د. وسام محمد عبده
24 رجب 1443 هـ
25 فبراير 2022 مـ
لم يكن مقبولًا أن أنتهى من رحلتي القصيرة تلك مع الفانتازيات
العربية دون الوقوف مع الأديب الليبي إبراهيم الكوني، أكثر من أثرى الفانتازيات
العربية بأعماله وعوالمها الأسطورية والغرائبية.
ولكن المشكلة مع إبراهيم الكوني أي أعماله أختار ليمثل أدب الرجل.
فالرجل غزير الإنتاج، وموضوعاته متنوعة ولكن القسم الغالب عليها أدب الفانتازيا،
ومع الوقت رحت أتأرجح بين خيارين، رواية السحرة، ورواية المجوس، وكلتاهما رواية
ملحمية ضخمة وكلتاهما نشرتا في مجلدين، ولكن الأولى أجمع لعوالم الكوني، في حين أن
الثانية قد نالت شهرة واسعة بفوز مؤلفها بجائزة الدولة السويسرية للأدب المترجم
إلى الألمانية عن هذه الرواية، وفي النهاية قررت أن استكمل رحلتي مع السحرة،
لأسباب منها الغير موضوعي إذ أني أحببت السحرة دائمًا أكثر من المجوس، ومنها
الموضوعي إذا أني أرى الكوني بفكره وادبه ولغته في ثنايا هذه الرواية أكثر من أي
عمل آخر له.
تبدأ الرواية مع جبارين القادم من مملكة الحمادة، الذي ينزل على
بورو، ويصبحا صديقين أو توأمين على حد تعبير بورو، ومن ثم يخرجا في رحلة طويلة في
الصحراء طلبًا للعودة إلى مملكة الحمادة.
أرض الحمادة نفسها التي جاء منها جبارين قد ضربها الجدب فأهلكها،
وقضى على سكانها نقص النساء، قبل أن يقرر من بقي الصيام حتى الموت فرارًا من
الجدب. يدور الرفيقان في الصحراء، في طريقهما إلى مملكة الحمادة، وهم دائمًا تحت
تهديد وانتهيط اللئيم، الشيطان الذي طرد من مملكة أزجر السماوية فراح يسمم حياة
البشر، وتحت تهديد الجن الذين يتقاسمون الصحراء مع البشر، يحميهم السحرة حينًا،
ويتخلون عنهم حينًا آخر.
تقدم الرواية رؤية مثنوية للعالم، فلكل شيء وجهيين متناقضين
ومتكاملين، وأول هذه المتناقضات المتكاملات الصحراء نفسها، تلك التي ينزلها الكوني
منزلة خاصة في كل أعماله، فهي الأم التي يأتي منها الإنسان كي يعود إلى جوفها على
نحو ما أتى على لسان ساحر القبيلة الأعمى، أو كما يعبر الكوني نفسه قائلًا «الأرض
الصحراوية هي أم كل الصحراويين»، ولكنها في النهاية قبرهم، فهي مهد ولحد؛ والجن
جيران البشر في التيه الصحراوي، وظاهرهم كائنات غامضة شريرة، ولكن مع تقدم صفحات
الرواية يسأل القارئ نفسه هل هؤلاء الجن مجرد نعت لتلك القوة الطبيعية الصحراوية
العصية على سيطرة الإنسان، كما نعت تجار الروم أبناء الصحراء العصيين على
الاستعباد بالجن؛ حتى ليجد القارئ نفسه في أكثر من موضع في الرواية يسأل نفسه، هل
بورو أو جبارين جني؟ وتظل صورة السحرة، والتي استمدت الرواية اسمها منهم، صورة
ملغزة حتى آخر سطر، السحرة في ظاهرة الرواية، هؤلاء القادرين على استخراج كنوز
الصحراء، وأن يحولوا تبرها ذهبًا يحرسه من قطاع الطرق الحديد الذين استخرجوه من
ارض الصحراء وسبكوه في النار، هؤلاء القادرين على علاج المرضى بالقليل الذي تنبته
أرض الصحراء، وطرد الجن مستخدمين أسرار الحروف والكلمات التي يعرفوها، ولكن حكمتهم
الحقة هي أنهم يعرفوا الموت متى حضر، ولذلك منحو الزعيم الذي عرف أن قبيلته إلى
هلاك، لقب الساحر الأكبر، ولأنه أختار أن يصوم حتى الموت، لأن الزعيم الحق يتقدم
قبيلته للموت. أما الرحلة نفسها، فهي رمز مثنوي آخر، فالحمادة هي المهد وهي اللحد،
كما أوضح الكوني ذلك في خريطته التي أضافها إلى نهاية الجزء الثاني من الرواية،
وبذلك فإن رحلة جبارين وقرينه بورو هي رحلة الإنسان في صحراء الحياة.
في هذه الرواية، وفي جميع روايات الكوني، يستلهم المؤلف مادته من
اساطير وثقافة وطرق عيش شعب الطوارق الذي ينتمي إليهم. على عكس التصور السطحي لدى
البعض حول الطوارق، كشعب مرتحل ومنعزل في الصحراء الكبرى منقطع عن العالم، فإن
الطوارق كان من أكثر شعوب العالم تفاعلًا مع الحضارات المحيطة، إذ كان الطوارق منذ
قديم الأزل بقوافلهم التي تتحرك في الصحراء الكبرى شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا،
همزة الوصل بين مصر في الشرق ونوميديا في شمال أفريقيا، ثم بين قرطاجة ومن أعقبها
من رومان وبيزنطيين على الساحل المتوسطي وأفريقيا جنوب الصحراء، وبعد انتشار
الإسلام اتسع اتصالهم بالحضارة العالمية في سياق عالم الإسلام الواسع، ولذلك فلا
عجب أن نجد ضمن القاموس الأسطوري الطوارقي عناصر تقابل أخرى في أساطير تنتمى
لحضارات شتى.
ولهذا السبب، سوف تجد الكوني يستعير اسطورة الخلق البابلية معللًا
انفصال مملكة ازجر السماوية عن أرض تانيت الصحراوية، كما أن رفقة جبارين وبورو
ورحلتهما تتشابه في بعض أو كثير من الأوجه مع رحلة جلجامش وانكيدو، كما أن أصل
وانتهيط اللئيم وكيف تنكر في جلد حية وخدع ابن زعيم أزجر فطرده أباه من المملكة
السماوية قد استعارها تفصيلًا من الرواية التوراتية في سفر التكوين عن قصة إبليس
وآدم؛ أما زعيم القبيلة الذي تخلى عنه أتباعه وجنوده وتركوه مريضًا ينتظر الموت
حتى انقذته الصحراء نفسها بالعشبة السحرية أسيار، تبدو مقابلة لأسطورة فيلوكتيتس
بطل حروب الإلياذة والذي روي سوفكليس مأساته في مسرحية حملت اسمه.
في المقابل هناك أساطير الطوارق الصرفة، مثل أسطورة تلك الأسطورة
التي تعلل تفضيل الصحراويين للقمر على الشمس، التي أكلت القرابين دون أن ترسل
المطر، بل أرسلت الجدب والحرارة، بينما القمر يدل الصحراوي على الطريق في الظلمة. وأسطورة
التوأم تانس وأطلانتطس ابنا أكا، وكيف زرعت تامدورت - الصورة الأنثوية الوحشية
لوانتهيط – الحقد في قلب الأبنة تانس تجاه أخيها حتى قتلته بوحشية.
يرى بعض النقاد أن الكوني حبس نفسه في عوالم الصحراء والطوارق حتى
عجز أن يجدد نفسه، ولكن بعد قراءه أكثر من رواية للمؤلف، يبدو عالمه هذا شاسعًا
حتى أنه يظل دائمًا يحوي تخومًا تنتظر أن يرتداها الكوني بقلمه، كما أن وحدة
العالم واحدة من أهم خصائص الملاحم الفانتازية الكبرى؛ أما ما يميز الكوني فتلك
اللغة البليغة والبسيطة، والتي استطاع أن يدمج فيها عبارات باستخدام اللغات
المحكية للطوارق دون أن يصدم القارئ أو يخرجه عن جو الرواية.
ولد إبراهيم الكوني في واحة غدامس الليبية عام 1948، وفي شبابه
انتقل إلى روسيا حيث درس في معاهدها حتى حصل على درجة الماجيستير في الأدب والنقد
من معهد جوركي للأدب العالمي، وبدأ مسيرته الأدبية في السبعينات، وتعرف عليه
القارئ العربي خارج ليبيا مع رباعيته الروائية الخسوف والتي صدرت في نهاية
الثمانينات. للكوني العديد من المؤلفات الفكرية والأدبية. وبالرغم مما سبق،
فالكوني يكاد يكون مجهول لغير المهتمين بالأدب من العرب، ولعل ذلك بسبب تجاهل
المشارق أو جهلهم بالأدب العربي في شمال أفريقيا والمغرب، وفي المقابل فإن احتفاء
الغرب بمؤلفات الكوني ربما يرجع إلى أنه يكاد يكون الممثل الوحيد للأدب الطوارقي
دون أن يقلل ذلك من قيمته الأدبية.
0 تعليقات