عاطف معتمد
لعلها واحدة من المرات القليلة في تاريخ روسيا خلال ألف عام تدخل
حربا واسعة دون حلفاء. كل تاريخ روسيا ونجاحها العسكري في أوروبا كان يقوم على
تحالفها مع هذه الدولة الأوروبية أو تلك على حساب بقية الدول. صحيح أن روسيا كانت تبدل
الصديق فتجعله عدوا وتقرب العدو فتجعله صديقا إلا أنه كان هناك دوما لعبة تقسيم
الخصوم الأوربيين إلى معسكرين: مع روسيا وضد روسيا.
حرب عام 2022 هي حالة بائسة للغاية لشن حرب من دون حلفاء، ولا يمكن
تصديق ما يقوله البعض من أن الصين ستكون حليفا لروسيا وقت الشدة.
العارفون بتاريخ العلاقات بين الطرفين يدركون أنه لا توجد ثقة
كبيرة أو جسور متينة بين الطرفين، صحيح أن قوة روسيا مفيدة للصين أمام الغرب لكن
روسيا القوية أكثر من اللازم تضر بالصين في آسيا.
روسيا متوسطة القوة أفضل بكثير للصين من روسيا العظمى، كما أنه
بدهي أن روسيا الضعيفة المنتهكة من الغرب ضرر بالغ على الصين من ناحية أخرى.
ولعل هذا ما يجعل طبيعة العلاقة بين بكين وموسكو حذرة ومترقبة
وليست على خط مستقيم دوما ولا يمكن توقع أن يصبحا حليفين على مستوى العقيدة
السياسية والمصالح الدائمة.
دع عنك ما يتوقعه البعض من أن هناك حلفاء لروسيا مثل إيران، فهذا
أيضا مبالغ فيه للغاية، إيران في موقف دفاعي أكثر منه في موقف هجومي، وهذه اللعبة
الشاملة أكبر من إيران.
ومن المفارقة أن الحليف الوحيد الذي كان يمكنه أن ينقذ روسيا من
ورطتها هو "تركيا" لكن تاريخ البلدين هو تاريخ عداء أكثر منه تاريخ
صداقة، هنا عداء عقائدي أيديولوجي روت أرضه الدماء والحرب والحرق والانكسار
والنصر، وتم ذلك لا بطريقة أوروبية براغماتية يمكنها نسيان الماضي وتجاوزه بل
بطريقة شرقية ذات ذاكرة لا تنسى ولا تغفر .
دخلت روسيا حرب 2022 وهي خاسرة لموقف عالمي على المستوى الشعبي، كل
التقارير الإعلامية غير الروسية نجحت في وضع روسيا في موقف المعتدي الغاشم مقارنة
بخروج الإعلام الروسي تقريبا من التأثير على الرأي العالمي.
سأعطيك مثالا بالموقع الرسمي للكرملين على الإنترنت الذي كنت أستقي
منه في أول يومين للحرب كل أحاديث بوتين وكلماته للروس وللعالم، هذا الموقع تم
استهدافه تقنيا في عديد من البلاد ولا أصل إليه هنا في القاهرة ومن ثم لا أعرف
شيئا عما يقوله الكرملين للعالم.
يعود السبب في الخطأ الذي لا يغتفر لروسيا في عام 2022 إلى إساءة
التقدير وإلى نهج اتخاذ القرار بشكل فردي في شن الحرب، وقد شاهد ملايين البشر حول
العالم كيف أن رئيس جهاز الاستخبارات الروسي قال لبوتين إنه يفضل إعطاء فرصة
للحوار مع الغرب لكن بوتين قاطعه واستنطقه بتأييد الاعتراف بالأقاليم الانفصالية
في أوكرانيا تمهيدا للحرب، بل وجعله يردد خلفه ما يريده بوتين بطريقة مؤسفة لا
تليق بمكانة الرجل الكبرى في اتخاذ قرار مصيري بشأن مستقبل روسيا.
من وجهة نظري لقد وصل نجم بوتين إلى أعلى منزلة له في قيادة روسيا
حتى عشر سنوات، ومن وجهة نظري ان سنوات مجده هي ما بين عامي 2000 و2010، ولو كان
خرج من السياسة عند ذلك التاريخ أو بعده ببضع سنوات لكان أمره مختلفا.
منذ أن أخذ بوتين منهج تعديل الدستور ليبقى رئيسا والكل من حوله
يوافقون على ما يفكر فيه بدأت روسيا مسلسل من الخطوات التي تنزل به على الجهة
الأخرى من منحنى الصعود حتى ارتكبت روسيا الخطأ الذي لا مفر منه بحرب عام 2014
بغزو القرم كرد فعل على تخلص الشعب الأوكراني من الرئيس الموالي للكرملين والتهديد
باختراق الناتو.
التحليل الجيوسياسي لا يمكنه لوم روسيا على الحضور في أوكرانيا
لحماية نفسها في القرم من الناتو لكن الجرم والخطأ يكمن في أن الكرملين اتبع سياسة
متخلفة زمنيا ومهاريا وتكنولوجيا.
لقد نجح الغرب في اختراق "المجتمع" الأوكراني بينما ظل
الكرملين على نهجه القديم بمناصرة فرد أو جماعة موالية في "رأس السلطة"
تحقق له الأهداف بالريموت كنترول.
قبل أكثر من قرن مضى وحين تعرضت روسيا لخيانة بعض الحلفاء صك أحد
القياصرة تعبيرا شهيرا قال فيه:
"ليس لروسيا من حليف سوى جيشها وأسطولها" ..
لكن هذه المقولة جاءت بعد خيانة الحلفاء الأوربيين واتخذت روسيا
منها قوة دفع من حيث المبدأ لأنه غدر بها وغرر بها. لكن في تجربة 2022 ذهب بوتين
بنفسه إلى مواجهة العالم دون حساب العواقب، ذهب وهو يعلم أن الكل ضده ولا أحد معه.
ولعل أحد أشكال سوء الحسابات عند روسيا الطريقة التي قابل بها
بوتين الرئيس الفرنسي قبل الحرب في موسكو وإساءة الترحيب به وإساءة إنزاله مكانته
كرئيس لدولة كبرى مثل فرنسا، ولعل ذلك يفسر الموقف المتصلب لفرنسا حاليا ولرئيسها
تجاه بوتين وروسيا.
روسيا اليوم تحارب وحدها بلا حلفاء، لم يخنها أحد، هي اختارت ذلك،
وأسوأ من هذا الاختيار أنها أساءت تقدير التكتيكات الأوروبية الماكرة الغادرة،
واغتر بوتين بالأسلحة الفتاكة التي صنعت حديثا في روسيا والتي قال عنها في تصريح قبل
يومين من الحرب "لدينا أسلحة لا يوجد لها نظير في العالم".
كل ساعة تمر تخسر فيها روسيا المزيد. وقد قلت قبل خمسة أيام في
لقاء على إحدى الفضائيات إن ما يحدث يشير إلى خطرين :
- استدراج بوتين لاستنزافه
-
التغرير بأوكرانيا والتخلي عنها.
لقد أظهر الغرب في أول يومين أنه يغرر بأوكرانيا ثم فجأة أظهر
الخطة التي كانت مخبأة سرا لمواجهة روسيا.
نحن شهود عيان على خطة جديدة تلعب بدهاء ومكر شديدين، تم فيها -
على الأرجح – التغرير بكل من روسيا وأوكرانيا معا، حيث وضعت أوكرانيا كطعم حي بحجم
سمكة شهية ليتم من خلالها إيقاع سمكة القرش الكبرى لتقع في شبكة الحصار الاقتصادي والاستنزاف
والإجهاد والإشغال والاحتواء والتطويق.
0 تعليقات