عاطف معتمد
وضع حمدان فكرته الرافضة للخلافة الإسلامية والداعية إلى القومية
العربية في عام 1971 في كتابه "العالم الإسلامي المعاصر" وقد بلغ من
العمر وقتئذٍ 43 عاما.
جمال حمدان والخلافة الإسلامية ( 4 من 4 )
وحين توفي حمدان في عام 1993 عثرت أسرته الكريمة على مسودة كتاب عن
العالم الإسلامي، فيما يبدو أنه نسخة موسعة مطورة من فكرته هذه بعد 20 سنة من
صدورها أول مرة.
المدهش أنني سألت اثنين من أساتذة الجغرافيا عما جاء في المسودة،
وكانت أسرة الراحل الكريم قد استعانت بهما للنظر في مدى إمكانية نشر المسودة في
كتاب جديد في وقت كان المجتمع متعطش لأي سطر خطه حمدان بعد فاجعة وفاته في عزلته.
قال الأستاذ الأول إن المسودة لا تضم سوى رؤوس أقلام وأفكار حائرة
لم تكتمل، وفقرات تبحث عن مشروع جديد. وقال الأستاذ الثاني إن الأوراق أطروحة
جديدة كاملة لتحديث كتابه السابق.
ورغم أن الأستاذ الثاني أخذ الكتاب إلى بيته أسبوعا كاملا لتجهيزه
للنشر إلا أنه – لأسباب ليس الآن وقت سردها - أعاد ملف الأوراق لأسرته سريعا دون
أن تخرج المسودة للنور. وما تزال المسودة غائبة بعد مرور نحو 20 سنة.
ربما أكون متحيزا إن قلت إنني أميل إلى رأي الأستاذ الأول الذي قال
إن المسودة "مشروع" و"حضانة أفكار" أكثر منها "مسودة
كتاب".
وما يجعلني أميل إلى رأي الأستاذ الأول عدة أسباب، أولها أن هذا
الأستاذ عالم رفيع القدر أصاب من التحقق والشهرة والتقدير في حياته الكثير وكان
ملء السمع والبصر، وكان (رحمة الله عليه) من أكثر محبي جمال حمدان وتقديرا له علما
وخلقا وموقفا من الحياة، ولم أعهد عليه أي شيء ضد الرجل وكانت آراؤه دوما أقرب
للمنطق.
ومن رؤياه الأقرب للمنطق – لأنه كان رفيق دراسة حمدان وزميلا له في
نفس الجامعة - أن العزلة التي فرضها حمدان على نفسه كانت عزلة عظيمة أقرب لبطارية مشحونة
لكن لها موعد نفاد، وهذا الموعد مرتبط بالمراجع وحداثتها.
كان حمدان قد جمع مراجع من بعثته في انجلترا عام 1953 ومراجع أخرى
من القاهرة. وقد وفرت له هذه العزلة المثمرة فهم واستيعاب وتمثل وترجمة ونقل
وتحليل واستعراض المراجع والأفكار التي طرحها في أعماله العظيمة منذ أن دخل في
صومعته عام 1963.
كان رصيد المراجع كافيا تماما لنحو عشرين عاما (1963 -1984) وهو
التاريخ الذي توقف حمدان بعده عن إصدار أي جديد بعد موسوعته العظيمة "شخصية
مصر" والتي يتضح منها لعين الخبير أن مراجعها قديمة منذ أيام البعثة وأن
الحديث المعاصر منها مقالات في صحف سيارة مثل الأهرام.
يندهش عبد الوهاب المسيري حين دخل شقة حمدان بعد وفاته ولم يجد بها
إلا عددا محدودا من الكتب رغم هذا الإنتاج العلمي العظيم الغزير غير القابل
للتكرار. يبرر المسيري (رحمه الله عليه) أن حمدان (رحمة الله عليه) كان يتخلص أولا
بأول من المراجع الزائدة بعد أن يأخذ منها حاجته.
وسواء كانت المراجع عند حمدان قد توقفت أو تخلص منها أو كانت رصيدا
يتناقص ويتقادم بمرور الزمن فإن حمدان في كل حال لم يتمكن من تحديث أطروحته، ومن
أسفٍ أن المسودة التي تحدثوا عنها في عام 1993 لا نعرف أين ذهبت الآن في عام 2022.
وبمناسبة المراجع القليلة التي كان يستعين بها حمدان دعوني أشير
إلى أن الكتاب الذي نحن بصدده عن نقد الخلافة والدعوة للقومية العربية صاغ فيه
عالمنا المبدع نظريته وفق عدد قليل جدا من المراجع رغم أن العالم الإسلامي موضوع
كبير ضخم متشعب، وأطروحة مثل هذه تحتاج مراجع موسعة، ويدهشك هنا أن مراجع وأطروحات
هذا الكتاب لا تتجاوز 20 مرجعا وربما أقل.
ومن بين هذه المراجع العشرين كتاب شهير لمؤلف فرنسي عن الإسلام
والوحدة والخلافة وقد استعان به حمدان كثيرا، سواء بالاستشهاد أو النقد، وهذه
واحدة من منهجية حمدان التي لا يعرفها إلا نفر قليل من النقاد وهي أنه يبدأ فكرته
(بل وعناوين كتبه أحيانا !) استلهاما من مرجع أجنبي شهير لكنه سرعان ما يتخلص من
أسر هذا المرجع، ويخرج عن شرنقته، وينطلق حرا من أسره، وإن بقيت عيناه دوما عليه:
تنظر إليه، وتراجعه، وتستلهم منه بنفس القدر الذي قد تعارضه.
كانت هذه مقدمة ضرورية قبل عرض وجهة نظري على أطروحة حمدان حول رفض
الخلافة ومديح القومية، وهو تعليق سأعرض له في مقالين مقبلين حتى لا أثقل عليكم
هنا.
وأود أن أنتهز الفرصة لأشكر السادة المعلقين من الأصدقاء
والمتابعين على رقي استقبالهم لهذه التجربة في النقاش الهادئ البناء، وحسن تواصلهم
في طريقة طرح الأفكار والآراء ..الموافقة والمخالفة منها على حد سواء.
0 تعليقات