المؤلف.
محمود الشناوي
في ذكرى
رحيل الاعلامية العراقية " أطوار بهجت"، هذه قصتها المنشورة في كتابي
( سنوات
الجحيم- أوراق مراسل صحفي بالعراق)، بعنوان تحية الوداع .
وفي نهاية كلّ يوم
ينعب ؛ في خرائب
روحنا ؛ البوم
فنمرّ على بنادق
القناصة
ونكتب اسمنا على
رصاصة
عندما كنت ألملم
أوراقى لمغادرة العراق فى مهمتى الأولى يوم 18 مارس 2003، جاءنى صوت "أطوار
بهجت" رحمها الله، نقيا كما اعتدت، خاليا من الوحشة، تقول " أعذرنى
محمود لأنى لم أحضر للسلام عليك قبل سفرك إلى مصر، لأننى لا أجيد تحية الوداع "،
عدت إلى مصر دون أودع أطوار، تلك الصديقة التى تفيض أصالة ومروءة، الرائعة فى كل
شيىء، بعد هذا التاريخ بحوالى ثلاث سنوات، عندما كنت أستعد للعودة إلى بغداد،
لأبدأ مهمة جديدة، كان خبر اختطاف وقتل أطوار، قد سوٌد كل شاشات وصفحات الجرائد فى
العالم، ليدشن مرحلة من الجنون، أطلقت شهوة القتل لتحرق الأخضر واليابس وتجعل
الموت مبتزلا من كثرة الاستعمال، يلوح فى كل وقت للعابرين أو المرابطين فى إنتظار
أقدارهم، إلا أن موت "أطوار"، لم يكن مثل غيره، ورحيلها لم يكن رحيلا
عاديا، لم يكن لموتها حرمة، ولم يكن لجسدها المثخن بطعنات الفراق والفقد والألم،
حظوة الدفن الهادىء، بعد العثور عليها، وقد ثقب جسدها الرصاص، ملقاة على قارعة
الطريق، ليبدأ المشيعون رحلة من الرعب لمواراة الجثمان فى مستقره الأخير، رحلت "أطوار"
هذه المرة، قبل أن تلقى تحية الوداع الأخيرة على أى من أهلها أو أصدقائها، حتى
أنها لم تستكمل تحضيرات زفافها، الذي كان مرتقبا، فهى كما كانت تقول دائما " لا
تجيد تحية الوداع " .
توفي والد أطوار وهي
في الـ 16من عمرها ، وكان مديرا لإحدى المدارس في سامراء، لتتكفل بمعيشة أمها
وأختها الوحيدة (إيثار)، التي ما تزال طفلة صغيرة بعد.
عملت أطوار بعد
تخرجها في الجامعة، في عدة صحف ومجلات ، قبل أن تنقل إلى قناة «العراق» الفضائية
كمذيعة ومقدمة برامج ثقافية، بحكم موهبتها الشعرية التى أفرزت ديوانا يتيما عنوانه
" غوايات البنفسج "، وبعد احتلال العراق، عملت فى قناة الجزيرة، قبل أن
تنتقل قبل 3 أسابيع من استشهادها في مكتب قناة «العربية» بالعراق.
إضطرت أطوار للانتقال
مع أسرتها الصغيرة من سامراء إلى بغداد من أجل العمل حيث استقرت بعض الوقت في
منطقة العامرية غربى بغداد التى كانت ساحة حرب شديدة الخطورة وبهذا لم تتمكن من
العيش طويلا هناك نظرا للاضطرابات الأمنية وانتقلت إلى منطقة الحارثية وسط العاصمة
وذلك حفاظا على أمها وشقيقتها الصغيرة، لكنها لم تكن تخشى شيئا فيما يتعلق بحياتها
هي بعد أن تحولت شاعرة الحب الرقيقة إلى مقاتلة، سلاحها الميكروفون، كانت تتحمس
للذهاب إلى أكثر الأماكن خطورة دون أى مبالاة بالتهديدات الجدية المحيطة بحياتها،
والتى كانت تتلقاها بشكل مباشر وغير مباشر كلما اقتربت من مناطق محظورة وهى كثيرة
فى زمن المذبحة .
قبل أن تتوجه أطوار
إلى سامراء فى رحلتها الأخيرة إلى الحقيقة، والتى كانت خاتمة عملها في حقل
الإعلام، ونقطة النهاية لحياتها قامت أطوار بتسجيل حلقات لبرنامج «مهمة خاصة» الذي
تبثه قناة «العربية» عن الأوضاع فى كركوك تلك المدينة العائمة على بحيرة من النفط،
والتى كانت وستظل حلقة مؤجلة فى مسلسل الصراعات الذى لا ينتهى بالعراق، ولأن
المدينة لم تكن آمنة تماما، كانت تضطر طوال 3 أيام إلى المبيت في السليمانية
العاصمة الإقتصادية والسياحية لإقليم كردستان العراق، والتى تحظى بأمان كبير ،
والتوجه صباحا إلى كركوك.
كانت أطوار وكل من
يعمل فى حقل الإعلام، يعلم أن الداخل إلى سامراء غير مقرر له الخروج منها، ولهذا
طلب منها الزملاء في مكتب العربية ببغداد التروى قبل تنفيذ قرارها بالذهاب إلى
هناك، خاصة بعد تفجير القبة الذهبية للمرقدين المقدسين لدى الشيعة، وما يعنيه ذلك
من مخاطر تقود إلى الموت فى أفضل الأحوال، لأى إعلامى يحاول سبر أغوار حقيقة ما
حدث، وهى الحقيقة التى ستظل غائبة طويلا ، ردت عليهم «نحن عراقيون ولابد أن نتحمل
مسؤولية نقل صوت العراقيين إلى العالم».
ذهبت أطوار رغم كل
التحذيرات لانه لا شيىء فى الدنيا يمكنه أن يعيق باحثا عن الحقيقة، من التوجه إلى
ساحة المخاطر، رغم علمه بأن القتل ربما يكون أقل ثمن للبحث عن تلك الحقيقة، خاصة
فى بلد مثل العراق فى زمن المذبحة .
لم تستطع أطوار
الدخول إلى المدينة المشتعلة ، توقفت على الأبواب وتلت آخر رسالة عبر الشاشة يوم 22/2/2006،
قالت أطوار «ما زالت مشارف المدينة مغلقة نحن الآن عند المدخل الشمالي لمدينة
سامراء من خلف، المدخل ما زال مغلقاً وعدد من الأهالي الذين تركوها في الصباح قبل
الحادث موجودون معنا الآن، لم يستطيعوا الدخول إلى المدينة، من داخل المدينة
الأنباء المتواترة أشارت بالفعل إلى اعتقال عدد من الأشخاص».
وبعد أن ظهرت على
شاشة العربية لآخر مرة لتقول كلمتها فيما جرى ويجرى بالعراق، لم تسلك "أطوار"
طريق العودة كالمعتاد، ولكنها سلكت طريقا آخر بعد أن أجبرها قاتلوها على تغيير
طريقها المعتاد، ليذهبوا بها إلى حيث لن تعود أبدا، كانت الساعة تشير إلى حوالي 6:30
مساء بتوقيت بغداد، حين علم أعضاء مكتب قناة «العربية» فى بغداد نبأ اختطافها مع
زميلين آخرين، هما المصور عدنان عبد الله ومهندس الصوت خالد محسن في سامراء، التى
كانت تتهيأ لتضع العراق على أعتاب حرب طائفية، يتم فيها قتل المواطنين بالوكالة،
وتتصارع فيها الميليشيات وفرق الموت، لكنها لا توجه أبدا السلاح إلى بعضها وإنما
إلى المواطن العراقى المنكوب، حتى احترقت أنامل المودة بين الجميع، وصارت الفرقة
والدم والكراهية عناوين ثابتة، يساق إليها الضحايا بلا ثمن وبلا سبب معقول، بعد أن
بات الموت قدرا في بلد صار «مقبرة مفتوحة» فى زمن المذبحة .
بدم بارد تم قتل
أطوار بهجت ورفيقيها وإلقاء الجثث على قارعة الطريق، رغم كل الإتصالات التى جرت
بعد إختطافهم، فى محاولة لإنقاذهم من المصير المحتوم، لأن قرار الإعدام كان قد
صدر، من جهات لا تقيم وزنا للمشاعر أو البطولة أو الأخلاق، أو أى من القيم التى
أصدر حكام زمن المذبحة فرمانا بتغييبها إلى حين .
لم يتوقف الأمر عند
قتل الشهيدة أطوار بدم بارد، وإنما تتبع القتلة الموكب الجنائزى بمن فيه، ليستمروا
فى الإنتقام، تارة بالهجوم المسلح على الموكب، وتارة أخرة بسيارة مفخخة، وضعت على
جانب الطريق الذى سلكه المشيعون .
يقول الزميل الإعلامى
ضياء الناصري الذى رافق جنازة أطوار بهجت،
أنها لم تقتل لشخصها، ولم تنتهِ المهمة عند مقتلها، بل حتى الجنازة والمعزين فيها
لم يكونوا بمنأىً عن دائرة الخطر، فأكثر من 100 صحفي تحدوا خطر القتل أو الخطف أو
عدم العودة ليشاركوا في جنازتها، في يوم حظرٍ كاملٍ للتجوال، لكن يداً غادرةً
آثمةً كانت أيضاً بالمرصاد، وحتى وصول المزيد من العسكريين لم يحسم المعركة، التي
لم يكونوا فيها هم هدفاً ولا طرفاً، بل الصحفيون لوحدهم هم الهدف، وساطاتٌ من أعلى
المستويات ومن كافة الأطراف وبعد عدة ساعاتٍ من القتال، سمح للجنازة بسلوك طريقها
إلى مقبرة الكرخ بالعاصمة بغداد، بعد أن توقفت في منطقة خان ضاري في أبو غريب على
بعد
حماة الإعلاميين في
ذلك اليوم وحدهم هم من دفعوا الثمن، واستشهد منهم أربعة فيما جرح ستة، لكن مسيرة
الصحافة وحملة راية الإعلام أكملت طريقها، قتل كثيرون من الصحفيين لكن مسيرتهم لم
تتوقف، ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبدا الدهر بين الحفر.
في قصيدتها “اعتذار” تنبأت
أطوار التى لا تجيد تحية الوداع بالنهاية المفزعة حين قالت.
نبوءة من ألف جرح..
كنت أدري بأنك الموتُ
من ألف جرح..
والسوء آتٍ
لم تكن أطوار الأولى
ولا الأخيرة من مذيعى قناة العربية التى يصدر القرار بتغييبها ويتم تنفيذه بدقة
متناهية حيث سار على طريق الموت قبلها الشاب الطيب علي الخطيب وكذلك علي عبد
العزيز على يد القوات الأمريكية ثم المصور مازن الطميزي ، كما تعرض كاظم جواد
لمحاولة اغتيال وصل فيها إلى أعتاب الموت وكما يقول دائما « عايشت لحظات الموت بكل
تفاصيلها « ورغم ما أصيب به من عجز جسدى إلا أنه هذا العجز لم يتسلل إلى إرادته
ولم يطفىء وهج وجهه المشرق الذى يطالعنا به عبر شاشة العربية من وقت إلى آخر ، كما
تعرض مكتب القناة في بغداد لعمليتى تفجير قضى خلالهما عدد من العاملين في المكتب
كان آخرهما التفجير الذى أثار جدلا واسعا فى يوليو عام 2010 عندما تمكن إنتحارى
يستقل سيارة مفخخة من إختراق كل الحواجز والتحصينات وأن ينفذ من الإجراءات الأمنية
المشددة ونقاط التفتيش المتحفزة دائما التى تحيط بمقر مكتب العربية فى منطقة
الحارثية بجوار منزل نائب رئيس الوزراء العراقى السابق الدكتور سلام الزوبعى الذى
يحظى بحماية فائقة ليفجر سيارته المحملة بحوالى
0 تعليقات