نصر القفاص
تستحق "ثورة 1919" أن نعيد قراءة أحداثها ونتائجها..
فإذا ما علمنا أنه سقط خلال أيامها ألف شهيد حسب وثائق الانجليز, ويذكر المؤرخون
أنه سقط أربعة آلاف شهيد.. يمكننا أن نتخيل حجم الغضب الشعبى العام فى أنحاء مصر
بأكملها.. فهى لم تكن ثورة العاصمة فقط, ولا ثورة المدن الكبرى.. بل كانت ثورة
القرى.. لم تكن ثورة المثقفين.. لأنها كانت ثورة الشباب والفلاحين.. للحد الذى جعل
سلطة الاحتلال تقصف قرى فى "المنصورة" و"أسيوط" بالطائرات,
خاصة بعد أن عرفوا بقتل 15 جندى انجليزى خلال عودتهم من "الأقصر"
بالقطار.. ويكشف الإنذار الصادر من قائد القوات البريطانية يوم 20 مارس, مدى بشاعة
ما فعله المستعمر.. ففى هذا اليوم نشر ما أسماه "إنذار عام" وجاء فيه:
"كل حادث جديد من حوادث تدمير السكك الحديدية, يعاقب عليه بإحراق القرية
الأقرب لمكان التدمير.. وهذا آخر إنذار"!!
واجهت مصر الوجه الحقيقي لقوات الاحتلال البريطاني.
تجددت الذاكرة تجاه ما حدث لحظة احتلال البلاد.. ولتأكيد إنذاره
دعا قائد القوات البريطانية إلى مكتبه, عددا من الوزراء والمسئولين والذين يراهم
كبار القوم.. وقال لهم: "إذا استمرت الأحداث سأجدنى مضطرا إلى خطة هجومية..
إننى أحذركم من حملى على تنفيذ هذه الخطة.. ستكون العواقب وبالا على البلاد.. سيتم
تدمير العمائر والقصور, وحرق القرى وإسالة دماء غزيرة.. لذلك أدعوكم إلى بذل ما فى
وسعكم لتسكين الأهالى قبل أن أفعل"!!
انطلقت قوات الاحتلال لتنفيذ الإنذار دون انتظار.. سقط مائة شهيد
فى قرية "ميت القرشى" بمدينة "ميت غمر" فى
"الدقهلية".. سقط العشرات فى قرى محافظة الجيزة التى شهدت حرق قرى.. كما
تم حرق قرى فى "بنى سويف" و"الفيوم" واستمر الغليان فى
"أسيوط" التى سيطر أهلها على مقرات البوليس واستولوا على الأسلحة للدفاع
عن أهلهم.. وصدر بيان أنه تم ردع "الرعاع" حسب وصف الانجليز للمتظاهرين
فى "بورسعيد".
يوم 21 مارس تم الإعلان عن أن "المارشال اللنبى" أصبح
"المندوب السامى" بدلا من "وينجت" الذى كان يتبنى منهج تهدئة
رغم "وقاحته" و"غطرسته"!! وهنا لجأت سلطات الاحتلال إلى رجال
الدين أملا فى أن يسمعهم الشعب ويهدأ.. طلبوا منهم إصدار بيان يدعو الناس للهدوء..
وقع على البيان شيخ الأزهر والمفتى وبطريرك الأقباط وشيخ مشايخ الطرق الصوفية
ونقيب الأشراف.. إضافة إلى رئيس المحكمة الشرعية, كما وقع على البيان 49 من
الوزراء والأعيان.
نقلت الصحف تصريحات على لسان " لورد كيرزون" وزير الخارجية
أن مجلس العموم البريطانى, ينفى فيها رفض حكومة جلالة ملك بريطانيا إستقبال
"حسين رشدى" و"عدلى يكن".. ثم قوله أن هؤلاء وضعهم مختلف عن
"سعد زغلول" ورفاقه لأنه هو الذى دبر هذه الاضطرابات.. وهم غير مسئولين
وهدفهم طرد الانجليز من مصر!!
كان الانجليز يعتقدون أن طردهم من مصر هزيمة!
اعتقد الانجليز أن مصر ملكا خالصا لهم.. واستمر اعتقادهم كذلك حتى
قامت "ثورة 23 يوليو" التى استعادت الوطن.. وأعادت "العزة
والكرامة" لشعب دفع أثمانا فادحة لمئات السنين!!
جاء رد الفعل بمزيد من المظاهرات والاضطرابات.. كانت الثورة أكبر
من كل محاولات مواجهتها أو ترويضها.. حتى البيان الذى أذاعه "السلطان"
لم يسمعه الشعب!! ولم يجد "المندوب السامى" الجديد حلا غير إصدار إعلان
يوم 7 إبريل.. تقرر فيه السماح لمن شاء من المصريين بالسفر للخارج وقتما شاء..
