آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! ثورة 1919(16)

 


 

 

نصر القفاص

 

 

خاطب "الوفد المصرى" رؤساء وزارات بريطانيا وفرنسا وايطاليا عدة مرات.. أرسلوا أكثر من رسالة للرئيس الأمريكي "ولسن" خلال وجوده فى "باريس" وعندما ذهب إلى "لندن" فى زيارة خاصة.. أرسلوا – أيضا – إلى رؤساء البعثات الأجنبية فى مصر.. بعثوا برسالة طويلة إلى رئيس مجلس العموم البريطاني.. كلها كانت رسائل طويلة، أشبه بمرافعة المحامين أمام ضمائر القضاة.. تناولت الرسائل شرحا لقضية مصر الوطنية،  إضافة إلى تعهدات بالحرص على مصالح بريطانيا وحماية حقوق الأجانب.. ودون أن يرد أحد!!

 

الديمقراطية الفاسدة!! بيت الأمة (15)


أعتكف "السلطان أحمد فؤاد" إحتجاحا وغضبا، فلم يعره أحد أدنى اهتمام.. تمسك رئيس الوزراء ومعه "عدلى يكن" باستقالته، فلم يتم إعلان قبول الاستقالة أو رفضها.. وكان الطرف الوحيد الذى يتفاعل مع الأحداث وتطوراتها هو "الشعب المصرى" الذى التف حول "الوفد" وزعامته.. وحين تم نشر رسالة "الوفد" إلى "مجلس العموم"، أنقلب الغضب الشعبى إلى حالة غليان تنتظر الانفجار.. خاصة وأن الرسالة جاء فيها: "المصريون الآن محبوسون حقيقة داخل حدود بلادهم من أكبر كبير إلى أصغر صغير.. لا يعطى أحدا منهم جوازا بالسفر إلى أية جهة كانت.. ورئيس الوزراء استقال مع أحد وزرائه،  فكان رجاء مندوبكم السامى إلى عظمة السلطان عدم قبولها.. حتى أنه لم يعد عندنا وزارة منذ أربعين يوما" وفى جزء آخر من الرسالة ذاتها، ذكرت بوضوح: "ينتقم الانجليز من المصريين الذين غرموا – خسروا – فى حروبهم.. كتائب مصرية مسلحة حاربت معهم، يتجاوز عددها المليون.. أموال ومؤن ودواب.. بل أنهم صمتوا على الإهانة والفقر خلال الحرب.. ثم بعد ذلك تعاملوننا معاملة الأعداء.. فيتم مصادرة حريتنا وإهانة كرامتنا.. لكل ذلك نناشدكم باسم الشرف والتقاليد الانجليزية، أن تعرضوا حالنا على مجلس نوابكم"!!

 

أحتل "الانجليز" مصر بحجة ردع "تمرد العسكر" وتأديب "العصاه"!!

 

استمر احتلالهم بدعوى تحقيق "الإصلاح الاقتصادي" و"تأمين الاستقرار"!

 

طاردوا "الحزب الوطنى المصرى" وقياداته باعتبارهم "متمردين" يدعون إلى "الثورة"!!

 

رفضوا الحوار مع العقلاء وأصحاب المنطق بما يملكون من حكمة.. وتجاهلوا رسائلهم!

 

حين جاء عام 1919 كانوا قد اعتقدوا أن "الأمة المصرية" ماتت أو تكاد!! لكن أجهزتهم رصدت أن هناك نار تحت الرماد.. فوجئوا بأن "سعد زغلول" وجه دعوة لعشرات من "النخبة" السياسية والاقتصادية والفكرية لحفل شاى فى بيته يوم 31 يناير.. انتهت إلى أنه فى حال وجود هذا الحشد، سيحدث ما لا يحمد عقباه.. فالوطن كان يقف على أطراف أصابعه.. هنا تدخل الجنرال "واطسن" قائد القوات البريطانية فى مصر.. بعث برسالة قصيرة إلى "سعد زغلول" يوم 23 يناير.. كان نصها: "علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعا فى منزلكم فى 31 الجارى يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص.. وإنى أرى أن مثل هذا الاجتماع يحدث منه إقلاق للأمن.. وبناء على الإعلان الصادر تحت الأحكام العرفية، بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع.. وتفضلوا بقبول فائق احترامى"!! ونشرت جريدة "الإيجيبشيان جازيت" يوم 28 يناير نص رسالة القيادة العليا للجيوش البريطانية!!

 

كان "سعد زغلول" مثقفا وسياسيا ورجل دولة.

 

اختار استخدام الرسالة لإضافة نار على نار الغضب الشعبى!!

