آخر الأخبار

خرابيش فلسفة (54): ماني وعقيدة اليأس - الجزء الثاني

 

 


 

 

د. وسام الدين محمد

الثالث عشر من شعبان 1443 هـ

السادس عشر من مارس 2022 م

 

فكر ماني

 

كان ماني يعلم أصحابه بأن هذا العالم يحكمه إلهان أزليان ومتساويان، إله للنور والخير، وإله للشر والظلمة، ويسمي ماني إله الأول بملك النور أو بأبي النور، وتبدو فكرة الإلهين المتعارضين والمتساويين فكرة زروفانية محضة، ثم خلق إله النور الإنسان ليستخدمه في حربه ضد إله الظلمة، وكان الإنسان مخلوق من النور الصرف، ثم أراد إله الظلمة أن يتخلص من هذا الكائن المناصر لخصيمه إله النور، فقيد الإنسان في الجسم المادي، فالإنسان في تصور ماني نور خير محتجز في شر المادة، فكل خير يأتيه الإنسان هو بسبب جوهره النوراني، وكل شر يقترفه سببه ظلمة المادة التي تحيط هذا الجوهر النوراني وتمنعه عن الاتصال بإله النور. ويرسل إله النور من آن إلى آخر مرشدين للإنسان لتذكيره بجوهره النوراني، ومن هؤلاء زرادشت وبوذا والمسيح، وقدم ماني نفسه باعتباره أحد هؤلاء.

 

وبينما كانت الزرادشتية والزورفانية تعلمان الناس أن لابد أن يعترك النور والظلمة في نهاية العالم في معركة عظيمة، يهزم فيها الظلام، ويعم النور الأرض إلى الأبد، فيعيش الإنسان في فردوس مقيم؛ كان ماني يعلم الناس أن النور والظلمة متساويان لا يمكن أن يتفوق أحدهما على الآخر، ولهذا فلا مكان في تصور ماني عن التاريخ لمعركة نهاية العالم، وعوضًا عن ذلك قرر ماني أن خلاص الإنسان ممكن إذا كفر بعالم الأكاذيب المادي وطهر نفسه منه، فأمر أتباعه بكل ما ينهك الجسد البشري ويعجل بالموت الذي صوره كتحرر للجوهر المنير للإنسان من العالم المادي، زاعمًا أن فناء البشر لابد أن يؤدي إلى فناء هذا العالم المادي الذي صنعه إله الشر لخداع الإنسان.

 

وراح ماني ينظم أتباعه في طبقتين، الطبقة الأولى اسماها المختارين، أي هؤلاء المستعدين لبلوغ الخلاص عن طريق إنهاك الجسد، ولا يُعرف إن كان قد شجع أتباعه هؤلاء على الانتحار، وقد رسم ماني لمختاريه طريقة العيش التي كان عليهم أن يلتزموا بها لينالوا الخلاص، فكان عليهم أن يمتنعوا على إيذاء كافة المخلوقات، وقد أدى بهم هذا إلى الامتناع عن اكل اللحوم، واكتفوا بأكل النباتات باعتباره أقل ما يمكن من الشر، وأعرضوا عن كافة الأنشطة الإنسانية من زراعة وتجارة وبناء، وعاشوا في مجموعات منعزلة في أديرة خاصة بهم، يمارسون فيها طقوس العبادة التي اصطنعها لهم؛ أما الطبقة الثانية، فأسماها ماني المستمعين، وتضم هؤلاء الذين قبلوا تعاليم ماني، ولكنهم غير مستعدين بعد للحياة وفقًا لهذه التعاليم في الدير، وكان على هذه الجماعة أن توفر الطعام والشراب وكافة احتياجات المختارين الذين عاشوا للعبادة فحسب.

 

خرابيش فلسفة (53): ماني وعقيدة اليأس - الجزء الأول

تبنى ماني موقفًا سلبيًا من المرأة، فكان يعلم أتباعه أن الشر الأول هو روح أنثى، وقد حاولت أن تخنق النور الثالث – السيد المسيح في التصور المانوي - في بداية الزمان؛ ولعله تبنى هذا الموقف بتأثير الحركات المسيحية البدائية التي شب بينها، وكانت هذه الحركات تتبنى موقف معادي للمرأة ورثته عن أسلافها اليهود، ونقلته بعد ذلك إلى كل من تأثر بها سواء ما اصبح بعد ذلك الكنائس المسيحية أو ما انشق عن المسيحية مثل ماني؛ وقد أدى به هذه الموقف إلى أن استبعد النساء من الانضمام للمختارين للخلاص، بل وحرمهم من الخلاص نفسه، واستعمل هذه الحجة لتنفير المستمعين من الزواج والتناسل، وهو الأمر الذي حرمه كلية على مختاريه.

ماني والسيد المسيح

 

كانت الشخصية الدينية الأهم في زمن ماني هي شخصية المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولكن تعاليم السيد المسيح الأصلية كانت قد ضاعت قبل نهاية القرن الأول في خضم الإضرابات السياسية التي عصفت بفلسطين والفوضى الفكرية المستمرة منذ أن بدأت الحركة الهلنستية، واختلف الناس حول المسيح وتعاليمه، فرفض تيار اليهود الرئيسي الاعتراف بنبوة السيد المسيح ونبذو تعاليمه، وانشقت عنهم فرقًا آمنت بالسيد المسيح وتعاليمه جملة، واختلفت في تفصيل إيمانها، حتى أنكر بعضها بعضًا، وجذبت هذه الفرق المتنازعة الكثير من غير اليهود الذين انضموا إليها، وحملوا أفكارهم وتصوراتهم الدينية معهم إلى عقيدتهم الجديدة مما زاد الشقاق.

 

أقر ماني ضمنيًا بالسيد المسيح وتعاليمه، ولكنه أعاد تأويلها بما يتوافق مع نظرته للعالم، وكان في تأويله هذا يستند إلى التصورات الغنوصية السائدة في زمانه، ميزت بين الإله الحق والشيطان الذي يزعم كذبًا أنه إله، واعتبرت الثاني هو إله اليهود، ولذلك نجد ماني يرفض كل الكتب التي اعترف بها اليهود ويقبل فقط بعض الأناجيل وفي مقدمتها انجيل توما، والذي اعتبرته المجامع الكنسية لاحقًا انجيل زائفًا وانكرته. وقد أدلى ماني بدلوه في الصراع الدائر بين الفرق المسيحية حول طبيعة السيد المسيح، فزعم أن هناك ثلاث تجليات للسيد المسيح؛ التجلي الأول المسيح النور، ثالث الكائنات الروحانية التي انبثقت عن إله النور، وأن إله النور كلفه بإرشاد البشر إلى جوهر النور فيهم حتى يتمكنوا من الخلاص من عالم المادة المظلمة؛ ولكن المسيح النور يحبس في جسد مادي من قبل إله الظلمة، وهو في هذه الحالة يمثل التجلي الثاني للسيد المسيح، المسيح الإنسان، وهذا التجلي هو الذي كان عليه أن يتألم ويعذب ويصلب حتى يعلم الإنسان أن التخلص من المادة والظلمة يتم عبر المعاناة والألم، وعندما يموت الإنسان الخير ويتحرر جوهر النور فيه من اسر الجسد، يصبح تائهًا في العالم الآخر، حتى يأتي التجلي الثالث للسيد المسيح، المسيح المرشد، فيرشده إلى سبيله ليتحد من النور الأول.

 

أصبح أتباع ماني بعد مقتله مهوسين بالمقارنة بينه وبين السيد المسيح عليه السلام، فأصبح ماني في الروايات التي يتداولها اتباعه قادرًا على إحياء الموتى وشفاء المرضى يحاكون معجزة السيد المسيح؛ وأعادوا رواية مشهد إعدام ماني ليصلب بدلًا من أن تقطع رأسه، وهم في ذلك أيضًا يحاولون محاكاة الرواية اليهودية/المسيحية حول صلب السيد المسيح؛ وكان أتباع ماني دائمي التركيز على العلاقة بين السيد المسيح وماني، فأشاروا إلى ماني في بعض كتاباتهم بأنه (ماني الذي يحميه المسيح) أو (ماني حواري المسيح).

 

تاريخ المانوية بعد مقتل ماني

 

بعد قتل ماني، تعرض أتباعه للاضطهاد من قبل السلطات الساسانية، ولعل هذا الاضطهاد قد تركز في العاصمة أو في الأقاليم التي تغلب عليها الزرادشتية، فقد استمر انتشار المانوية في الأقاليم الشرقية من الإمبراطورية الساسانية، ومنها انتشرت إلى شمالي الهند وتركستان والتبت والصين، كما انتشرت غربًا حتى وصلت روما نفسها. وكان النزاع بين المانويين والمسيحيين مستشري في جميع أرجاء العالم، حتى تروي بعض الأثار عن مناظرة بين أحد دعاة المانوية والمسيحين في بلاط ملك يريفان – عاصمة أرمينيا اليوم – يخرج فيه داعية المانوية منتصرًا وينجح في إقناع الملك باعتناق عقيدة ماني، بينما نجد واحد من أهم الشخصيات الفكرية في التاريخ المسيحي وهو القديس أوغسطين، نشأ على عقيدة ماني قبل أن يتحول إلى المسيحية في الثلاثين من عمره، ولكن المانوية لم تلبث أن تعرضت للقمع في عهد دقلديانوس ضمن مختلف الفرق الدينية المسيحية واليهودي التي قمعها دقلديانوس، وحتى عندما انتهت حملة الاضطهاد، ظلت سلطات الإمبراطورية تنظر للمانوية وأتباعها نظرة شك بالأخذ في الاعتبار ارتباط مؤسسها بخصمها الإمبراطورية الساسانية.

 

ولعل ظهور الإسلام قد أعطي للمانوية قبلة الحياة، فلقد تسامح المسلمين مع المانوية وسمحوا لهم بممارسة عبادتهم، واستخدموهم في دواوين الدولة. ويشير ابن النديم إلى أن المانوية قبل الإسلام قد ظلوا يتخذون من بابل – مدينة الحلة في العراق اليوم – قاعدة لهم يقيم فيهم رئيسهم الديني، ولكنهم في عصر الوليد بن عبد الملك كان قد انشق عن تيار المانوية الرئيسي جماعة يسميها ابن النديم بالديناورية، وكانت تتمركز في بلخ؛ ثم تعرضت المانوية لانشقاقات متكررة في عهد المنصور والمعتصم. ويُفهم من هذه الانشقاقات المتكررة أن المانوية كانت نشطة وأن اتباعها تمتعوا بالحرية الدينية حتى أنهم اختاروا زعمائهم الدينيين، والذين كانت الدولة تعترف بهم ممثلين لنحلة ماني وأتباعها، ولذلك أستبعد الآراء التي ربطت ما بين المانوية والزنادقة الذين تربصوا بالإسلام في العصر العباسي وقمعهم العباسيون.

 

أما خارج ديار الإسلام، فقد عاشت المانوية في مجتمعات متناثرة ومنعزلة فوق جبال الهندكوش وهضبة التبت، وقد ظلت بعض هذه المجتمعات قائمة حتى أوائل القرن السابع عشر، ويظن بعض الباحثين أنه ربما بقيت بعضها في هذه الأنحاء لليوم؛ أما في أوروبا المسيحية، فقد استهدفت السلطات والكنيسة الكاثوليكية المانويين، حتى قضت عليهم، ويعتبر بعض الباحثين أن المانويين في أوروبا قد لجئوا إلى تخوم الإمبراطورية الرومانية حيث أنشئوا مجتمعاتهم في تلك الأنحاء، وربط هؤلاء الباحثين بين بعض الجماعات التي كانت الكنيسة تنظر لها باعتبارها جماعات مهرطقة مثل البوجوميل في مقدونيا والكاثار في جنوب فرنسا، وقد ظلت الكنيسة وحلفاءها يستهدفون مثل هذه الجماعات حتى قضوا عليها تمامًا.

 

لكم تحياتي

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات