث النبوي الذي يُحتج به لتبرير
عقوبة قتل المرتد هو نفسه يوضح أن المرتد المستحق للقتل هو "التارك لدينه
المفارق للجماعة".
فلو كانت الردة هي السبب
الأصلي في القتل لاكتفى النبي بعبارة "التارك لدينه"، ولما كان لعبارة
"المفارق للجماعة" أي معنى. أضف إلى هذا أن هذا الحديث ورد في سنن
النسائي بصيغة أكثر تدقيقا "... ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله فيقتل
أو يصلب أو ينفى من الأرض".
حديث "من بدّل دينه فاقتلوه". يرد علماء أن هذا الحديث
عام جدا ويبدو كأنه مجتزء يصعب معه استخلاص حكم شرعي، فلا يعرف متى قاله النبي
محمد ولا أين قاله ولا في أي شيء قاله!
كما أن عبارة "من
بدّل دينه" لا تعني بالضرورة تحول عنه إلى دين آخر، بل قد تعني حرّف دينه
وغيّر ما جاء فيه من الأصول، كما أن التحول يمكن أن يكون مطلقا هنا، بمعنى، هل
يشمل هذا الحكم أي شخص يبدل دينه مهما كان؟
وعلى هذا الأساس: سيقتل
اليهودي (أو المنتمي لأي دين آخر) إن غيّر دينه إلى الإسلام مثلاً!
حروب الردة. لا يمكن الاحتجاج بحروب الردة كدليل لتبرير حد الردة.
أولا، لأن الصحابة أنفسهم اختلفوا فيها في بداية الأمر، ولو كان
مدعاها هو إقامة حد شرعي لما اعترض بعضهم.
ثانيا، لأن الخليفة أبا بكر لم يقاتل أفرادا مرتدين بل جماعات
أرادت الاستقلال بمناطقها عن الخلافة، بل إن بعض هذه الجماعات كانت تعلن الإسلام
وترفض أداء الزكاة فقط، ومنها من لم يؤمن أصلا، وغيرها من التفاصيل. فلو كانت
الردة حدا ثابتا، كيف أراد بعض الصحابة وقف الحرب وعلى رأسهم عمر بن الخطاب؟
اجتهادات قديمة. يرى بعض قدماء الفقهاء مثل أبي حنيفة وسفيان
الثوري من السنة ، كل جمهور الشيعة، أن المرأة المرتدة لا تُقتل فيما يرى آخرون
أنها تقتل، ما يؤكد عدم وجود نص شرعي قاطع في الموضوع، فالحدود تطبق بحق النساء
والرجال على حد سواء.
ومما سبق يتضح الأمر بشكل جلى وان هذه العقوبة مختلف عليها ولو
كانت حدا إلهيا لما كان هناك خلاف حولها على المطلق .
0 تعليقات