 

كتب رسالة إلى "الجنرال" فى اليوم نفسه، كان نصها: "إلحاقا إلى الإعلان – أعتبر الخبر الصادر عن جريدة الإيجيبشيان جازيت" بتاريخ 28 يناير سنة 1919 إعلانا – أرجو أن تأذنوا بنشر إعلان يحمل قبولنا إلغاء الدعوة"!!.. فجاءه الرد الرسمى بالموافقة على النشر.. ثم نشر فعلا خبر إلغاء الحفل.. ويوم أول فبراير بعث برسالة إلى "لويد جورج" رئيس وزراء بريطانيا يحتج فيها على ذلك، معتبرا إياه تعديا على حريته الشخصية.. ونشرت الصحف نص الرسالة.. ويوم 2 فبراير بعث ببرقية إلى رئيس وزراء فرنسا – كليمنصوا – وأخرى إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يخطرهما بما يحدث معه.. ونشرت الصحف!

 

من هنا بدأت السياسة فى مواجهة القوة العسكرية!!

 

راحت الصحف تنشر أن الشعب المصرى – 12 مليونا – أصبح رهينة للجاليات الأجنبية، وعددهم 150 ألف فرد.. بينهم 62,974 يونانيا.. و34,926 إيطاليا.. و20,653 إنجليزيا.. إضافة إلى 14,891 فرنسيا.. ثم 7,705 نمساويا.. و2,410 يحملون جنسية روسيا.. و1,847 المانى.. وأخيرا 1,958 يحملون جنسيات أخرى.. من أجل هؤلاء تداس حقوق أمة بأكملها بالأقدام, ويحمى هؤلاء جيش انجليزي لا يقل عن 60 ألف ضابط وجندى انجليزى.. لتصبح "القوة فوق الحق" مع أنه من الطبيعي أن يكون "الحق فوق القوة"!!

ولما كان أول مارس عام 1919 نشرت الصحف رسالة "السلطان" إلى "حسين رشدى" بقبول استقالة وزارته.. فنشر "الوفد" رسالة طويلة بعث بها إلى "السلطان" جاء فيها: "كيف فات مستشاريكم أن عبارة قبول استقالة حسين رشدى باشا لا تسمح لرجل وطنى مصرى ذى كرامة أن يخلفه فى مركزه.. وكيف فاتهم أن وزارة تم تأليفها على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضى عليها بالفشل"!!

 

انتقل الصراع إلى حالة المواجهة بين "وفد" يمثل شعب وسلطة احتلال!!

 

الصحف كانت تنشر كل ذلك.. والشعب يتابع ويغلى

 

بعد ظهر يوم 6 مارس.. استدعى القائد العام للقوات البريطانية،  رئيس "الوفد" وأعضاءه إلى مركز القيادة.. دخل عليهم ليقرأ بيان جاء فيه: "حيث أن البلاد تحت الأحكام العسكرية.. يلزمنى أن أحذركم أن أى عمل منكم يرمى إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة إلى المعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية"!! قرأ البيان بالانجليزية وسمح بقراءته باللغة الفرنسية ثم قال: "لا مناقشة" وانصرف لتأكيد حجم غضب السلطة العسكرية البريطانية!!

 

فهم "سعد زغلول" المعنى.. أدرك أن القتال تم فرضه على "الوفد"

بعث ببرقية إلى رئيس الحكومة البريطانية.. جاء فيها: "السلطة العسكرية تحملنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها.. أرادت هذه السلطة أن تكون مسئوليتى عن أعمال الذين منعونا من السفر.. وهم يتوعدوننا بأشد العقاب العسكرى.. وهى سلطة تجهل أننا نطلب الاستقلال التام ونرى الحماية غير مشروعة"!!

 

اعتبرت السلطة العسكرية فى مصر أن برقية "الوفد" إلى رئيس الحكومة البريطانية دليل على عدم امتثال أعضاء "الوفد" للأوامر.. تحركت وألقت القبض على "سعد زغلول" ومعه ثلاثة من كبار أعضاء "الوفد" هم: "محمد محمود" و"حمد الباسل" و"إسماعيل صدقى" يوم 8 مارس وتم اقتيادهم إلى ثكنات "قصر النيل" ومكانها الحالى "مقر جامعة الدول العربية والفندق المجاور لها" والذين أنشأتهم فى هذا المكان ثورة "23 يوليو" لتأكيد انتصار إرادة الشعب المصرى.. وصباح يوم 9 مارس تم اقتيادهم إلى "بورسعيد" ومنها بحرا إلى "مالطا"!!

 

انتشر الخبر فى أنحاء العاصمة.. أنفجر الغضب عارما.. تولى "على شعراوى" الإمساك بدفة القيادة.. أرسل برقيات بما حدث إلى رئيس وزراء بريطانيا.. وبرقية إلى السلطان "أحمد فؤاد" إضافة إلى برقيات إلى سفراء الدول الأجنبية فى مصر لإخطارهم بما حدث.. والتأكيد على حق الشعب المصرى فى الدفاع عن حقوقه واستقلاله.

 

إندلعت نيران الثورة من طلبة المدارس وجامعة الأزهر.

 

هتف المتظاهرين بحياة مصر، والحرية.. طالبوا بسقوط الحماية والاستعمار.. طلبوا الإفراج عن زعماء الوفد.. تصدت الشرطة والقوات العسكرية للمتظاهرين.. ألقوا القبض على نحو 300 طالب من المتظاهرين.. صباح اليوم التالى أعلن طلبة المدارس والمعاهد إضرابا عاما، وانطلقوا متظاهرين فى شوارع العاصمة.. عطلت شركة ترام القاهرة قطاراتها.. حدثت أعمال تخريب وسرقات.. تصاعد الموقف صباح يوم 11 مارس.. أغلق التجار محالهم.. تعطلت كل وسائل المواصلات.. بدأت مواجهات بين المتظاهرين ورجال السلطة.. صدرت التعليمات بالمواجهة إلى حد إطلاق الرصاص الحى.. شهد مدخل "شبرا" وشارع "عماد الدين" ذروة المواجهة.. أعلن المحامون إضرابا تنفيذا لقرار مجلس "نقابة المحامين" إحتجاجا على عنف الشرطة وقوات الاحتلال.. أذاع قائد القوات البريطانية بيانا يؤكد فيه على سريان الأحكام العرفية وقانونها.. تصاعدت المظاهرات وامتدت إلى "الإسكندرية" ثم "طنطا" ليشتعل الوطن بأكمله.. انقلب الأمر إلى قطع خطوط السكك الحديدية والتلغراف والهاتف.. سالت دماء غزيرة!!

 

كان يوم 14 مارس يوافق يوم الجمعة.

 

انطلق المصلون من مسجد "الحسين" والجامع "الأزهر" فى مظاهرات حاشدة.. واجهتهم القوات بالرصاص.. سقط اثنى عشر شهيدا.. تم الإعلان بعد ذلك عن سقوط 13 شهيدا فى "السيدة زينب" وسرت شائعة عن قتل سبعة ضباط انجليز كانوا قادمين من "الأقصر" عبر "المنيا".. تواصلت المظاهرات والمواجهات.. اعتصم عمال السكك الحديد يوم 15 مارس فى "بولاق" وأخذت الأمور تتدهور.. عقد "يحيى باشا ابراهيم" رئيس محكمة الاستئناف – لاحظ هذا الاسم جيدا – اجتماعا مع المستشار الانجليزي لبحث ما ترتب على إضراب المحامين.. حاولوا تهديدهم.. تقدم عشرات المحامين بطلبات شطب أسمائهم من جدول الذين يمارسون المهنة!!

 

أدركت السلطة أن معالجتها للموقف تزيده اشتعالا.. أعلنوا الإفراج عن عدد من الطلاب الذين تم القبض عليهم.. وفى يوم 16 مارس كانت أول مظاهرة نسائية شاركت فيها سيدات تمثلن أسرا راقية.. واجهوا جنود الاحتلال بالتحدى وكن يخاطبونهم باللغة الانجليزية والفرنسية!! انضم عمال شركة الكهرباء للإضراب.. ساد ظلام دامس أحياء من القاهرة!! تدخل "جعفر والى" باشا وكيل وزارة الداخلية راجيا من "رجال الوفد" تهدئة الخواطر لاستعادة الهدوء والأمن فى البلاد.. تم الاجتماع بهم فى مركز القيادة العامة للقوات البريطانية.. حاول استخدام لغة التهديد.. اشتعلت نيران الغضب والمظاهرات أكثر.. امتد الحريق إلى مدينة "دمنهور" وبدأ الإعلان عن سقوط شهداء فى "المنصورة" و"الفيوم" وكوم حمادة" بالبحيرة.. فما كان من سلطة الاحتلال غير الاجتماع مع "على شعراوى" و"عبد العزيز فهمى" أملا فى استعادة الهدوء!!

 

أصبح "الحق فوق القوة" رغم غياب "الديمقراطية" لأن المستعمر والمستبد يفهمون فى "الوقت الضائع" دائما!!..

 

 

يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات