د. وسام الدين محمد
الرابع من رجب 1443هـ
الخامس من فبراير 2022م
«يجب أن ندعم كلا الجانبين، جذور فرنسا المسيحية، والدفاع عن
العلمانية»
نيكولا ساركوزي – رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق
من الكاثوليكية إلى اللائكية
منذ ظهور الفرنجة على مسرح الحوادث في أوروبا، ارتبطوا بالبابوية
برباط وثيق لا ينفصم.
قدم الفرنجة القوة
العسكرية اللازمة لتحقيق طموحات البابا السياسية، وفي المقابل منحهم البابا شرعية
دينية يوم أن وضع التاج بيده فوق رأس ملكهم شارلمان وأعلنه أمبراطورًا رومانيًا،
وفيما بعد قدمت صياغة لهذه الشرعية تمثلت في أنه إذا كان البابا هو نائب الرب على
الأرض - في نظر المسيحيين الكاثوليك - والبابا من توج الإمبراطور، فإن هذا يعني أن
الإمبراطور قد اختاره الرب بنفسه، وهو ما عرف باسم الحكم بالحق الإلهي، وهو المبدأ
الذي ظلت الملكيات الأوروبية المستبدة التي انحدرت من الارستقراطية العسكرية
البربرية تعتمد عليه في إخضاع شعوبها التي تفوقها عددًا.
وقد ألجم هذا الغطاء
الديني الشعوب الأصلية للبلاد التي فتحها الفرنجة عن الثورة ضد النبلاء الذين
حولوهم إلى عبيد أقنان، وكان على هؤلاء العبيد أن يستمعوا برعب وورع في قداس الأحد
في أبرشية الضيعة التي يملكها ويملكهم فيها النبيل الفرنجي إلى القس الكاثوليكي
يتوعدهم بالخلود في الجحيم لو عصوا البابا أو النبيل الذي يملك أعناقهم.
ولم يكن من الممكن لهؤلاء العبيد الأقنان الصبر على ظروف عيشهم
المروعة، الظروف التي وصفتها في المقال السابق، فظهرت بينهم حركات أعادت تفسير
المسيحية لتتمكن من إنكار سلطة البابا المدعاة، وبالتالي سلطة النبلاء المستمدة من
الكنيسة، وللتمكن بذلك من رفع راية الثورة ضد الكنيسة والنبلاء.
وتعتبر حركة الدولشينويين مثال على هذه الحركات، وقد نشئت هذه
الحركة في نهايات القرن الثالث عشر، وانتشرت في شمال إيطاليا وجنوب ألمانيا وجنوب
شرق فرنسا، ونسبت إلى أحد الرهبان الفرنسيسكان ويسمى الأخ دولشينو، وقد ركزت أفكار
الحركة على أن الكنيسة بوضعها الحالي لا تمت بصلة إلى المسيحية، وأن على رجال
الدين أن يندمجوا مع الناس وان يكسبوا قوتهم بأيديهم وأن يلتزموا بالفقر والتقوى،
وبإنكارها لسلطة الكنيسة أنكرت سلطة النبلاء الذين اعتبرتهم مغتصبين ومحتكرين
للثروات والسلطة بغير وجه حق، ونادت الحركة بمجتمع يتساوى في الجميع، ويشتركون في
الممتلكات ويتبادلون خدمة بعضهم البعض. وبعد أن جردت أفكار الحركة الكنيسة
والنبلاء من الشرعية، حمل أتباعها السلاح ضد الكنيسة والنبلاء، ولكنهم خسروا
المعركة في النهاية بسبب تفوق عدوهم المادي من ناحية، وبسبب رفض الكثير من الأقنان
للحركة وأفكارها متأثرين بالدعاية الكنسية.
كانت حركة الدولشينويين واحدة
من العديد من الحركات التي عصفت بأوروبا المسيحية في القرنين الثاني عشر والثالث
عشر، وفي جنوب فرنسا وحدها في هذه الفترة ظهرت ثلاث حركات قوية، وتم قمعها جميعًا.
ويرى المؤرخ المعاصر آلكسندر كريستيانوبولس أن هذه الحركات التي
يسميها بالفوضوية المسيحية كانت مقدمة لحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر،
وهي الحركة التي جوهرها إنكار سلطة البابا والكنيسة، وقد قدر للإصلاح الديني
النجاح في ألمانيا لانحياز كثير من نبلاء هذه البلاد لها، سعيًا منهم للتحرير
سلطتهم من الباباوية، في حين أن حركة الإصلاح في فرنسا فشلت فشلًا ذريعًا نظرًا
لتحالف النبلاء والكنيسة واشتراكهم في القمع الوحشي للإصلاحيين الفرنسيين.
وقد أدى فشل حركة الإصلاح الديني في فرنسا إلى مأزق اجتماعي صعب في
ذلك البلد، فمنذ القرن السادس عشر، كانت طبقة أبناء المدن الأحرار في فرنسا قد زاد
عددها، ونجحت في أن تصبح مؤثرة في المجتمع لاشتغال أبناءها بالحرف والتجارة بينما
عزف النبلاء ورجال الدين عن هذه الحرف، وقد استطاع بعض أبناء هذه الطبقة تكوين
ثروات فاقت ثروات النبلاء الإقطاعيين، وللمحافظة على حرفهم، قاموا بتطوير نظم
تعليمية دنيوية – أي تتعلق بالعلوم الدنيوية مثل الطب والهندسة - مستقلة عن
التعليم الذي توفره الكنيسة والذي يركز على اللاهوت، كما قاموا بتنظيم أنفسهم في
نقابات حرفية. وعلى الرغم من ذلك، ظل أبناء هذه الحركة دون الوضع القانوني
للنبلاء، وكانوا ملزمين بدفع الضرائب لحكومات تستغلهم ولا تمثلهم أو تدافع عن مصالحهم،
ويصف الأديب البريطاني تشارلز ديكنز هذا الوضع في روايته (قصة مدينيتن) إذ يحكي عن
نبيل فرنسي يدهس طفلًا ثم يلقي لوالده قطعة ذهبية تعويضًا عن مقتل الطفل ويمضي غير
مكترث، وهذا النبيل نفسه يغتصب فتاة صغيرة ويرسل إلى السجن الطبيب الذي عالجها
ليخفي جريمته.
وقد أنتجت طبقة أبناء المدن الأحرار مثقفيها، مثل ديدرو وفولتيير،
والذين إذ شهدوا فشل الإصلاح الديني في فرنسا أمام تحالف الكنيسة والنبلاء،
وتذكروا فشل الحركات الفوضوية المسيحية في العصور الوسطى، أدركوا أن فشل هذين
التيارين كان سببه أن الحركات الفوضوية والإصلاح الديني كلاهما ارتكن إلى المسيحية
وإن أعاد تأوليها، وهو الأمر الذي جعلهم على قدم المساواة مع خصومهم الذين ينتحلون
تأويلهم الخاص للمسيحية، فلم يمنحهم أفضلية على هؤلاء الخصوم تمكنهم من هزيمتهم،
وفي تلك اللحظة التي أدرك فيها هؤلاء هذه الحقيقة، ولدت العلمانية الفرنسية أو
اللائكية Laicite، والتي تعني
باللاتينية الناس، باعتبارها ايدولوجيا طبقة أبناء المدن الأحرار أو هؤلاء الناس
في صراعهم مع تحالف الكنيسة والنبلاء. وهكذا، فإن الثورة الفرنسية التي تبنت
الايدولوجيا اللائكية، كانت وليدة فشل الإصلاح الديني في فرنسا، وعندما اندلعت هذه
الثورة كان هم أنصارها في البداية تدمير الكنيسة والنبلاء بعدما نزعت عنهم القداسة
التي كانت درعهم الحصينة، واستبدلوا سلطة الكنيسة والنبلاء بسلطة الناس، فالسلطة
وفقًا لللائكية في يد مواطنين متساوين، لا في يد كنيسة يزعم كبيرها أنه ينوب عن الرب،
أو نبلاء يزعمون أن ما يهيمنون عليه بحق إلهي ويؤيدهم فيه الكنسية.
ومنذ الثورة الفرنسية أصبح تاريخ فرنسا عبارة عن صراع بين ثلاثة
أجنحة، الجناح الأول هم أنصار اللائكية من أبناء المدن في المقام الأول، ومن لحق
بهم من أبناء الأرياف على قدر طاقته في التحرر من الهيمنة الفكرية للكنيسة، وهو
الجناح الذي تسميه الأدبيات التاريخية والسياسية بأنصار الجمهورية أو التقدميين،
وفي مقابله خصوم اللائكية من أبناء الأسر النبيلة وذوي الاتجاهات المحافظة خاصة في
الريف الفرنسي، وهذا الجناح يطلق عليه اسم الجناح الملكي أو الرجعي، أما الجناح
الثالث فهو جناح شعبوي يؤمن بقومية فرنسية تستعلي على الأمم، وقائد أوحد بطل وأسطوري
لقيادة الأمة تمثل في نابليون. وقد ظلت هذه الأجنحة الثلاثة في صراع مستمر، حتى
بدايات القرن العشرين، حيث أصبح الظاهر انتصار جناح الجمهورية أنصار اللائكية.
ولكن لا ينبغي أن ينظر إلى انتصار هذا الجناح باعتباره نهاية الجناحين الآخرين،
فإن ما حدث أنه تم استيعاب الجناحين الآخرين في اللائكية الفرنسية، وهو ما يسمح
لنا كيف تؤمن النخب الفرنسية باللائكية وتدافع عنها بشراسة، في الوقت نفسه الذي
تؤمن فيها بالمسيحية وتراعاها داخل وخارج فرنسا باعتبارها إرث لفرنسا – الابنة
البكر للكنيسة – ومكون أساسي لا يمكن تجاهله في الثقافة الفرنسية، وقوتها الناعمة
التي تستند إليها في أوروبا وفي العالم المسيحي، فاللائكي الفرنسي يرى نفسه
لائكيًا يرفض الخضوع لمؤسسة الكنيسة ولكنه لا يرفض المسيحية، وهو ما يعبر عنه
بمفهوم أن المسيحية توجد في الفضاء الشخصي، ولا توجد في الفضاء العام؛ أما المكون
النابليوني وما يحتويه من شعبوية واستعلاء فهو ما يمنح اللائكية الفرنسية نكهتها
الفاشية والتي تسمح للفرنسيين أن يدافعوا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة
القانون فيهما بينهم، ويدوسوها بالنعال في مستعمراتهم، دون أن يشعروا بأدنى ذنب أو
يلجمهم تناقض مبادئهم مع أفعالهم.
[يتبع]
0 تعليقات