آخر الأخبار

معركة أنابيب الغاز عنوان الصراع الأمريكي الروسي

 

 


 

صالح عوض

 

إن اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يناقشا القضية إنما بعض المشاهد الجانبية لذلك فهما لا يعالجان القضية الحقيقية وليسا أكثر من كونهما أوراق ضغط معنوية في الصراع الحقيقي.. أن الصراع القائم اليوم على أرض أوكرانيا، يرتكز بشكل رئيس على بعد اقتصادي يتعلق بالغاز الطبيعي وتفرض الولايات المتحدة صراعها لطرد موسكو من دائرة التأثير على سلطة النفط والغاز، وكل ما يتم تناوله من أسباب وعناوين إنما هو من باب الفبركة والتلوين ومن المؤكد أن هناك تداعيات متنوعة ستنتج عنه على الصعيد السياسي والاجتماعي والديمغرافي.. انها معركة لم تتوقف منذ عشرات السنين، ولم تدخر الولايات المتحدة وسيلة او أسلوبا دون الاستخدام في هذه المعركة، انها معركة أنابيب النفط والغاز.. فهي بعد ان تربعت على منصة سيادة الهيمنة على النفط العالمي من خلال استثمار شركاتها العملاقة في حقول النفط والغاز أصبحت تتحكم في الأسعار والاستخدام والاستغلال السياسي وهي تدرك أهمية هذه السلعة الإستراتيجية ولقد تعزز هذا التوجه بعد أن أصبحت مصدرا للغاز الطبيعي المسال وهي لذلك لا يمكن ان تقبل شراكة في هذا الموقع مع أحد وهي ترى في روسيا المنافس الخطير كونه يربط الاقتصاد بالتمدد السياسي، ومن المعلوم ان شركات النفط في أمريكا هي أحد أهم عناصر الاقتصاد الأمريكي واحد أهم شركاء القرار الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهي صاحبة التوجيه المباشر في حروب عديدة لاسيما في المشرق العربي الإسلامي.. ولكن المشكلة أمام أمريكا لا تتعلق فقط بالعملاق الروسي في مجال الغاز والنفط والذي يشكل التهديد الحقيقي لتسيد أمريكا في هذا الصدد إنما تشمل أطرافا عديدة لاسيما المستوردين في أوروبا واحتياجاتهم والذين وجدوا أنفسهم في شراكات محتملة مع الروس.. وعبر عدة محطات قامت الولايات المتحدة بمحاولة تحييد حضور الغاز الروسي لإفقاد روسيا ومن قبلها السوفييت الدور والأهمية الإستراتيجية على صعيد التوازن الدولي، وكانت تفشل حينا وتنجح أحيانا وتضع خططها في كل مرة بدون يأس، وهي الآن تحاول بطريقة أدق تخطيطا وقد جرّت العالم معها في مواجهة روسيا تحت شعارات حقوق الإنسان وسيادة الدول مخفية حقيقة المعركة بعد ان ورطت الروس في أزمة أوكرانيا التي وجدوا أنفسهم أمام استفزاز من نوع أمنى خطير وفي حقيقة الأمر لم يكن إلا طعما أمريكيا.

المؤامرة الأولى:

 

الهبوط الكبير 1986

 

أدارت الولايات المتحدة معركة أسعار النفط مع أصدقائها في أوبك لمحاصرة النفط والغاز السوفيتي والعربي وتوجيه ضربة له في الصميم فلا يمكن أن ينسى الهبوط الكبير في أسعار النفط الذي بدأ من عام 1986 بعد أن أعلنت أوبك فيما بينها أشرس حرب أسعار.

 

وهو ما أدى في الأخير إلى هبوط أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات. وكانت بعض الدول في أوبك تبيع برميل النفط في ذلك العام بسعر 7 دولارات.. ووجه هذا بكل شراسة الى انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان بصدد إعادة الهيكلة وترميم منظومته الاقتصادية والتي كانت بحاجة الى عشرات المليارات معتمدة على منتوجها النفطي والغازي وعلى وعود من أمريكا الرئيس ريغان الذي وعد قادة السوفييت بمئتي مليار دولار لإصلاح نظامهم الاقتصادي فكان تخلي أمريكا عن وعودها وانهيار سعر المحروقات السبب المباشر في انهيار الحياة في الاتحاد السوفيتي قبل ان ينهار سياسيا.. كما كان ذلك سببا في الأزمات التي عاشتها الجزائر في التسعينات والتي دفعت العراق إلى أزمة الخليج الثانية.

 

أنبوب قطر 2011

في محاولة أخرى تقدمت شركات النفط الأمريكية بمشروع استثماري ضخم نحو حقول الغاز القطرية لتزويد أوربا بما تحتاج واعتمدوا بداية على الغاز المسال إلا أنهم اكتشفوا عدم قدرته على سد الفراغ فاتجهوا بمخطط نحو سورية لتمرير أنبوب غاز ينطلق من قطر مرورا بالسعودية والأردن وسورية وتركيا ومن ثم الى أوربا.. كان هذا الأنبوب كفيلا بتخفيض الحاجة تماما للغاز الروسي والغاز الجزائري هذا في ظل الحصار على الغاز الإيراني.. فرفض السوريون المطلب القطري فاجتمع كل شركاء المشروع في حرب كادت ان تنهي البلاد والعباد لولا التدخل الروسي الإيراني حيث وجدت روسيا نفسها تدافع عن نفسها بالدفاع عن الرفض السوري للمطلب القطري وهكذا فشلت للمرة الثانية محاولة أمريكا في الاستغناء عن الغاز الروسي.

 

إفشال خط نورد ستريم 2:

 

لقد فرض ترمب العقوبات على الشركات المشاركة في إنشاء خط الغاز الروسي نورد ستريم2 المنطلق من روسيا الى ألمانيا عبر بحر البلطيق متخطيا أوكرانيا التي يمر منها اغلب الغاز الروسي.. ويستطيع هذا الخط ان ينقل سنوياً 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي (1.9 تريليون قدم مكعب).. وتصل تكلفة الخط إلى 11 مليار دولار، يربط خط نورد ستريم 2 روسيا بأوروبا عبر بحر البلطيق، ويعد خط الأنابيب الموسع بديلا لتجاوز بلدان المرور مثل أوكرانيا. ويشارك في المشروع مجموعة "غازبروم" Gasprom العملاقة ومؤسسات أوروبية هي "ونترشال" و"يونيبر" الألمانيتان و"شل" البريطانية-الهولندية و"إينجي" الفرنسية و"أو أم في" النمساوية بالإشراف على خط الأنابيب الذي يمتد لمسافة 2000 كيلومتر والذي يعمل على توصيل الغاز من أحد مراكز الإنتاج في Torzhok عبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا. يمر خط الأنابيب تحت سطح البحر عبر المياه الإقليمية لروسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا. وعلى الرغم من أن الخط اكتمل إنشاؤه بنسبة شبه كاملة فإن العقوبات التي واصلتها إدارة بايدن على الشركات التي لا زالت تعمل في الخط أدت إلى توقف استكمال الخط، وانسحاب عدد كبير من الشركات العالمية المشاركة في إنشائه، والتي تمتلك تكنولوجيا إنشاء هذا النوع من خطوط الغاز في مياه البحار. وقد أسهم هذا المشروع بصورة كبيرة في توتر العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، نظرا لمحاولات الولايات المتحدة لإبرام صفقة تجارية أفضل مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي.

 

ومنذ 2014 وعلى اثر تهديد بيوتن بوقف الغاز عن أوربا وضعت الولايات المتحدة وأوربا إستراتيجية جديدة ترتكز على تنوع مصادر وواردات الغاز الطبيعي، بما يحد من سيطرة الغاز الروسي على الأسواق الأوروبية التي وصلت إلى نحو 40% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي لأوروبا في عام.

 

أن الأزمة لا تتعلق بروسيا فقط إذ تتقاطع كل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي مع الأزمة.. ولقد كان من الصعب تصور استجابة ألمانيا برضى لإيقاف الخط الذي وصلت تكلفته إلى 11 مليار دولار، ومن الواضح ان هناك ضغوطا أمريكية كبيرة مورست على صانع القرار الألماني ويمكننا مع هذه التكلفة الضخمة من الخسارة تصور التخوفات الألمانية من التعويضات المادية والتداعيات القانونية الناتجة من توقف استكمال الخط.

 

ويرفع الأنبوب من حجم المكاسب الاقتصادية الضخمة التي تتحصل عليها روسيا والتي جعلتها في مقدمة مصدري الغاز عالمياً وهي عمود الواردات للخزينة الروسية، كما انه يقدم فرصة لروسيا لتجنب مرور صادراتها من الغاز في الأراضي الأوكرانية حيث التوترات المتواصلة.

 

إن مركز الصراع بين الإرادة الأمريكية والإصرار الروسي هو الساحة الأوكرانية، والذي يأتي بعد انسحاب مخز لأمريكا والغرب من أفغانستان، الأمر الذي ينذر بمآلات قاسية للإمبراطورية الأمريكية في ظل تنامي وتيرة التقدم الاقتصادي والعسكري في الصين وروسيا.. ومن هنا تجد الولايات المتحدة ضرورة إيقاف تمدد النفوذ الروسي والصيني ورفع يد روسيا عن أوربا.. فإن أمريكا تنظر بعين الريبة والقلق من مرحلة صناعة الأقطاب الجديدة، ومن التحالف الروسي الصيني، وعقد تحالف شنغهاي.

 

 

البحث عن البدائل:

 

قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مطلع الشهر الماضي إن على ألمانيا أن توقف خط الأنابيب "التيار الشمالي 2" مع روسيا في حال "غزت موسكو أوكرانيا".

 

وكان هذا بمثابة أمر سياسي واضح.. والأمر نفسه كان قد أكده الرئيس الأمريكي السابق ترمب الذي وبخ الحكومة الألمانية لانهماكها في مشاركة روسيا في مشروع الأنبوب المذكور. وقد كان من أشد المعارضين لتصدير الغاز الروسي لأوروبا، وكان على خلاف مع ألمانيا بخصوص مشروع "التيار الشمالي 2"، حيث يرى أن القارة الأوروبية ستقع تحت "رحمة روسيا".

 

وفي المعركة المتعددة الجبهات تحاول أمريكا فرض عقوبات على الشركات الروسية البترولية ولكنها قبل ذلك تسعى إلى إيجاد بدائل للغاز الروسي الذي يمد أوربا بأكثر من 40% "200 مليار متر مكعب سنويا".. كما يسعى الاتحاد الأوروبي أيضا إلى تأمين البدائل بالغاز المسال الذي يتم استيراد جزء منه من الولايات المتحدة تقريبا 7.3 مليون طن، وهو من الزيت الصخري مرتفع التكلفة، وتموله قطر بجزء آخر نظرا لقدراتها الكبيرة في إنتاجه وتصديره.

 

لكن تكتنف هذا الغاز المسال قضيتان: لا يلبي المطلوب، وهو أكثر كلفة.. لذا تبقى عملية الاستيراد عبر الأنابيب اقل تكلفة ومتوفرة بكميات ضخمة وأقل تكلفة تلك التي يوفرها "التيار الشمالي" الذي يمر عبر بحر البلطيق من روسيا الى ألمانيا ومنها إلى أوروبا- الأقل كلفة. ولذلك تسعى الولايات المتحدة إلى إيجاد البدائل للغاز الروسي تحت إلحاح وضغط الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يعاني بوضوح من أزمة الغاز وارتفاع أسعاره الجنوني. من هنا تبدو عملية الإسراع في المفاوضات مع إيران لتوقيع اتفاق بموجبه يصبح المنتوج الإيراني عامل مساعد لرفع الضغط الروسي.. وهنا تبحث الولايات المتحدة عن إغلاق ملفات بعد ان أغلقت ملف أفغانستان تريد اغلاق ملف ايران والتفرغ لمعاركها الحقيقية مع روسيا والصين والشروع في فتح ابار جديدة شرق المتوسط بعد فشلها في تمرير أنبوب الغاز القطري من سورية.. لهذا فهي تدفع بقوة لاستكمال المفاوضات بين لبنان والحكومة الإسرائيلية لترسيم الحدود والشروع في استخراج الغاز من بحر لبنان وبحر فلسطين حيث تتوافر كميات ضخمة ومخزون تجاري كبير.. فيما تنشط الإدارة الامريكية لتعزيز العلاقة الى مستوى استراتيجي مع قطر المنتج الأكبر للغاز الطبيعي المسال في العالم والتي سيكون عليها القيام بجزء كبير من الخطة البديلة لإنهاء اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي.

 

صراع الغاز بين أمريكا وروسيا..عملت أمريكا على تحقيق طفرة في صادراتها من الغاز الطبيعي المسال لأوروبا، إلا أن روسيا لاتزال تعتبر الرئيسية أمام تمددها وسيطرتها على السوق وإن هذا الصراع سيؤثر بشكل خطير على إمدادات الطاقة لأوروبا من الغاز الطبيعي.

 

حاجة أوربية عاجلة وضرورية:

 

الاتحاد الأوروبي كقوة عظمى مكونة من 28 دولة بإجمالي عدد سكان يبلغ نحو 512 مليون نسمة، تنقصه مصادر الطاقة الطبيعية من المحروقات يعد سوقا محل نظر وتنافس لأكبر مصدري الطاقة في العالم.. وهذا السوق ليس بمقدوره الانتظار طويلا لوعود الامريكان الذين يحاولون رفع السعر العالمي ليتناسب مع سعر الغاز الصخري الأمريكي.

 

وعلى الرغم من الطفرة التصديرية للغاز التي حققتها الولايات المتحدة في فترة وجيزة، لا تزال روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2018، وفقا لبيانات المفوضية الأوروبية. كما يظهر مدى اعتمادية الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، عندما سجلت المفوضية أن 11 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي (بلغاريا وجمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا والمجر والنمسا وبولندا ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وفنلندا) قامت باستيراد أكثر من 75% من إجمالي الواردات الوطنية من الغاز الطبيعي من روسيا في عام 2018، نظرا لقربها من البلاد..

 

كما يتعلق الأمر بجهود الاتحاد الأوروبي للمحافظة على المناخ، حيث تسعى ألمانيا إلى إغلاق جميع المصانع التي تعتمد على الفحم بحلول عام 2038. كما تسعى أوروبا للتخلص من استخدامات الطاقة النووية في مزيج الطاقة المستقبلي. وعلى الرغم من بزوغ الطاقات المتجددة كمصدر للطاقات النظيفة فإنها لا يمكن اعتبارها منافسا للغاز الطبيعي.

 

ووفقا لأحدث تقرير World Energy Outlook، من المتوقع أن يستمر ارتفاع الطلب الأوروبي على الغاز حتى عام 2040، ومن ثم الطلب على استيراد الغاز. وبالتالي، فمن المفترض -من منظور السوق- أن الغاز الطبيعي الروسي سيكون بمثابة "الإمداد الأساسي" للاتحاد الأوروبي.

 

وهنا تواجه أوربا قضايا معقدة في موضوع الغاز حيث تزداد احتياجات أوربا إليه و حيث تتجه روسيا لتوسيع أسواقها الأسيوية وتنشط لمد الأنابيب والتي ستستوعب نسبة كبيرة من الغاز الروسي هذا فيما لن تستطيع الولايات المتحدة تعويض النقص لأنها في ورطة كبيرة فان نجحت في الضغط على حلفائها بالضخ المتزايد نحو أوروبا فإنها ستجد أزمة في تسويق غازها عالي التكلفة.. في مقابل غاز روسي سهل الوصول ومنخفض القيمة وهنا تجد أوربا ضرورة إيجاد حل سلمي للازمات القائمة مع روسيا.

 

ومن الواضح هنا ان أي قرار أمريكي بشان الغاز الروسي سيكون الأوربيون المتأثر الأول بمفاعليه في الحياة المدنية والاقتصادية، وسيصبح شح الغاز العالمي مدعاة الى رفع السعر بنسبة مضاعفة للمائة.. فلو باعت النصف من غازها فإنها لن تخسر قيمته المالية حيث سيباع بالضعف او أكثر..

 

وهكذا تظهر مشكلة المشهد الأوكراني على حقيقته فلقد أعدّته الولايات المتحدة لجر روسيا الى مستنقع استنزاف وصرفه عن مطالبه الأمنية.. تقدم الروس بطلبات واضحة ان لايقترب الأمريكان والناتو والنووي من حدوده في أوكرانيا فيما وجدها الأمريكان فرصة فدفعوا بحكومة كييف للتصدي لموسكو وأشاعوا أجواء حرب ودعاية شيطنة شغلوا فيها أجهزة إعلام الغرب جميعا.. فيما استغل الأمريكان انجرار الروس في معركة هامشية بعد ان اعتقد الروس ان يوم التحاق أوكرانيا بالناتو والاتحاد الأوربي أصبح قاب قوسين أو ادني.. لقد كانت خدعة مررها الأمريكان لحكام كييف فأصابهم الغرور والجنوح وكما مرروها لموسكو التي استشاطت غضبا.. فيما كانت المعركة في اتجاه آخر.. ورغم كل مراحل الصراع فلا يبدو ان أمريكا نجحت في مخططها وستجد أوربا فرصة قريبة لرفض هذه الاملاءات التي افقدتها فرصة الاستفادة من غاز متوفر وبكلفة منخفضة عبر أنبوب الشمال2..

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات