د. وسام الدين محمد
الثاني من رجب 1443ه
الثالث من فبراير 2022م
«لم أفهم أبدًا كيف لبلد يزعم أنه علماني يطلق على قطاع من مواطنيه
اسم (الفرنسيون المسلمون)، ويحرمهم من بعض حقوقهم لمجرد أنهم ينتمون إلى دين غير
دينها» أمين معلوف – أديب فرنسي، لبناني الأصل، كاثوليكي الدين.
«دعم المدارس (المسيحية) في (الشرق الأوسط) التزام (علماني)»
إيمانويل ماكرون – رئيس فرنسا.
كأي سياسي في الغرب، فإن تصريحات وخطابات السيد ماكرون ليست موجهه
إلا لداعمي حملاته الانتخابية وناخبيه، وكأي سياسي يرغب في بلوغ منصب أو الاستمرار
فيه، فإن خطابه لابد أن يكون مقروء لهؤلاء الذين يتوجه لهم بهذا الخطاب، ويعبر عن
مصالحهم، واستقراء تصريحات وخطابات ماكرون – خاصة بعد اضطرابات السترات الصفراء
عام 2018- يبين أنه يركز على ثلاث موضوعات، الأول أنه حامي حمي العلمانية
الفرنسية، والثاني أنه حامي حمى للمسيحيين بالذات وفي الشرق الأوسط بالذات،
والثالث العداء للإسلام والمسلمين في فرنسا وخارج فرنسا. وللوهلة الأولى، تبدو هذه
الموضوعات الثلاثة متناقضة، فإذا كانت العلمانية – خاصة الفرنسية – تلزم الحياد
بالنسبة للدين، ولا تدعم المؤسسات الدينية، فإننا في حالة ماكرون فرنسا أمام
علمانية تدعم دين وتحارب دين. وبالنظر إلى أن تصريحات وخطابات ماكرون قلما تعالج
مسائل أساسية أو تقدم حلول مجدولة لمسائل الاقتصاد والبطالة التي أثارت اضطرابات
السترات الصفراء، فإنه يجب أن نربط جميع الخيوط، لنفهم ان استدعاء ماكرون
للإسلامفوبيا وترويجه إلى أن الإسلام يهدد علمانية فرنسا، بل يهدد فرنسا نفسها، هو
في إطار خطة متكاملة لنقل غضب الجمهور الفرنسي من فشل النخب الحاكمة الفرنسية إلى
المسلمين، فالمسلم في الخطاب الاسلامفوبي الفرنسي، يهدد علمانية فرنسا، ويهدد أمن
فرنسا، ويستولى على فرص العمل، ويستولى على الخدمات؛ والمسلمون في هذا الخطاب
ينفذون خطة غزو بطيء لفرنسا، تنتهى باحتلال المسلمين لفرنسا؛ ولا ينبغي أن نفهم أن
هذه المزاعم منسوبة لليمين الفرنسي المتطرف، ولكنها خطاب السيد ماكرون ويسار الوسط
الفرنسي الذي ينتمي إليه ماكرون.
لقد اختار ماكرون ونظراءه في أوروبا تبني الإسلامفوبيا، لأن جذورها
تمتد إلى قرون عديدة في اللاوعي الأوروبي، وقد تشكلت من عناصر ثقافية لا يمكن
محوها من عقل الأوروبي، فالإسلامفوبيا ليست وليدة اليوم، ولا هي نتيجة صعود
الاتجاهات الشعبوية حول العالم، ولكنها استدعاء لوحش كامن في عقل أوروبا، بغرض صرف
الشعوب الأوروبية عن مطالبتها للنخب الحاكمة والنخب الاقتصادية بحقوقها، وتحويل
غضبها لعدو متخيل يتمثل في الإسلام والمسلمين، في تكرار لما قام به أوربان الثاني،
بابا روما، من صرف خطر الفرسان الأوروبيين عن سلطته بتوجيبيهم إلى غزو بلاد
الإسلام، نصرة للمسيحية في الشرق الأوسط.
إن البحث عن جذور الإسلامفوبيا في الثقافة الغربية ضروري اليوم،
بقدر ما كان ضروري دائمًا، ويتم تجاهله اليوم، بقدر ما تم تجاهله دائمًا، ولكن ثمن
استمرار التجاهل فادح، وإذا لم نكشف جذور الوحش، سوف يزداد توحشًا.
فرنسا الكاثوليكية
بداية، يجب أن نفهم أن المكون المسيحي - والكاثوليكي بالذات - في
الشخصية الثقافية الفرنسية لا يمكن إنكاره أو تجاهله. ففي تلك اللحظة التاريخية
التي وضع فيها البابا تاج الإمبراطورية الرومانية فوق رأس شارلمان، توحد مصيرا
الكنيسة الكاثوليكية وأمة الفرنجة البرابرة الذين كان زعيمهم شارلمان والتي يعتقد
الفرنسيون أنهم ورثتها وامتدادها؛ وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية قد منحت الشرعية
لملوك البرابرة من قبل شارلمان ومن بعده من خلال مبدأ الحكم بالحق الإلهي، فإنها
خصت شارلمان وخلفاءه بشرعية إضافية عندما أخترع مؤرخيها قصة تزعم أن الخليفة
العباسي قد أقر بحق شارلمان في حماية وتزعم جميع مسيحي الشرق، ووفقًا لهذه القصة
أصبح شارلمان ومن خلفه من الملوك الفرنسيين يزعمون أنهم حماة قبر المسيح في القدس
– وفق الاعتقاد المسيحي السائد – وهو حق انفرد به ملوك فرنسا دون غيرهم من ملوك
أوروبا.
وفي هذا السياق، سوف نجد الثقافة الشعبية الفرنسية تحتفي بالعلاقة
بين الأمة الفرنسية والمسيحية الكاثوليكية، فوفقًا للمعتقدات الشعبية الفرنسية،
لجأت السيدة مريم إلى فرنسا بعد رفع السيد المسيح، واستضافها شعبها وتوفيت ودفنت
بينهم؛ وفي العصور الوسطى اخترع الخيال الشعبي قصة الكأس المقدسة - أهم آثار السيد
المسيح عليه السلام وفق هذه الخرافة – والتي أصبح محلها هو فرنسا.
وقد ظل البابا وملوك فرنسا يتبادلون الدعم دائمًا، فأطلق على فرنسا
في العالم المسيحي الغربي اسم (الابنة البكر للكنيسة fille ainee de l’eglise)، وعندما نادى البابا
بالحرب الصليبية، كان الفرنسيون، ملوكًا ونبلاء وغوغاء، أول من لبوا النداء، حتى
غلب على تسمية الصليبين عند المسلمين اسم الفرنجة، وعندما عقدت الكنيسة الكاثولكية
مجلس تورنتو 1545-1563 لمناهضة تمرد الإصلاح الديني، تلقى البابا كامل الدعم من
ملوك فرنسا، ومثل الكاردينالات الفرنسيين عظم حزب البابا ولحمه.
وقد شكلت هذه العلاقة بين الكنيسة وفرنسا تاريخ فرنسا الحديث، وما
كانت الثورة الفرنسية إلا نتيجة طبيعية للفشل في إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في
فرنسا، فبينما نجح الإصلاح الديني في ألمانيا المقسمة إلى دويلات لا تدين للبابا
ولا للمسيحية الكاثوليكية بوجودها، وتدين بذلك لسيوف فرسان التيوتون وذهب تجار بحر
البلطيق، فإن فرنسا التي كانت موحدة دائمًا تحت ظل تاج القديس بطرس – تاج البابا،
وتاج الملك، شنت فيها العائلات النبيلة والحاكمة الحرب على الإصلاح والتي بلغت
ذروة المأساة والوحشية عندما أقدم الملك الفرنسي والموظفين الكنسيين بحشد الغوغاء
من متعصبي الكاثوليك الفرنسيين، وذبحوا نحو خمسة وعشرين ألف من مواطنيهم الفرنسيين
الذين تبنوا أفكار الإصلاح الديني، وهي الواقعة التاريخية المعروفة باسم مذبحة
سانت بارتولومو سنة 1572، وهي واقعة سوف تتكرر - وإن كانت أقل ضراوة لو أن للوحشية
درجات – مرارًا وتكرارًا، حتى اندلاع الثورة الفرنسية نفسه.
فالمسيحية الكاثوليكية إذًا متجذرة في اللا وعي الجمعي للفرنسيين،
وحتى وإن كفروا بها ظاهرًا، فإنه تشكل جزء من تعريفهم التاريخي لأنفسهم كأمة
وكدولة.
[يتبع]
0 تعليقات