وقرر الإفراج عن "سعد زغلول" وكل من "إسماعيل صدقى"
و"محمد محمود" و"حمد الباسل" ومنحهم حق السفر.. هنا انقلبت
الأحزان إلى حالة فرح عامة فى أنحاء مصر.. خرجت مواكب الاحتفال تجاه "بيت سعد
زغلول" والكل يهتف "يحيا سعد" و"تحيا مصر".. وخرجت سيدات
الطبقة الراقية فى سياراتهن ليشاركن أبناء الشعب أفراحهم.. وضمن طرائف اللحظة أن
"النشالين" وزعوا منشورا أعلنوا فيه مشاركتهم الشعب أفراحه وجاء فيه:
"للناس أن يأمنوا على جيبهم خلال احتفالاتهم ولمدة ثلاثة أيام.. احتفالا
بالإفراج عن سعد باشا"!!
كان يوم 7 إبريل مشهودا فى تاريخ مصر.
استمرت الاحتفالات يوم 8 إبريل, وشارك فيها الطلاب والمحامون ورجال
الدين.. كما شارك طلاب مدرسة البوليس والمدرسة الحربية والأطباء والعمال
والفلاحين.. وحدث خلال هذا اليوم أن أطلق بعض الجنود الانجليز النار على
المحتفلين, ليسقط أربعة قتلى وطفل صغير.. حمل الناس جثة الطفل فى مظاهرة عارمة
تجاه "قصر عابدين" وفرضوا على المسئولين عن القصر أن يشاهدوا الجريمة
وينقلوها للسلطان.. صدر بسرعة بيان عن "المندوب السامى" أعرب فيه عن
تألمه وأسفه لما حدث, واعترف بأن الذين ارتكبوا الجريمة وتجاوزوا حدودهم
والتعليمات.. سيتم محاسبتهم.. وذكر أن "هذه الاحتفالات ليست ضدنا.. بل تقديرا
لقرارنا"!!
تم تنظيم جنازة شعبية يوم 9 إبريل لشهداء اليوم السابق.
تقدمت المشيعين, فرقة تعزف موسيقى جنائزية.. خلفها النعوش ملفوفة
فى علم مصر.. وشارك فى الجنازة "حكمدار العاصمة – مدير الأمن – وعدد من رجال
البوليس, وآلاف المواطنين الذين أصروا على أن تطوف الجنازة أمام مقرات البعثات
الدبلوماسية.. المؤسف أن الجريمة تكررت يوم 10 إبريل.. وأطلق جنود الاحتلال النار
عشوائيا فى شارع فؤاد الأول – 26 يوليو حاليا – ليسقط 13 شهيدا.. وتكررت جنازة
"شهداء الحرية" كما وصفها المواطنون يوم 12 إبريل.
وسط هذه الحالة.. صدر قرار "السلطان فؤاد" بتكليف
"حسين رشدى" أن يقوم بتشكيل وزارة.. وتم إعلان تشكيل الوزارة الجديدة,
التى تخلى فيها "حسين رشدى" عن حقيبة الداخلية, وكلف بها "عدلى
يكن" وعين "عبد الخالق ثروت" وزيرا للحقانية – العدل – و"يوسف
وهبة" وزيرا للمالية.. كما عين "جعفر والى" وزيرا للأوقاف.. وتولى
"أحمد مدحت يكن" وزارة الزراعة.. كما أصبح "حسن حسيب" وزيرا
للأشغال والحربية والبحرية!! وتم الإعلان يوم 11 إبريل عن تشكيل "الوفد"
الى سيسافر إلى "فرنسا" بينهم "سعد زغلول" كرئيس ومعه الثلاثة
الذين رافقوه إلى "مالطا" على أن يلحق بهم من مصر "عبد العزيز
فهمى" و"أحمد لطفى السيد" و"مصطفى النحاس" والدكتور
"حافظ عفيفى" و"حسين واصف" و"محمود أبو النصر"..
وشهدت "محطة مصر" كما كانت تسمى.. محطة السكة الحديد احتفالات شعبية
لتوديع "الوفد" الذى سيتحرك بالقطار إلى بورسعيد ومنها يستقل باخرة إلى
"باريس".
انتصرت إرادة الشعب, فحركت أصحاب الحقوق أن يرفعوا أصواتهم.. نظم
الموظفون إضرابا طالبوا فيه بإلغاء الأحكام العرفية وسحب جنود الانجليز من
الشوارع.. توجه إليهم "حسين رشدى" رئيس الوزراء ببيان يوم 13 إبريل
يدعوهم فيه إلى الهدوء والسكينة.. ويوم 16 إبريل أعلن أرباب المهن إضرابا شارك فيه
نحو 80 ألفا, لإعلان تأييدهم للموظفين فى مطالبهم.. ويوم 17 إبريل إلتقى رئيس
الوزراء وفودا من الطلبة والموظفين ومديريتى القليوبية والدقهلية, ليرجوهم
المشاركة فى تهدئة الأحوال.. وجد "حسين رشدى" أن مهمته صعبة واحتواء
الغضب الذى انفجر يتجاوز طاقته.. قرر تقديم استقالته إلى "السلطان" يوم
21 إبريل, مبررا ذلك بأن حالته الصحية لا تحتمل مواجهة هذه الأزمة!! فتم تكليف
"محمد سعيد" بتشكيل وزارة جديدة.. وصدر بيان من مكتب "اللنبى"
يهدد كل الذين أضربوا عن العمل بالفصل, وسيتم اعتبارهم مخربين ويسعون لقلب نظام
الحكم.. تدخل البعض ممن يثق فيهم المضربون, وأقنعوهم بالعودة إلى أعمالهم, وحدث
ذلك فعلا يوم 23 إبريل.. وردت السلطات على ذلك بإعادة عشرة كانت قد قررت فصلهم إلى
أعمالهم.
ثم جاءت الصدمة.. نشرت الصحف يوم 23 إبريل.. خطابا سلمه القنصل الأمريكي
فى القاهرة إلى "المندوب السامى" البريطانى يبلغه فيه باعتراف
"الولايات المتحدة الأمريكية" بفرض الحماية البريطانية على مصر.. سقطت
"مبادئ ولسن" فى هذه اللحظة.. وضح أن كلامه عن حق الشعوب فى تقرير
مصيرها مجرد مخدر للذين انتفضوا ليطالبوا بحقهم فى الاستقلال!!
بعد نشر اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحماية البريطانية
على مصر.. ربط رجال القانون وعدد من الصحفيين بين تصريحات أدلى بها "حسين
رشدى" فى حضورهم يوم 15 إبريل, وبين استقالته والاعتراف الأمريكي.. لأن كلام
رئيس الوزراء المصرى لم يتم نشره, وفيه كان يقول للحضور: "إن مسألة تحرير مصر
ليست فى يدى ولا فى أيديكم.. إنما هى فى يد مؤتمر الصلح.. ومصر لا تستطيع إلا أن
تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية.. لأن الدول الأخرى مثل فرنسا وإيطاليا لها
مطامع فى مصر.. أما أمريكا فهى البلاد الوحيدة والدولة الوحيدة التى لا مطامع لها
عندنا"!!
بعد عامين من الجلسة التى قال فيها "حسين رشدى" كلامه..
تم نشر كل ما قال.. كان ضمنه أنه قال: "كنت اتفقت مع أعضاء الوفد أن أعمل على
السماح لهم بالسفر بأى طريقة ممكنة.. ولو بصفتهم الشخصية.. كان المهم أن يضعوا
أقدامهم فى أوروبا.. وبعد أن اتفقت مع الجنرال اللنبى الذى كان يعارض سفرهم على
ذلك بعدما اقتنع.. وللذين يطالبونى أن أعلن بوضوح العمل على حل الأزمة بما يرضى
الأمة.. فهذا معناه عدم اعترافي بالحماية.. لأن الأمة تطلب الاستقلال.. وحين طلبت
سحب جنود الاحتلال من الشوارع, على أن يتولى البوليس حماية الناس.. رفض اللنبى
وقالى لى: إذا كنت عاجز عن قيادة موظفيك المضربين عن العمل, فهل تقدر على قيادة
شعب.. فأسكتنى كلامه"!!
كان الشارع فى مصر والجماهير يشعرون بقوتهم وقدرتهم على كسر إرادة
الانجليز.. لكن الساسة كان لهم رأى آخر ورؤية مختلفة.. نستطيع أن نفهمه من كلام
"حسين رشدى" وصراحته التى كشفت عن أن "المندوب السامى" كان
قادرا على ردع أكبر رأس فى البلاد.. بل وحتى رئيس الوزراء الذى فهم أن طريق الشارع
يختلف عن طريق الساسة, فقرر الاستقالة بعد أيام قليلة من تشكيل الوزارة.. وكان
اختيار "محمد سعيد" لرئاسة الوزارة الجديدة يؤكد ذلك.. فهو رجل لا يراهن
على غير الانجليز, وكان يعتبر نفسه جسرا يربط بينهم وبين "السلطان" الذى
تربطه به علاقة طيبة.. ولأن الحس الشعبى والوعى كانا قد وصلا إلى قمة النضج.. قوبل
قرار تكليفه برفض شديد, نقلت الصحف وصفا له.. وكتبت الكثير عن نفور المصريين من
حكومة جديدة يقودها "محمد سعيد" الذى استغرق وقتا طويلا حتى أعلن تشكيل
وزارته.. لكن الأمة كلها كانت متعلقة بما سيحدث فى "باريس" ونتائج رحلة
"الوفد" بزعامة "سعد زغلول".. وحدث ما أحبط الشعب!!..
يتبع
0 تعليقات