"رأفت السويركي"
"العربية على جناح الإبداع"...
مشاركتي في "الخُلْوة الثقافية للغة العربية"!!
من دون شك أن منطوق موضوع ذلك المحور الذي شاركت في حلقته يعكس إلى
حد كبير أحد وجوه مأزق الصورة الذهنوية المهيمنة لموضوعة اللغة العربية؛ ويبرز
طموح الأجيال المعاصرة؛ ممن تنوء عقولها بثقل الإشكالية التي تواجه "لغة
الضاد" منذ قرون طويلة؛ وقد شغلت موضوعاتها اهتمام الكثيرين من أبنائها
المتفكرين (الراحل الدكتور طه حسين أنموذجاً معاصراً) والذي تم اختياره الشخصية
المحورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022م.
*****
ولعل خصوصية هذا المحور أنها تتعلق بما يمثل العنصر الأساس المهيمن
للخطاب الاتصالوي للعربية في حقول تجلٍّ عريضة كلها حقول عاكسة بأساليبها
ومحمولاتها لحجم الإشكالية التي نظمت من أجلها "الخلوة الثقافية للغة
العربية" والتي جمعت أكثر من 50 مثقفا من مصر والإمارات العربية يوم 28 يناير
2022م بالقاهرة في إطار ست ورش نقاشوية هي:
- العربية في الأدب والدراما والطرب.
- العربية في المحتوى والنشر.
- العربية في التعليم.
- العربية في الخطاب الإعلامي التقليدي والجديد.
- العربية والبحث العلمي والمستقبل.
- إرث عميد الأدب العربي طه حسين.
وقد جمعت الخلوة الثقافية باقة من المتخصصين في حقول اللغة العربية
المختلفة بمكرمات من "مركز أبوظبي للغة العربية"؛ على هامش معرض القاهرة
الدولي للكتاب في دورته الـ53.
ويكفي أن هذا المركز المتميز بدلالة مسماه ومشروعه الثقافوي الكبير
وجهود رئيسه الدكتور علي بن تميم ومديره التنفيذي بالإنابة الأديب الإعلامي سعيد
حمدان الطنيجي يجتهد في إنجاز مشروعه الكبير لحماية ودعم هذه اللغة الكريمة؛ في
ضوء دراسات مستقبلوية تعلن الخشية من تأثيرات أزمنة العولمة المقبلة والتي لا تترك
الفرصة إلا وانتهزتها لقولبة العالم وفق صيغة مستصنعة بشروطها الجامعة والمدمرة
للهويات؛ التي بتنوع وجودها تعطل تطبيق مستهدف "العالم قرية صغيرة".
*****
وفي إطار محور (العربية في الأدب والدراما والطرب) كانت مشاركتي في
هذه الخلوة بالتصور الذي أطرحه في هذه التدوينة؛ والتي أشير فيها إلى أهمية
الآليات العميقة التي لا تزال تمكن اللغة العربية من البقاء فاعلة؛ على الرغم من
تنامي التخوفات من هيمنة الآخر؛ والذي لا يعترف بأية ثوابت ومستقرات؛ فيسعى لفرض
"اللغة العولموية" المتشكلة من "خوارزميات العقول
السيبراناتية"؛ الساعية للهيمنة على الكوكب ومحيطاته من الفضاءات اللامحدودة.
لذلك فما يدعو للفخر والاعتزاز أن "اللغة العربية" كانت
ولا تزال ستبقى وعاء لإبلاغ رسالة الله للبشر الممثلة في "القرآن
الكريم": «إِنَا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ». و
:«بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِينٍ». و: «قُرْآنا عَرَبِيا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ
لَعَلَهُمْ يَتَقُونَ». : « وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا». و:
«كتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنا عَرَبِيا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ». و: «إِنَا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ».
وهذا التخصيص من خالق الأكوان للغة رسالته يوفر لها الحماية
المُسلَّم بها؛ ولكن شريطة عدم تواكل أو دعة أهل هذه اللغة؛ فالرسالة مشروطة بالتفكر
الوجوبوي لأهل هذا اللسان لتحقيق الإبلاغ؛ بدءاً من (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ)؛ وصولاً إلى (﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ﴾. وهنا يمكن أن
يكون مربط الفرس المرتبط بوظائفوية اللغة العربية في خدمة المسألة العقدوية.
*****
إن الوعاء اللغوي للعقيدة في خطابها قد مثَّل خير تجسيد لقدرات
وكيمياءيات تلك الوسيلة التواصلوية؛ بما اشتهرت به من طاقة إبلاغ فائقة غير محدودة
الجماليات والدلالات حين تذوقها؛ وهذا ما جعل أهل اللغة في البداية يلجؤون للقياس
والمشابهة؛ فوصفوا الخطاب القرآني بالشعرية؛ فيرد علهم ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَاعِرٍۢ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ).
لقد نزل القرآن الكريم واكتملت نصوصه ودستوره "رسالة
السماء" كما قال الرسول الأكرم ( رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ)؛
ولكن هذا القرآن لا يزال يختزن ما يؤكد ديمومته إلى قيام الساعة عبر جهود الكشف عن
مكنوناته العميقة والتبيان بالقراءة التأويلوية؛ وتلقي فيوض ما يلقيه الله في
القلوب من تجليات الأصول؛ وكلمة "القلوب" هنا هي المعادل الموضوعوي
للعقول؛ والمرتبطة بالتكليف: "إقرا" والتقرير "يتفكرون"...
إلخ.
إذن تبقى اللغة العربية؛ بل أية لغة تمثل الوعاء الوظائفوي؛ الذي
يُلبي عمليات التفكر في الوجود لينتج خطاباَ إبلاغوياً حاملاً لمقصوده؛ وفق ما
حدده مفهوم ابن جني: "أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم"؛ وما اعتمده
اللغوي الأميركي جورج ترجر: بأنّها "نظام من الرموز المتعارف عليها، وهي رموز
صوتية متعارف عليها، يتفاعل بواسطتها أفراد مجتمع ما في ضوء الأشكال الثقافية
الكلية عندهم".
*****
ومن هنا فإن اللغة حين تكون وعاءاً صوتوياً حُروفوياً لوصف
المعاني؛ فلا يمكن أن تكون بئراً للمعاني غير المستخلقة، أي التي لم تتشكل بعد.
وهذا يعني أن اللغة العربية؛ وأية لغة تُعدُّ كينونةٌ لاحقةٌ للمعاني المنبنية على
المعارف المستولدة بالتفكر والتجربة والاختبارات، وليست سابقة عليها.
إن بنية اللغة هي التي تمنحها القدرة على التكيف، والاحتواء،
والاستيلاد؛ ولكن عبر جهد العقل المنتسب إليها، والذي يُفكِّرُ بها، فيلجَأُ إلى
أساساتها، الحروفوية والصوتوية المتوافرة، ليُشكِّل منها التعبيرَ المستحدث حول
المُتَصَوّر الذهنوي الحادث، لذلك فالأمرُ رهنٌ، بقدرة العقلِ البشروى المنتج
للكلام على بناء تصور المَعاني؛ وإلباسها الصيغ الصوتوية المناسبة للمقصود.
لذلك فاللغة تعد مخزن المعارف المتعارف عليها في ماضويتها؛ ويتسع
وعاؤها كلما أضاف العقل إليها مستجدات جهده في التفكر؛ بمنتجات المبتكرات
والمخترعات والمكتشفات. وهنا تبدو إشكالية اللغة العربية الراهنة؛ ومأزوميتها
المرتبطة بمأزومية العقل العربي؛ الذي عجز لقرون طويلة عن مغادرة الكهف وزمانياته؛
لعلل سياسوية تاريخياً؛ عطلت فريضة التفكر والتأمل والنقض والهدم وإعادة البناء
لتكون لغة حضارة راهنة كما كانت سابقاً.
*****
إن العوار الذي طال وظيفة اللغة العربية راهناً يعكس طبيعة الأزمة
الحضاروية التي تعيشها الأمة؛ والتي ستبقى متواصلة الفصول؛ طالما أن أمة الضاد
بدولها ومؤسساتها وعقولها لا تضع خرائط النهضة الجديدة والشاملة في كافة مناشط
الحياة؛ لتؤدي وظائفها المتعددة المجالات بجانب "الشعائروية "المرتبطة
بالعقائد.
ولأن التفكر عملية وجهد يسبق التعبير فهذا أدعى بالعقل العربي لأن
يغادر خطاب الماضوية؛ مهتما بجهود التفكر والفعل ليكون لديه المنتج الذي يغادر
حقول الشاعرية واختراقِ عَوالِم التَّفكر الأخرى، في حقول العلوم والرياضيات،
والطبابة والتقانة والحاسوبيات، والكويكيبات، سعياً لتتطور الوظيفة اللغوية، ضمن
هذه العوالم للاشتقاق والمجانسة، والابتداع، فيكون لها حضور ملموس خارج الشعرية
والمجازية.
على أن ذلك لا يُعدُّ عيباً في بنية اللغة العربية، ولكن العيب في
ذاتية العقل العربي والإسلاموي، المُصاب بالتجمد أو التصحر. فهذا العقل، يتراخى في
دخول معامل ومختبرات عوالم "الحداثة"، وبالتالي "ما بعد الحداثة
العقلية"، لكي يطور أغلفة المعاني الصوتية والحروفية، بما يتناسب مع ما
ينتجها بالذاتوية من المبتكرات والكشوفات والمنتجات غير المجازية.
*****
إن عجز الخطاب اللغوي العربي المعاصر في حقيقته هو عجز التبعية
المزدوجة له؛ أولاً للماضوية التي يستخدمها وقاء للتماسك والتساند وثانياً للآخر
المتغلب بالتفكر والمهيمن على كل شيء بعيداً؛ ومتجاوزاً المقدسات والمحرمات.
وهذا ما نلمسه حين تفكيك تجليات خطاب اللغة العربية في (الأدب
والطرب والدراما) موضوع المحور:
- في حقول "الأدب" كانت الهيمنة في الشعر تاريخياً
للقصيدة المرتكزة للأوزان الخليلية؛ واعتبر الوزن معياراً للحكم على الشاعرية؛ إلى
أن تحطم هذا النسق باستيلاد القصيدة التفعيلية من رحمها نتيجة مماثلة تأثير نمط
القصيدة لدى الآخر في الغرب؛ وقد جرى القبول بها اضطراراً طالما أنها حافظت على
التناسق الموسيقوي؛ وبعد ذلك... إذا بـ "القصيدة الأنثورة" تبدأ
المزاحمة في الحضور؛ نتيجة تداعي قدرات أجيال الأبحر الخليلية والتفعيلات ووصولهم
لمرحلة الانقراض؛ وعلى الرغم من ذلك لا تزال "الأنثورة الشعرية" لم تمكن
أقدامها بقوة بعد في عالم الإبلاغ بالعربية؛ نتيجة غياب ثوابت القواعد لنوعها في
الإبداع.
- وفي عوالم السرد حققت الرواية والأقصوصة الحضور المتمكن
باعتبارها نوعا مستولداً أيضاً من "خطاب الآخر" صرف النظر عن أسبقية
"ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة". والملحوظ أن خطابات هذا
النوع في التعبير ترتبط بالطبيعة الحكائوية للسان السارد؛ وقاموسه الكلماتوي
ونوعية الأحداث وسياقاتها؛ لذلك تعتورها الألفاظ والتعبيرات والاصطلاحات الشعبوية
الدارجة؛ والمغرقة في مفارقة متانة اللغة العربية الأصلية؛ لأن السرد يكون على
ألسنة شخصيات مستنسخة من الواقع؛ وتتحدث لهجاتها؛ وهنا يتمثل مأزق كبير خاص بطبيعة
هذه اللغة وبلاغتها.
- وما طال السرد والرواية والأقصوصة يفرض ذاته ومواصفاته كذلك على
"فنون الدراما" التي تسقط سقوطاً مرعباً في طبيعة الخطاب بضرورات اللجوء
إلى الدارجة الهابطة؛ والمسايرة لنمط الخطاب الشعبوي للشخوص في الشوارع والأزقة
والحارات والخنقات والزنقات. وبالتالي فإن الدراما التلفازية والمسارحية تلبي
قدرات الجمهور للفهم والتواصل؛ فتخاطبه بدارجته الهابطة؛ وتبرر وتروج لقيمه
المنهارة حسب تحليل المضمون؛ لأن المستهدف هو تحقق المتعة فقط عبر الإيصال للمعاني.
- والأمر نفسه
تجده في عوالم الطرب؛ نتيجة انقراض مبدعي القصيد باللغة الفصحى؛ من أجيال أحمد
شوقي وحافظ إبراهيم وانقراض أنماط الغناء والموسيقا من نوعية أم كلثوم ورياض
السنباطي ومحمد عبد الوهاب. فانقرضت أنماط وقيم البلاغة واللحون الوازنة؛ لتحل
بدلاً عنها قيم "لغة الغوغاء" و"قرع طبول الشوارع" في غناء لا
يدعو للتأمل والاستمتاع بالمعاني الكامنة؛ قدر اللعب على الغرائز بلغة الحركات
الراقصة.
-
وهذا يدعونا للتفكر في خطوات لازمة في هذه الحقل ـ على سبيل المثال
ـ منها:
** تفرغ العقول اللغوية العربية لإنتاج "معجم لغوي"
يغادر الصيغ القديمة لهذه اللغة وألفاظها؛ بما يستوعب المتغيرات الحادثة في لغة
الخطاب ليجري تعميمها في الكتابة والآداء الرواياتي والقصصي والمسرحي والغنائي.
** أن يجري الاهتمام بالأشكال الفنية الخادمة للغة العربية مثل
فنون الموشحات وإدماج الأطفال بها عبر المدارس والأكاديميات الفنية.
** اهتمام أجهزة الإعلام بمنح اللغة العربية مساحتها الخاصة
بتقريبها للجموع الشعبوية عبر برامج خاصة تقدم الصيغ الجديدة من كلمات اللغة
العربية (لغتنا الجميلة أنموذجاً) للراحل فاروق شوشة.
*****
وفي ختام هذه المداخلة ترد إلى الذاكرة عبارة مشهورة متنها:"
وتوسطت الشمس كبد السماء"؛ نستدعيها بالعرض على متطورات فهوم العقل ومنجزاته
في التفكر والتأمل والتجريب والاكتشاف؛ وتحديداً مع خطاب الحداثة؛ للقول :هل
للسماء كبد؟ وهل لها حدود؟ ولأنها ترتفع فوقنا فماذا يقول عنها من يجعلهم دورانها
يقفون أسفل هذه الكرة الأرضية؟
فهل يجوز ذلك القول على الرغم مما توصل إليه الآخر؛ وهو يمارس
الفضيلة المفتقدة لدينا: بالتفكر في آفاق وأقطار السموات والأرض؛ فيطلق
"مِسباراً" في حجم سيارة صغيرة لم ينصهر ـ هل تتصورون؟ ـ وهو يخترق
الغلاف الخارجي للشمس المعروف باسم "الهالة الملونة"؛ مستعصياً على درجة
حرارة قدرها ( 2500 درجة فهرنهايت)؛ فيجمع عينات من الجُسيمات والمجالات
المغناطيسية هُناك؟ فكيف تكون لغتنا متجاوزة لسياقات "مرحلة الخيل والبغال
والحمير لتركبوها وزينة". فتأملوا واعملوا بما يتناسب مع وظيفة لغتكم
ورسالتها.
0 تعليقات