آخر الأخبار

الإسلامفوبيا الفرنسية ... في البحث عن جذور الشر (2)

 

 




 

د. وسام الدين محمد

الثالث من رجب 1443ه

الرابع من فبراير 2022م

 

«لا ينبغي على الأقليات أن تصبح مشكلة للأغلبية، فقط لأنهم يتساوون مع الأغلبية»

 

تصريح لنيكولا ساركوزي – رئيس الجمهورية الأسبق – عام 2007 أثناء توليه وزارة الداخلية.

 

«لما يزيد عن قرنين، قمعت السلطة السياسية لغات الأقاليم. من المؤكد أن الجمهورية قامت بعمل هائل أن حملت كامل الشعب الفرنسي على استخدام اللغة الفرنسية. ولكن، هل كان من الضرورة محو الخصائص الثقافية واللغوية لأقاليم كاملة لبلوغ هذا الهدف؟»

تصريح لجاك لانج وزير التعليم الأسبق عام 2001.

 

الإسلامفوبيا الفرنسية ... في البحث عن جذور الشر (1)


أمة ممزقة

 

اجتاح البرابرة أوروبا بعد انحطاط الإمبراطورية الرومانية، واقتسمت قبائلهم أقطارها، فكان نصيب قبائل الفرنجة ذلك القطر الذي عرفه الرومان باسم بلاد الغال، سكانه الأصليين، ثم أصبح يعرف باسم فرانكيا نسبه لحكامه الجدد، قبل أن نعرفه مؤخرًا باسم فرنسا. تحول البرابرة في البلدان التي غزوها إلى ارستقراطية عسكرية حاكمة، بينما تحول سكان البلاد الأصليين إلى عبيد أقنان لدى هؤلاء فيما عرف تاريخيًا باسم نظام القنانة، ووفقًا لهذا النظام تحول السكان الأصليين إلى ما يشبه ماكينات زراعية حية تعمل لدى أسيادها فرسان الفرنجة، فلم يكن العبد القن يملك أي شيء، حتى ملابسه كانت ملك سيده، وكان عليه أن يعمل في زراعة الأرض لحساب سيده، ولا ينال من كد يده إلا قوت يومه وأسرته.

 

وقد حفظ لنا التاريخ والأدب صور مرعبة لما كانت عليه حياة أقنان تحت حكم الارستقراطية العسكرية البربرية الفرنجية، ففي كتابه روح القوانين، يذكر مونتسكيو أن قوانين البرابرة الفرنجة كان تعطي للإقطاعي الحق في أن يحظى بالليال الثلاثة الأولى مع عروس أي من عبيده الأقنان، وهو ما اسمي (حق الإقطاعي Dorit du seigneur)، وهو الأمر الذي ذكره أيضًا فولتير في كتابه القاموس الفلسفي.

 

 أما المؤرخة الفرنسية المعاصرة دينيس بريسارد ميا Denise Péricard-Méa، في كتابها العصور الوسطى Le Moyen Age، فذهبت إلى أن الارستقراطيين الفرنجة كان يملكون حق تدمير droit de ravage ممتلكات العبيد الأقنان، بل وحق قتلهم droit de prelassement دون عواقب، وقد أشارت إلى أن الفرنجة اعتبروا هذه الحقوق منحة ربانية، وقد أكد قساوسة الكنيسة الكاثوليكية هذا الأمر لرعية كنيستهم من العبيد الأقنان، وفي المقابل كان يحق للكنيسة أن تمتلك الأرض وكذلك عبيدها الأقنان وتعفى من أي ضرائب تؤدي للحكام المحليين أو الملوك.

 

ولم تنتهي القنانة من فرنسا بانتهاء العصور الوسطى، ولكنها استمرت حتى اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 التي ألغت القنانة رسميًا في فرنسا، وهو ما يعني أنه حتى قيام الثورة الفرنسية لم تكن هناك أمة فرنسية واحدة، ولكن في الواقع كان هناك شعبين، الارستقراطية المنحدرة من الفرنجة والأقنان المنحدرين من الغال سكان فرنسا الأصليين، ولكن هذا الانقسام لم يكن الانقسام الوحيد، فإن هناك أقاليم لم تكن حتى العصر الحديث ضمن فرنسا، وتميزت بقومتيها ولغتها، مثل أقاليم بورجندي وجاسكونيا وجزيرة كوريسكا، وأكثرها حُمِلَت على الانضمام لفرنسا بالسيف، وكان آخرها الالزاس التي غنمتها فرنسا من ألمانيا عقب خسارة الأخيرة الحرب العالمية الثانية، وعلى مدى التاريخ لم تنظر النخب الفرنسية المنحدرة من الفرنجة نظرة احترام لأبناء هذه الأقاليم، ولا عاملتهم معاملة المواطنين، وقد صور لنا الأديب الفرنسي ألكسندر دوما في روايته الفرسان الثلاثة كيف يتعرض أحد أبطال روايته للاحتقار والإهانة في باريس زمان لويس الثالث عشر، لا لشيء إلا لأنه ينحدر من اقليم جاسكوني.

 

وقد عملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ زمان الكاردينال ريشيله في القرن السابع عشر، على فرنسة كل من يسكن داخل حدود الدولة، بمعنى حمل جميع السكان على التخلي عن لغاتهم وثقافتهم القومية واستخدام الفرنسية، ولكن تلك الحدود التي كانت تتوسع وتنكمش باستمرار بسبب النزاعات بين الدول الأوروبية، مما يعني أن هناك أقاليم لم تكن فرنسية بكامل، أجبر سكانها على استخدام اللغة الفرنسية في التعليم والمعاملات القانونية، وعندما اندلعت الثورة الفرنسية، كان نصف سكان فرنسا فعلًا لا يتحدثون الفرنسية؛ وكان ريشيله قد أنشأ الأكاديمية الفرنسية لتعزز من اللغة الفرنسية، وحارب استخدام لغة بروفانس التي كانت شائعة في فرنسا ربما أكثر من الفرنسية نفسها، وقد مشي على سنته من جاء بعده من حكام فرنسا. واليوم، تحاول الكثير من الأقليات التي تعيش في فرنسا مثل الكورسيكيين والألمان والجاسكون والبروجند الحصول على حقوقها الثقافية، ولكن الدولة الفرنسية ترفض ذلك بشدة وإصرار.

 

الفرنسيون إذًا أمة ممزقة، ممزقة اجتماعيًا وممزقة قوميًا، وممزقة لغويًا، وهذا التمزق لا يمكن جبره إلا بالبحث عن عدو متخيل يوحد الفرقاء، ولكن لا يهددهم حقًا، وفي القرن التاسع عشر كان العدو المتخيل المفضل للأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة هم اليهود، وقد حفظ لنا التاريخ قضية دريفوس الضابط اليهودي بالجيش الفرنسي الذي اتهم بالعمالة للألمان سنة 1894 ثم ثبت فيما بعد براءته، وقد لفقت له التهمة من قبل النخبة العسكرية في الجيش الفرنسي لتحويل أنظار الشعب عن اخفاقاتها وتحميل الأقلية اليهودية مسئولية هذا الإخفاق.

 

واليوم، تبحث النخب الفرنسية عما يجبر تمزقات فرنسا، التي تفاقمت بفضل سياسات المؤسسات المالية الربوية المهيمنة على فرنسا، وليس هناك أفضل من أن يحمل جريرة مصائب فرنسا المتراكمة مثل الأقلية الأحدث والأكثر هشاشة في المجتمع الفرنسي. المسلمون. وبذلك يصبح الفشل الاقتصادي سببه المهاجرين المسلمين وليس النظام الربوي الذي يمتص دماء الفقراء ويثري نسل شيلوك، فشل النظام الديموقراطي سببه تهديد الإسلام لقيم العلمانية، وليس عجز العلمانية عن إرساء العدالة الاجتماعية، إذا فلتجتمع كل فرنسا على عداء المسلمين.

 

[يتبع]

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات