آخر الأخبار

تحولات جديدة فى الأمن الإقليمى

 


 

د. محمد السعيد إدريس

 

 

قبل حوالي أسبوع من الهجوم الصاروخى الذى شنه الحرس الثورى الإيرانى على ما اعتبره قاعدة استراتيجية "للموساد" الإسرائيلي فى أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق فجر الأحد 13 مارس الجارى فاجأ المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلى أفيخاى أدرعى المراقبين بالإعلان فى ساعة متأخرة من مساء الأحد (6/3/2022) عن أن طائرات حربية إسرائيلية من طراز "F351" (الشبح) اعترضت طائرتين مسيرتين إيرانيتين كانتا فى طريقهما لتنفيذ عملية ضد أهداف فى العمق الإسرائيلى.

 

وكشف أدرعى أن التصدى للطائرتين المسيرتين الإيرانيتين (بدون طيار) تم بالتنسيق مع دولة عربية مجاورة . تزامن مع هذه "المفاجآت" الإيرانية تعرض إسرائيل لهجمات "سيبرانية" مكثفة كان آخرها يوم 14 مارس الجارى وأدى، على حد وصف صحيفة "يسرائيل هيوم" إلى تعطل موقع الحكومة الإسرائيلية. وبعد أقل من 48 ساعة من الإعلان عن هذا الهجوم الذى جرى اتهام إيران بالمسئولية عنه كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية مساء الأربعاء (16/3/2022) عن اختراق جهاز الحاسوب الخاص برئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع. الهجوم شنته جماعة إيرانية أعطت لنفسها اسم "الأيادي المفتوحة".

 

وفندت هذه المجموعة الرواية الإسرائيلية التى حاولت التخفيف من صدمة الاختراق وقالت أنه "اختراق للهاتف المحمول لزوجة رئيس الموساد" لكن مجموعة "الأيادي المفتوحة" قامت بنشر "الاستمارة الضريبية" لرئيس الموساد لعام 2020 وتساءلت عما إذا كانت الاستمارة الضريبية لرئيس "الموساد" يجرى وضعها عادة على هاتف زوجته ، مؤكدة أن الاختراق تم لحاسوب ديفيد برنياع، وأن الاستمارة الضريبية المنشورة تحتوى ملخصاً لجميع بيانات الرواتب التى تلقاها بارنياع خلال السنة المالية المذكورة .

 

هجمات إيرانية غير مسبوقة ، وعلى الأخص الهجوم الإيراني الذى شنه الحرس الثوري الإيراني فى ما وصفه بـ "المركز الاستراتيجي للتآمر". وأعقب هذا الهجوم الصاروخى هجوم إعلامى إيرانى الأول جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية قال فيه أن "طهران حذرت السلطات العراقية عدة مرات من أنه لا ينبغى استخدام أراضيها من قبل أطراف ثالثة لشن هجمات على إيران".

 

 أما التحذير الثانى فجاء على لسان محمد طهرانى مقدم أحد القادة البارزين فى الحرس الثورى فى تصريح نقلته قناة فيلق القدس على تليجرام قال فيه "إذا كانت إسرائيل تعتزم إلحاق الأذى بإيران عبر الدول المطلة على الخليج، فإننا نحذر حكام الدول العربية من أننا سنستهدفهم بالتأكيد بسهام الحرس الثورى غير المرئية، أى بصواريخ لا يمكن تعقبها"، والرسالة التى أرادت إيران توصيلها للجميع هى أن الردود الإيرانية على أى اعتداءات كانت تتعرض لها إيران "خرجت من مرحلة الصمت إلى العلن" وأن إيران لم تعد معنية بالتمسك أكثر من اللازم بإستراتيجية الصمت الاستراتيجي، وأنها أضحت معنية من الآن بالأخذ بإستراتيجية الردع الاستراتيجي".

 

إسرائيل تقرأ ذلك جيداً، وقررت رفع درجة التأهب لقواتها فى الشمال على الحدود مع سوريا ولبنان، والاحتياط لهجوم طائرات إيرانية مسيّرة متطورة سواء كان من الأراضى الإيرانية نفسها أم من أراضى أحد الوكلاء الإقليميين. وفى ذات الوقت جرى التركيز على أمرين؛ أولهما أن الإفصاح عن المسئولية الإيرانية على القصف الصاروخى لما اعتبرته طهران قاعدة تجسس للموساد فى أربيل وهذه رسالة صريحة من إيران إلى إسرائيل تقول أن "اللعب أضحى على المكشوف" وأن إيران باتت فى حل من أى تردد فى الرد على أى اعتداء.

 

 ثانيهما الاعتراف بأن إسرائيل نجحت فى تدمير مصنع إيرانى للطائرات المسيرة جرى خلاله تدمير ما لا يقل عن 600 طائرة، وأعقب هذا الهجوم على ذلك المصنع هجوم إسرائيلى آخرى على مواقع قريبة من دمشق راح ضحيته إيرانيون، وهذا معناه أن إسرائيل هى الأخرى لم تعد ملتزمة فقط بضرب وكلاء إيران بل هى أضحت مهتمة بنقل المعارك على الأراضي الإيرانية.

 

لكن ما هو أهم استنتاج إسرائيل أن الولايات المتحدة التى اعترفت بالهجوم الإيرانى على أربيل لم تشأ أن ترد عليه، ما دفع دراسة إسرائيلية أعدها "معهد السياسة والاستراتيجية" برئاسة الجنرال بالاحتياط عامود جلعاد إلى القول بأن "تأكيد الولايات المتحدة لما تحدثت عنه إيران أنها استهدفت بالصواريخ قاعدة سرية إسرائيلية هو تبرير لعدم الرد من جانبها على الهجوم الإيراني الذى استهدف نقل رسالة ردع لتل أبيب، وتعزيز الردع الإيرانى تجاه دول الخليج، إضافة إلى رسالة أخرى للقيادة العراقية أن عليها أخذ المصالح الإيرانية فى الحسبان عند تشكيل الحكومة الجديدة".

 

وخلصت الدراسة باستنتاج مفاده أن "الهجوم الإيرانى هز صورة القوة الأمريكية فى المنطقة، كما أن غياب الرد الأمريكى على خطوات القوة الإيرانية فى المنطقة ضد حلفائها يعتبر ضعفاً أمريكياً، وينضم إلى سلسلة أحداث وخطوات أحدثت شقوقاً فى العلاقات الإستراتيجية بين دول الخليج وإدارة الرئيس جو بايدن".

 

محرر الشئون العسكرية فى صحيفة "إسرائيل هيوم" يوآف ليمور فاقم من هذا الاستنتاج، باستدعائه التطورات الأخرى التى تحدث على جبهة الاتفاق النووى الإيرانى فى مفاوضات فيينا سواء على صعيد إنجاز اتفاق (ليس أقل سوءاً) من الاتفاق الموقع عام 2015، أو على صعيد التنازلات الأمريكية المتوقعة لإيران وخاصة إلغاء إدراج الحرس الثورى الإيرانى من على قائمة المنظمات الإرهابية ، وقال أن "طهران جردت واشنطن من كل شئ.. وأن إيران لن ترد فقط (على أى اعتداء) بل ستكون سباقة ولا تنقصها الجرأة ولا الأموال وسوف تربح 16 ضعفاً من النفط بسبب الحرب فى أوكرانيا". مشيراً إلى أن "الأمريكيين تنازلوا عن كل شئ". ومشيراً أيضاً إلى أنه "مع تقدم المفاوضات فى فيينا، كانوا فى إسرائيل يشدّون شعورهم جراء اليأس، والجانب الإيرانى كان من الممكن أن يحتار المرء فيمن هى الدولة العظمى هنا، ومن هى الدولة التى تنهار تحت ضغط العقوبات".

 

مثل هذه الإشارات لا تستهدف كيل المديح لإيران بقدر ما تهدف إلى تحفيز الولايات المتحدة للتوقف عن تقديم تنازلات لإيران وعلى الأخص رفض المطالب الإيرانية بشطب الحرس الثورى من على القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، ودفع واشنطن للتشدد فى مضامين الاتفاق الذى سيتم التوافق حوله بحيث لا تجنى إيران ثمار تشددها، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى تهدف إسرائيل إلى ترويع الدول العربية وتركيا مما تعتبره "مخرجات سيئة لمفاوضات فيينا" ودفع هذه الأطراف إلى الاصطفاف مع إسرائيل فى وجه ما تعتبره تل أبيب خطراً إيرانياً يستوجب الرد الجماعى عليه من كافة الأطراف الإقليمية.

 

تحذيرات نفتالى بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلية من احتمال إلغاء تصنيف الحرس الثورى الإيرانى كمنظمة إرهابية تخدم هذا الاتجاه، فقد اعتبر هذا الأمر "ثمناً باهظاً للغاية يدفع للاتفاق النووى مع إيران"، وقال فى بداية الاجتماع الاسبوعى لمجلس الوزراء الإسرائيلى (20/3/2022) بحسب ما ذكرته صحيفة "جيروزاليم بوست" أنه "لسوء الحظ هناك تصميم على توقيع اتفاقية نووية مع إيران بأى ثمن تقريباً، بما فى ذلك الحديث عن أن أكبر منظمة إرهابية فى العالم ليست منظمة إراهابية"، وأوضح أن "الحرس الثورى الإيرانى هو التنظيم الإرهابى الأكبر والأكثر فتكاً فى العالم" منوهاً إلى أن هذه "ليست مشكلة إسرائيلية فقط بل هى مشكلة دول أخرى حليفة للولايات المتحدة فى المنطقة".

 

إسرائيل تسعى إذن إلى تأسيس جبهة أو تحالف إقليمى فى مقدوره تعويض "الغياب الأمريكى" المحتمل، تكون إيران هى المستهدفة منه، طمعاً فى أن تكون هذه الخطوة هى "أولى اللبنات المعتبرة لإعادة هندسة نظام الأمن الإقليمى الجديد فى الشرق الأوسط". كيف ستتصرف إيران هى الأخرى؟ هل ستسعى فعلاً إلى تحويل شعار الردع الاستراتيجي من شعار إلى سياسة عملية بكل ما يتضمنه ذلك من تصعيد خطير للأمن الإقليمى الذى سيكون الجميع معنياً بدفع أثمانه .

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات