د بلال زرينه
ورقة بحثية مختصرة أعددتها وألقيتها على مجموعة من الطلبة في ملتقى
فكري قبل أسبوعين .
في جوابه عن السؤال الذي طرحه قبل مائة عام المفكر اللبناني شكيب
أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟( )يُرجع المفكر الجزائري محمد أركون سبب
ذلك إلى تغلب العقل اللاهوتي المتشدد على العقل الفلسفي في تاريخ العرب والمسلمين.
فالأصولية الدينية حاربت واستأصلت العقلانية الفلسفية لدرجة أنه شاعت مقولات على
ألسنة الفقهاء مثل: " من تمنطق فقد تزندق" ، " فلان كان يتفلسف
لعنه الله".
هذه الأصولية الدينية تحولت إلى عقلية ظلامية متعصبة طغيانية
واستبدادية تكفيرية لا تقبل النقاش، بينما في أوروبا انتصرت العقلانية الفلسفية متمثلة
في فلاسفة التنوير على الأصولية الدينية والكهنوت على يد فلاسفة عظماء دعوا
للتسامح ونبذ التعصب من أمثال ديكارت واسبينوزا وكانط وفولتير وروسو... وللأسف،
فإن الفكر اللاهوتي الدوغمائي الذي يقف خصما للعلم والفلسفة ما زال هو المسيطر في
ثقافتنا العربية حتى يومنا هذا.
وأركون –بالطبع- ليس خصماً لكل أنواع اللاهوت، بل هو خصم للاهوت
المتعصب المغلق؛ فهو مثلا يمتدح لاهوت المعتزلة ولاهوت فلاسفة الإسلام المشائين
ولاهوت الصوفية الروحي والأخلاقي. ويميز أركون بين اللاهوت الإسلامي ما قبل القرن
الرابع الهجري؛ حيث كان اللاهوت منفتحا ويقبل التعدد والمعارضة، وهو العصر الذهبي
للفكر الإسلامي زمن الأمويين والعباسيين . أما بعد القرن الرابع الهجري فيعتبره
أركون عصر الجمود واللاهوت المتشدد وفرض التقليد وإغلاق باب الاجتهاد الذي بدأ
بظهور المرسوم القادري في بغداد والذي نص على أن كل مخالف لفكر أهل السنة
والجماعة( الحنبلي) يتعرض للعقوبة . يقول أركون:( ) " كانت الفلسفة قد شهدت
ازدهارا ملحوظا بين عامي 150-450هجرية / 767-1058م وذلك قبل أن تواجه بالرفض من
قبل الجسد الاجتماعي الثقافي( أي المجتمع) الخاضع لإيديولوجيا الأرثوذكسية السنية
أو الشيعية ... في الواقع أن العلماء من رجال الدين كانوا يعكسون المتطلبات
الإيديولوجية لطبقة معينة وفئة معينة أكثر مما كانوا يفرضون عن طريق هيبتهم
الفكرية الصرفة توجها عاما للفكر، هكذا نجد أن الموقف الفكري الذي اعتمده المعتزلة
زمن المأمون يختلف كليا عن الموقف الفكري الذي اعتمد رجال الدين في زمن السلجوقيين
الأوائل" .
استخدم أركون في مشروعه الفكري منهجي التفكيك والحفر في الأعماق
للأسس التي يقوم عليها الفكر اللاهوتي وأسماه ( الإسلاميات التطبيقية) ، وقد وظّف
أركون آخر ما توصل إليه علماء الاجتماع والتحليل النفسي والدراسات اللغوية
والإنثربولوجيا في الغرب لدراسة مكامن الخلل في العقل اللاهوتي مقلداً في ذلك
علماء اللسانيات في الغرب الذين طبقوا تلك المنهجيات العلمية على كتبهم المقدسة(
العهد القديم والجديد)، واكتشف أركون أن تقديم النقل على العقل هو أساس مشكلة
التعصب والانغلاق والدوغمائية في تراثنا الكلامي والفقهي كما عند فرقة الأشاعرة
والسلفية ، وأن تقديم العقل على النقل هو أساس الاستنارة والانفتاح والتسامح عند
الفلاسفة المسلمين وعند المعتزلة.
إن أركون يتميز من بين المفكرين العرب والمسلمين في عصرنا بأنه أهم
ناقد للعقل اللاهوتي في ثقافتنا العربية الإسلامية، بل إن مشروعه يقوم على النقد
العميق والجريء ( للمسكوت عنه) في ثقافتنا وتراثنا. وإذا كان المفكر المغربي محمد
عابد الجابري قد اختار نقد العقل العربي في كتبه الأربعة المشهورة( بنية العقل
العربي، تكوين العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي)؛ فإن
أركون اختار نقد العقل الإسلامي ، وقد صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية وترجمه
تلميذه السوري هاشم صالح واختار له عنوانا آخر بالتشاور مع أركون وهو ( تاريخية
الفكر العربي الإسلامي) وصدرت الطبعة الأولى منه في منتصف التسعينات من القرن
الماضي.
ومن أهم ما اشتغل عليه أركون هو محاولته تأسيس عقل لاهوتي إسلامي
معاصر متصالح مع الحقائق العلمية وبعيد عن الدوغمائية. يقول أركون: " الواقع
أن العقل الدوغمائي أغلق ما كان مفتوحا ومنفتحا، وحوّل ما كان يمكن التفكير فيه بل
ويجب التفكير فيه إلى ما لا يمكن التفكير فيه، وبعبارة أخرى يمكن القول بأن نزعة
التقليد للمذاهب الأرثوذكسية وتكرارها قد تغلبت على إعادة التقييم لجميع المذاهب
الموروثة أو لما يسمى باللاهوت السياسي المنافس المعارض للفلسفة السياسية"( )
. ويعتبر أركون في نفس الكتاب أن موضوع نقد العقل اللاهوتي يتقدم في الأولوية على
جوانب الإصلاح الأخرى ( الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) في المجتمع، فيقول:
" أكاد أقول بأن تحرير الأرض مرتبط بتحرير السماء ، ولذلك أعطيت الأولوية
للتحرير الديني على بقية أنواع التحرير الأخرى من سياسية واجتماعية وأخلاقية لأن
التحرير الديني هو الذي يضفي المشروعية على كل أنواع التحرير الأخرى". ص281
كما قدم أركون تأويلا جديدا للعديد من النصوص الدينية لتخليصها من
التفسيرات القديمة التي هي في غالبياتها متطرفة( ). ويعتبر أركون أن الفكر
الإيديولوجي للجماعات والحركات الإسلامية المعاصرة هو فكر يستعيد الخطاب اللاهوتي
المتشدد القديم الذي ظهر بعد القرن الرابع الهجري، وليس أدلّ على ذلك من المفردات
التي نسمعها من فقهاء تلك الجماعات مثل مصطلحات: البدعة والزندقة والضلال والإلحاد
والعمالة. كما أن هذا الخطاب اللاهوتي المتشدد للجماعات السلفية يرفض الانفتاح على
العالم والتعرف على الآخر ويعتبر كل الأفكار النافعة وعلم الاجتماع والنفس.. هي
حلول مستوردة وغزو ثقافي يهدد كيان الأمة الإسلامية.
بل إن بعض الخطابات اللاهوتية الإسلامية تدعو علنا إلى كراهية
الآخر غير المسلم وتعتبر ذلك شرطا ضروريا لصحة العقيدة تحت شعار( الولاء والبراء).
المصادر والمراجع:
1- أركون ( محمد) - تاريخية الفكر العربي الإسلامي، – مركز الإنماء
القومي- بيروت، ط2، 1996م
2- أركون (محمد)- قضايا في نقد العقل الديني –كيف نفهم الإسلام
اليوم؟، دار الطليعة- بيروت، ط2 ،2000م
3- أركون( محمد) – الإسلام، اوروبا، الغرب- رهانات المعنى وإرادات
الهيمنة، دار الساقي- بيروت، ط2، 2001م
4- أركون ( محمد) – القرآن الكريم من التفسير الموروث إلى تحليل
الخطاب الديني، دار الطليعة- بيروت، ط1،2001م
د. بلال زرينة
0 تعليقات