آخر الأخبار

الديمقراطية الفاسدة!! عبد الرحمن فهمى (21)

 

 


 

 

نصر القفاص

 

تحمل أوراق "ثورة 1919" أسماء عشرات من الرجال الذين أخذوا قضية استقلال مصر على عاتقهم.. اتفقوا واختلفوا وجرفتهم أمواج السياسة وعواصفها إلى شواطئ الصراع.. بعضهم أسماء بقيت لامعة, وآخرين غابت أسماؤهم رغم أهمية وخطورة أدوارهم.. لكن اسما واحدا يبقى الأكثر أهمية وخطورة, ولولاه لانطفأت نار هذه الثورة مبكرا.. واستحق أن تدقق مذكراته نخبة من أساتذة التاريخ المرموقين, تحت إشراف الدكتور "يونان لبيب رزق".

 

كان "عبد الرحمن فهمى" هو قائد الثورة الفاعل فى مصر, وقت أن كان "الوفد" يناضل بالكلمة فى "باريس".. وهو الذى نجح فى طمس معالم "تلغراف" أرسله "الوفد" يحمل كل معانى الإحباط واليأس والفشل!!.. رسم لهم هناك طريق العمل.. فهذا الضابط سليل عائلة معروفة.. أخذ من الحياة العسكرية أن يكون مقاتلا.. ورفض أن يتعلم من الوظائف المدنية, أن يكون تابعا أو مفرطا فى الرأى والموقف.. لذلك سنجده يدفع ثمن اختلافه مع سلطة الاحتلال الانجليزي.. ثم اختلافه مع الخديوي "عباس حلمي الثاني" لرفضه الفساد.. وكان منصب "أول سكرتير عام للوفد" هو خطوته الأولى على طريق السياسة.. ولخطورته زج به الانجليز فى السجن, لإخماد نار "ثورة 1919" التى كان وراء استمرار اشتعالها فى قضية أطلقوا عليها "المؤامرة الكبرى".. صدر ضده حكم بالإعدام.. تم تخفيفه إلى عشر سنوات أشغال شاقة مؤبدة, قضى منها أربعة أعوام فقط وأفرج عنه "ٍسعد زغلول" حين أصبح رئيسا للوزراء..

 

ثم اختلف مع "سعد زغلول" نفسه قبل وفاته بعام اعتدادا برأيه, وهو الذى كان يحترمه ويقدره لأقصى حد.. ربما لأنه عمل مع "مصطفى فهمى" والد السيدة "صفية زغلول" التى تفردت بإطلاق الشعب عليها لقب "أم المصريين".. ولتفرده اتجه للعمل الصحفى, وعمل مديرا لتحرير "روز اليوسف" فى سنواته الأخيرة.. وقبل أن يرحل دخل "البرلمان" نائبا وقت سطوع نجم ابن شقيقه "أحمد ماهر" وتلميذه "محمود فهمى النقراشى"..

 

وتوفى حزينا على "الوفد" الذى احترق يوم 4 فبراير عام 1942, حين فرض "لامبسون" كمندوب سامى بريطانى "الوفد" وزعيمه "مصصطفى النحاس" ليشكل الوزارة بالمدفع والدبابة!!

 

 الديمقراطية الفاسدة!! زواج السلطان (20)

تولى "عبد الرحمن فهمى" إدارة "ثورة الشعب" وضبط إيقاعها.. كان يعرف أفضل أساليب تسخين الشارع, والأوقات التى تحتاج تبريد نسبى.. وكان سبب رفض "حسين رشدى" الاستمرار فى موقعه كرئيس للوزراء.. وجعل "محمد سعيد" يقضى أصعب أيام فى تاريخه السياسى حين قبل رئاسة الوزراء.. كما كان وراء العمر القصير لوزارة "يوسف وهبة" وتحول إلى صداع مزمن فى رأس "اللنبى" وجعل مهمة "لجنة ملنر" شبه مستحيلة!!

 

تصاعد الرفض الشعبى لوزارة "محمد سعيد" واقترن ذلك برفض مهمة لجنة "ملنر" ولما وصل الأمر إلى محاولة اغتيال "محمد سعيد" أضطر إلى التلميح بأنه غير مستعد للاستمرار إذا جاء "ملنر" ولجنته.. ثم صرح بذلك يوم 13 أكتوبر 1919خلال لقاء جمعه مع عدد من المحامين.. وكان المحامون هم طليعة مفكرى الأمة, وقال فيهم: "لقد بيننا للحكومة الانجليزية فى لندن أوجه الضرر من مجىء اللجنة, وطلبنا منعها من الحضور.. وقلنا لهم وأنا أدرى منهم بما هو حاصل عندنا.. أننا نرى ضرورة منع اللجنة من الحضور" حدث ذلك فى حضور "أحمد ذو الفقار" وزير الحقانية و"توفيق نسيم" وزير الأوقاف – آنذاك –

 

غطرسة المستعمر تجعله لا يسمع غير صوته.. وكذلك "المستبد"!

 

أصرت "بريطانيا" على اللجنة وضرورة حضورها.. فالمعلن كان أنها قادمة لتقصى الحقائق حول اندلاع ثورة الشعب.. والحقيقة أنها كانت مكلفة بوضع إستراتيجية جديدة, تمكنها من الاحتفاظ بمصر واستمرار احتلالها.. ولما كان يوم 24 أكتوبر.. كان عدد من الطلبة متجمعون فى "حديقة الأزبكية" يستمتعون بسماع فرقة الموسيقى العسكرية.. فوجئوا بالفرقة تعزف النشيد الوطني البريطاني.. أحتج الطلبة وانطلقوا متظاهرين.. فى الوقت نفسه شهدت الإسكندرية مظاهرة, تصدى لها جنود الانجليز مع الشرطة.. وقعت مصادمات.. سقط خمسة شهداء وجرح 33 بينهم جنود.. ترتب على الحدث مظاهرة حاشدة فى اليوم التالى فى الإسكندرية.. ولأنه كانت هناك "أصابع" تجيد إدارة المشهد.. انطلقت مظاهرة فى القاهرة مع عدد من المظاهرات المحدودة فى أماكن متفرقة!! تصاعدت الأحداث فى الإسكندرية التى لم تهدأ.. كادت الأمور تنفلت.. ضحايا كثر وأعمال تخريبية متواصلة.. اضطر مجلس الوزراء إلى إصدار قرار يوم 5 نوفمبر بمنع المظاهرات.. فرضت السلطات العسكرية غرامات مالية فادحة على الأهالي.. استمرت الاضطرابات حتى يوم 13 نوفمبر الذى كان مشهودا.. أضرب الطلاب عن الدراسة.. أغلق التجار محالهم, وانفجرت مظاهرات عارمة تندد بقدوم "لجنة ملنر".. نشرت الصحف أخبارا عن احتمال استقالة الوزارة بعد لقاء عقده "محمد سعيد" مع "اللنبى" ثم صدر بيان تكذيب.. ويوم 15 نوفمبر صدر عن "دار الحماية" بيانا آخر يقول: "إن سياسة بريطانيا العظمى هى المحافظة على الحكم الذاتى تحت الحماية البريطانية فى ظل حاكم وطنى"!! وراح البيان يشرح طبيعة عمل "لجنة ملنر" وأنها قادمة لاستشارة "عظمة السلطان" والوزارة وأصحاب الشأن فيما يجب أن يكون عليه المستقبل.. فردت لجنة "الوفد" بقيادة "عبد الرحمن فهمى" ببيان يوم 16 نوفمبر لإعلان رفض ادعاءات دار الحماية, وأن هذا يخالف إرادة الشعب!!

 

غطت المظاهرات أنحاء مصر.. كل شارع وميدان فيه آلاف المتظاهرين.. اضطر "عظمة السلطان" أن يقطع أجازته الطويلة فى الإسكندرية.. كان يقضى شهر العسل!! تم إخراجه من محطة القطار بصعوبة.. أخبار سقوط شهداء وقتلى يتناقلها الناس.. تشتعل المظاهرات أكثر فى "عابدين" و"الموسكى" و"العتبة" والرصاص يدوى فى كل مكان.. ويوم 17 نوفمبر خرجت 11 جنازة شعبية لشهداء اليوم الرهيب.. ويشهد يوم 18 نوفمبر مظاهرة لسيدات المجتمع الراقى بالسيارات, يهتفن "تحيا مصر.. عاشت مصر حرة مستقلة" بميدان الحلمية الجديدة.. وتم إعلان قبول استقالة وزارة "محمد سعيد" يوم 19 نوفمبر.. واستدعى "اللنبى" محمود باشا سليمان رئيس لجنة الوفد المركزية, وطلب منه أن يغادر القاهرة إلى "المنيا" وكان معه "إبراهيم سعيد" وكيل اللجنة الذى طلب منه السفر إلى دائرة أملاكه فى "الغربية" وحين طلب من "عبد الرحمن فهمى" السفر إلى "عزبته" قال له: "لا أملك عزبة.. ظروفي لا تؤهلني لأن أصبح من الأعيان"!!

 

تم الإعلان عن تكليف "يوسف وهبة" بتشكيل وزارة جديدة.

 

صدق عليها "عظمة السلطان" يوم 20 نوفمبر.. وذهبت الوزارة الجديدة بكامل هيئتها لمقابلة جناب اللورد "اللنبى" فى اليوم التالى.. وقام جنابه برد الزيارة لهم يوم 22 نوفمبر!!

 

كانت هذه هى "الديمقراطية" التى يأملها الاستعمار!

 

كانت استقالات الوزارات وتكليف غيرها.. هل "الليبرالية" التى يبكى عليها "خدم الملكية والاستعمار" فالمهم أن تبقى الكلمة الفصل "لجناب اللورد" وأن ينعم "عظمة السلطان" أو "جلالة الملك" بحياة سعيدة.. وأن تنهب الجاليات الأجنبية ثروات البلاد, ولها أن تكون "الموضة" فى "القاهرة" قبل أن تنزل فى "لندن" و"باريس".. وللفقراء الجنة فى الآخرة!!

 

سلطات الاحتلال ترفض إلغاء الأحكام العرفية!!

 

بموجب هذه الأحكام يصدر "اللنبى" إنذارا جاء فيه: "أنا الفيلد مارشال اللنبى أنذر الجميع بأن جميع أعمال التحريض على المظاهرات المخلة بالنظام.. وجميع الأعمال التى من شأنها أن تعطل السلطة وتجعل النظام العام فى خطر.. تعتبر مخالفة للأحكام العرفية, وتجعل مرتكبيها عرضة للقبض عليهم ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية"!! وأعقبت هذا الإنذار عمليات قبض واعتقال شملت عددا من المفكرين والمحامين.. بينهم "مصطفى القاياتى" و"محمود أبو العيون" و"إسماعيل أباظة".. وتم تحديد إقامة "على ماهر" فى "الأقصر" وصدرت تعليمات إلى "إسماعيل صدقى" بالسفر إلى عزبته فى "زفتى".. وتم إعلان اعتقال عدد آخر من قيادات "الوفد".

 

يوم 25 نوفمبر تحدث "لورد كيرزون" فى لندن عما يحدث فى مصر!!

 

أعلن وزير خارجية بريطانيا أن "الاشتراكيين" وراء ما يحدث!!

 

وقال: "لقد اعترفت الدول التى وقعت على معاهدة الصلح, بالحماية البريطانية على مصر.. وأن لجنة اللورد ملنر هدفها التقدم التدريجى فى نظام الحكم الذاتى, والمهيجين يتجاهلون هدف اللجنة.. مستغلين غلاء المعيشة والأسباب الاقتصادية"!!

 

أخيرا.. وصلت "لجنة ملنر" يوم 7 ديسمبر عام 1919.

 

أصدرت "لجنة الوفد المركزية" بيانا جاء فيه: "أجمعت الأمة المصرية على مقاطعة لجنة لورد ملنر.. لأن المسألة المصرية باتت دولية, وقبول التفاوض معها يجعلها مسألة داخلية بين مصر وانجلترا.. ولأنهم يريدوننا التسليم للحماية, مع أن الأمة اتفقت على رفضها لهذه الحماية.. فضلا عن أن أى إجراء أو حوار سياسى لا يمكن أن يحدث فى ظل الأحكام العرفية.. والشعب المصرى لن يمنح الحماية شرعية كما تريد بريطانيا.. وانتهى البيان بعبارة الاستقلال عنوان مجد الأمة.. والمجد ليس سلعة تباع وتشترى"!!

 

تفاصيل ما يحدث فى مصر كان "الوفد" يعرفه أولا بأول, عبر نظام رتبه "عبد الرحمن فهمى" وعين له مسئولا يستخدم شفرة لم تكتشفها سلطة الاحتلال.. وتطورات الموقف فى "باريس" كانت تصل إلى "القاهرة" وتنشرها الصحف, إضافة إلى منشورات يتم توزيعها فى التجمعات.. وعاشت مصر حالة حزن شديدة يوم 17 نوفمبر عام 1919 بسبب وفاة "محمد فريد" رئيس الحزب "الوطني المصري" فى "برلين" وبعدها بأربع أيام وافق "يوسف وهبة" على تشكيل الوزارة.. فإذا بالحزن عام على رحيل زعيم وطني كبير.. وحزن خاص فى أوساط المسيحيين على قبول أحدهم الخروج على إجماع أمة تطلب استقلالها!

 

تعامل "عبد الرحمن فهمى" مع الحدثين بما يستحق كل منهما.. بعث ببرقية إلى أسرة فقيد الوطن "محمد فريد" وسجل فيها: "إذا كانت الأمة فقدته.. فإنها لم تفقد مبادئه, وآيات وطنيته والدروس السامية التى ألقاها فى جميع مواقفه.. وبموته تمكن من نفسها مبدأ التضحية فى سبيل الدفاع عن الوطن, وفى هذا تخفيف لوقع المصاب على النفوس".. ثم تولى بعدها بأيام عزل "يوسف وهبة" عن مجتمعه المسيحى الذى اجتمع وصب عليه جام غضبه فى مشهد يستحق أن نتوقف أمامه..

 

يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات