عاطف معتمد
لا يوجد في العالم من يجيد التلاعب في الخرائط مثل هذا الرجل، لو
كان في بلادنا لأسماه دراويش الفكر القومي "إمبراطور العصر" بل وترنم به
بعضهم باعتباره "نبي آخر الزمان"، أما دراويش الفكر الديني فسيعطونه لقب
"خليفة الأمة" الذي جاء بعد طول انتظار ليعيد الأمل وكأنه "الإمام
المهدي" العائد من غيبته الطويلة في وقت تفككت فيه البلاد واستهزأ فيه كل
عابر سبيل بالوطن وهيبته.
نحن اليوم في 23 يناير 2022 والعالم يحبس أنفاسه مع طبول حرب
جديدة، حشد فيها بوتين 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية في تلويح بجحيم كاسح
يغزو فيه الجيش الروسي تلك الدولة المستقلة الآمنة في شرق أوروبا.
ثلاثة خيارات لا رابع لها في الأيام والشهور المقبلة:
(1) ابتلاع روسيا للشطر الشرقي من أوكرانيا ليصبح هذا الشطر مع شبه
جزيرة القرم جزءا لا يتجزأ من روسيا العظمى، التي فقدت سحر الإمبراطورية في عام
1990 لكنها لم تفقد وهج القيصرية منذ مجئ بوتين في عام 2000.
(2) وقوف الدول الغربية والولايات المتحدة وحلف الناتو أمام روسيا
للدفاع عن أوكرانيا والدخول في حرب عظمى تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل.
(3) تسوية انتهازية وصفقة براغماتية يتم فيها الوصول إلى نظام
سياسي في أوكرانيا موالي لروسيا ويحافظ على مصالح موسكو مع قبول الغرب وأوكرانيا
بشكل نهائي بخسارة شبه جزيرة القرم وعدم التفكير مطلقا في مطالبة روسيا بالانسحاب
منها وقد تربعت فيها منذ عام 2014.
الدلائل تشير إلى أن الخيار الثالث هو الأقرب وأن بوتين يلوح
بالخيار الأول حتى يكسب الخيار الثالث، هذا رجل داهية يحرك كل جيشه ويلبس سترة
الحرب وهو يريد السلام والاستقرار في الداخل الروسي.
سنوات طالت أو قصرت ولابد أن يموت بوتين، وبرحيله لن تتغير العقيدة
الأساس في تكوين الفكر الاستراتيجي الروسي وهي أن "أوكرانيا" تعد
"مسقط رأس" الدولة الروسية ومهد ولادتها قبل ألف سنة، وأن العاصمة
الأوكرانية الحالية "كييف" هي أول عاصمة روسية بل كانت أول إمارة تكونها
روسيا في الخريطة السياسية لعالمنا والتي عرفت باسم "روسيا الكييفية".
ولأسباب عديدة تحرك مركز القوة الجيوسياسية الروسي من جنوب شرق
أوروبا عند أوكرانيا وكييف إلى الشمال الشرقي عند موسكو حاليا ، ورغم ذلك تبقى
كييف (أم المدائن الروسية) محط أنظار الفكر القومي الروسي بل والفكر الديني أيضا
منذ أن تبنت روسيا المسيحية على المذهب الأرثوذكسي استلاما من بيزنظة في جنوب شرق
المتوسط.
تفسير التلويح بالحرب الحالية في 2022 بسيط للغاية، وقد بدأت
مشاهده منذ عقدين حين شرع حلف الناتو في ضم الدول الصغيرة التي استنجدت به كي لا
تقع ثانية فريسة لهيمنة موسكو.
بدأت الموجة الأولى بانضمام دول البلطيق الثلاث (لاتفيا –ليتوانيا
– إستونيا) تبعتها بولندا، ثم تشيكيا وسلوفاكيا، ثم المجر ورومانيا وسلوفينيا، ثم
كرواتيا ، وأحدث المنضمين الجبل الأسود وألبانيا ومقدوميا الشمالية وبلغاريا (انظر
الخريطة) .
يبلغ عدد الدول التي ذكرناها هنا 14 دولة وهو رقم سحري غريب يذكرنا
بنفس الرقم الذي خسرته موسكو بسقوط الاتحاد السوفيتي حين تفككت عنها 14 جمهورية
بعضها ورد اسمه في العدد السابق علاوة على 8 دول أخرى في آسيا الوسطى (كزخستان – تركمنستان
– أوزبكستان- قرغيزيا) والقوقاز (جورجيا – أرمينيا- وأذربيجان).
ثلاثون عاما من الخسائر في الإمبراطورية الروسية التي كانت أقرب
إلى إمبراطورية سوفيتية كبرى، وكانت عقيدتها ورسالتها الأقرب لرسالة دين جديد تقوم
نظريا على :
"الإخاء والتشارك وشيوع وسائل وعناصر الإنتاج من أجل حياة
كريمة للجميع".
في تلك "العقيدة الدينية السياسية" تتابع الخلفاء للخليفة
الأول لينين (الذي سمي أيضا نبي الاشتراكية) وفرض جميعهم الصوت الواحد والصحيفة
الواحدة وشقة السكن الواحدة والمزرعة الجماعية، فضلا عن "السجن الكبير"
لكل من يخالف الرأي أو يخرج عن القطيع.
ثلاثون عاما من خسائر الخلافة السوفيتية والغرب الأوروبي بزعامة الولايات
المتحدة لا يشبع ويريد أن يضم المزيد من المكاسب على حساب روسيا، هدف الغرب
الأوروبي بزعامة الولايات المتحدة إعادة إنتاج "الخلافة الرومانية
القديمة" أو إعادة خلق "إمبراطورية واحدة تحكم العالم" والتي لا
أعرف لماذا يترجمها العرب ترجمة حرفية إلى السلام الروماني Pax-Romana" بينما الصواب أن تكون التسمية
"إمبراطورية رومانية مهيمنة على كل الدنيا، رئيسها إمبراطور كأنه الرب على
الأرض" يتلقى الضرائب عن الأقاليم ويفرض عليها حماية عسكرية ويترك لها الحكم
بطقوسها وأعرافها المحلية.
لدى هذا الغرب الأوروبي توصيف غير معلن لروسيا في الدوائر الغربية
وهي أنها "دولة من دول العالم الثالث لديها ميراث شرقي مستبد لكن لديها جيش
عظيم وأسلحة نووية جبارة !"
انا لا اكتب هذا التوصيف من عندي، بل دعني أدهشك أنني قبل عشرين
عاما حين كنت أكتب مقالا صحفيا منتظما عن روسيا كنت أترجم يوميا ما يقوله بوتين،
وعندي تصريح له في مؤتمر صحفي يقول فيه للمراسلين الغربيين:
"إن بلادكم تنظر إلى الشعب الروسي وكأنه شعب بدائي نزل للتو
من فوق أغصان الأشجار ويحتاج أن يغسل شعره ويتخلص من الأوساخ التي علقت به".
لم يكن بوتين يهذي، المفكر العظيم نعوم تشومسكي لفت انتباهنا في
الكتاب الذي تشرفت بنقله للعربية إلى أن بعض الدوائر الثقافية الأمريكية كانت
تتهكم على الشعوب الروسية فلا تكتب اسمها شعوب "السلاف Slav" بل كانت تضيف حرفا واحدا زائدا في
نهاية الاسم Slave" !
عشرون سنة مرت على تصريح بوتين ولم يعد يستخدم هذه اللغة، لقد مضت
فترة التصريحات الشابة الوهجة النزقة، وأصبح الآن أكثر مهارة ودهاء ويجيد التلاعب
ببلده وبخريطة العالم السياسية في مراهنة قائمة على التجربة والخطأ والحشد
والتفكيك والهجوم والتراجع فضلا عن استخدام أسلحة جديدة في الأمن الإليكتروني
مستفيدا من الجينات الوراثية لعباقرة الرياضيات من بين أبناء الشعب الروسي.
قبل ثلاثين عاما كنا إذا قلنا حلف الناتو لابد أن نقول معه حلف
"وارسو" وهو اسم لعاصمة "بولندا" . الذي يدعو للسخرية أن
بولندا برمتها أصبحت اليوم عضوا في حلف الناتو منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
لم يعد لدى روسيا أي أصدقاء في وارسو أو غيره من التحالفات، تقف
روسيا وحيدة دون أصدقاء
قبل قرون قال أحد القياصرة الروس:
"ليس لدى روسيا أصدقاء سوى جيشها وأسطولها"..
لماذا تدق طبول المعركة الآن على حدود "أوكرانيا"؟
ما الذي تمثله هذه الدولة لموسكو وبوتين؟
ماذا تقول الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في شرق أوروبا وجنوب
شرق المتوسط؟
لعلنا نلتقي في مقال جديد
0 تعليقات