فوجئ كثيرون بقرار تصفية مصانع الحديد والصلب المصرية في حلوان بعد
عقود على إمداد السوق بمنتجات إستراتيجية متنوعة. القرار الذي قوبل بالرفض يُنذر
بتبعات لا تُحمد عقباها في زمن كورونا والحروب التجارية، فما هي أبرزها؟
عندما تندلع الحروب التجارية كتلك التي بدأتها إدارة الرئيس ترامب
مع الصين ودول أخرى، وعندما تنتشر أوبئة كجائحة كورونا بشكل يؤدي إلى انقطاع سلاسل
التوريد والإنتاج وعرقلة التجارة ينبغي أن يكون الحفاظ على الصناعات والمؤسسات
الوطنية أو المحلية المنتجة وحمايتها وتعزيز دورها في السوق المحلية من أولويات
صناع القرار السياسي.
وهو الأمر الذي نراه اليوم حتى في دول من الأكثر تنوعا في الإنتاج
مثل ألمانيا حيث الجهود المتزايدة وارتفاع الأصوات المطالبة بإعادة توطين صناعات
طبية ومنزلية ونسيجية وإلكترونية وغيرها انتقلت إلى الصين وشرق آسيا قبل سنوات.
وتهدف هذه الجهود إلى تجنب ثغرات الاعتماد على الاستيراد أيام
الأزمات حيث يزداد الطلب على سلعة تنتجها دولة أو بضعة دول بشكل يؤدي إلى صعوبة أو
استحالة استيرادها في الوقت المناسب كما حصل مؤخرا على صعيد استيراد الكمامات
الطبية وأجهزة التنفس وغيرها. غير أن مثل هذا التوجه لحماية صناعات حيوية كصناعة
الحديد والصلب التابعة للقطاع العام عن طريق التحديث والإصلاح والقروض الميسرة لا
يبدو من الأولويات، على الأقل عندما يتعلق الأمر بمجمع صناعة الحديد والصلب العريق
في حلوان.
تبعات تصفية مجمع حلوان العريق
في الحادي عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري 2021 فوجئ الكثيرون
في مصر والعالم العربي بقرار بتصفية هذا المجمع العريق للدولة بنسبة 83 بالمائة
وإنشاء شركة بديلة تركز على استخراج المواد الخام في المناجم المصرية وبيعها في
السوق المحلية أو تصديرها كمادة خام أو وسيطة بعد معالجة غير معقدة للخامات.
ومما يعنيه ذلك تراجع القيمة المضافة المحلية المصرية في صناعة
الحديد والصلب التي تدخل منتجاتها في مختلف مراحل البناء والإنتاج والتجهيز والنقل
وغيرها. كما يعني الارتهان أكثر فأكثر إلى الاستيراد من السوق العالمية بمئات الملايين
من الدولارات سنويا. ومن شأن قرار التصفية عدد قليل من تجار القطاع الخاص من
احتكار منتجات استراتيجية وفرض أسعارها أكثر من أي وقت مضى وخاصة خلال أزمات كتلك
التي يمر بها العالم حاليا نتيجة فيروس كورونا.
وكان مجمع الحديد والصلب التابع للقطاع العام في حلوان والذي أنشأه
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خمسينات القرن الماضي ويعود تاريخه إلى أوائل
ثلاثينات القرن المذكور يزود السوق المصرية بمنتجات الحديد والصلب على مدى أكثر من
نصف قرن بنوعية جيدة واسعار مدعومة ومنافسة لسنوات طويلة.
ووصلت كمية الانتاج في أعوام عديدة إلى نحو 1.5 مليون طن سنويا
شملت القطبان والصفائح والأنابيب ومستلزمات السكك الحديدية والجسور والأنفاق
والصناعات والتحويلية وغيرها. ونظرا إلى أهمية هذا المجمع وعراقته على مدى عقود
وتوفيره عشرات المليارات من الدولارات على الميزان التجاري المصري فقد أطلق عليه
البعض وبحق لقب "قلعة الصناعة المصرية".
حجة التصفية غير مقنعة
يأتي قرار تصفية "قلعة الصناعة المصرية" بحجة أن المجمع
المذكور يتكبد منذ ما يزيد على عقد من الزمن خسائر بمعدل 500 مليون جنية سنويا، أي
ما يعادل 32 مليون دولار. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن منتجات المجمع يتم
استخدامها لبناء مشاريع البنى التحتية وإمداد قطاع البناء والصناعات التحويلية
المصرية بمستلزماتها من الحديد والصلب بأسعار مدعومة تحقق لها عوائد سنوية بمئات
الملايين من الدولارات، فإن تصفية مجمع بهذه الأهمية بسبب خسائر متواضعة كالمذكورة
أعلاه تُعد خطأ جسيما.
وتكمن جسامة الخطأ على أكثر من صعيد في مقدمتها فقدان نحو 7500
عامل وفني ومهندس لعملهم. ومن وجهة النظر الاقتصادية ليس من الصعب تجاوز خسائر
سنوية بحدود 32 مليون دولار في مجمع بهذا الحجم عن طريق التغلب على سوء الإدارة
والهدر والتسيب والبيع واتباع قواعد تسعير جديدة للمنتج بعيدا عن التسعير الإداري.
ومن المعروف أن المجمع يعاني من هذه المشاكل على مدى عقود دون أن يتحرك المعنيون
لحلها.
هل ينجح الرفض في وقف التصفية؟
يزيد من الرفض للقرار حقيقة أن محاولات تحديث وإصلاح مجمع حديد
حلوان التي بدأت قبل سنوات طويلة لم تكن جدية يوما، بل إن أداء المجمع استمر
بالتدهور بشكل يبدو وكأنه متعمد بالتوازي مع محاولات الإصلاح هذه. ويدل على ذلك
اتهامات وزير قطاع الأعمال المصري هشام توفيق للمسؤولين السابقين بالتسيب وبتشغيل
المصانع بطريقة غير مسؤولة.
وقال الوزير لتلفزيون "اليوم السابع" إن أفران الصهر
التي ينبغي أن تعمل على مدار الساعة كان يتم تشغيلها وكأنها "فرن عيش
(خبز)" أي في أوقات متقطعة ومحدودة فقط. وعلى ضوء ذلك لا يُستبعد ان يكون
المستفيدون من التصفية وراء ذلك بشكل أو بآخر. ويقف على رأس هؤلاء التجار الذين
يستوردون الحديد التركي والأوكراني والصيني المدعوم ويغرقون السوق المصرية به.
يزيد من الرفض للقرار حقيقة أن محاولات تحديث وإصلاح المجمع التي
بدأت قبل سنوات طويلة لم تكن جدية يوما، بل إن أداء المجمع استمر بالتدهور بشكل
يبدو وكأنه متعمد بالتوازي مع محاولات الإصلاح هذه. ويدل على ذلك اتهامات وزير
قطاع الأعمال المصري هشام توفيق للمسؤولين السابقين بالتسيب وبتشغيل المصانع
بطريقة غير مسؤولة.
وقال الوزير لتلفزيون "اليوم السابع" إن أفران الصهر
التي ينبغي أن تعمل على مدار الساعة كان يتم تشغيلها وكأنها "فرن عيش
(خبز)" أي في أوقات متقطعة ومحدودة فقط. وعلى ضوء ذلك لا يُستبعد ان يكون
المستفيدون من التصفية وراء ذلك بشكل أو بآخر. ويقف على رأس هؤلاء التجار الذين
يستوردون الحديد التركي والأوكراني والصيني المدعوم ويغرقون السوق المصرية به.
وهنا يجدر الإشارة إلى دراسة لبنك الاستثمار القومي في عام 2017
حذرت من هذا الإغراق وتبعاته على الإنتاج المصري، كما حذرت من ضعف التنافسية في ظل
احتكار "شركة حديد عز" الخاصة لنحو 50 بالمائة من إنتاج الحديد في مصر.
::
إبراهيم محمد،
محرر وخبير في الشؤون الاقتصادية
بمؤسسة دويتشه فيله.
0 تعليقات