حمدى عبد العزيز
25 إبريل 2022
هروباً من دراما رمضان وإعلاناتها المبددة لطاقة الروح والعقل خصصت
سهرة الأمس للمشاهدة الثالثة لفيلم (قطار ليلي إلي لشبونه Night Train to Lisbon) الفيلم لأحد أهم
المخرجين الذين اتابع أعمالهم وهو المخرج الدنماركي (بيل اوجست) ، وهو أحد
المخرجين الذين يمارسون القطيعة مع سينما هوليود بسياقاتها الإنتاجية ومعاييرها
الفنية وهو يتفق مع المخرج النمساوي الرهيب (مايكل هانيكي) والأمريكي المتمرد (جيم
جراموش) ، والمخرج الفنلندي (آكي كوريسماكي) والمخرج الأسباني (بيدرو ألمو دي فار)
وآخرين لاتحضرني اسماؤهم الآن في الرفض القاطع لهوليود وفي اعتبارها سينما سطحية
وتافهة لاتساعد علي تقديم القضايا الإنسانية بالعمق اللازم ..
لمن لم يشاهد هذا الفيلم ارجوه مشاهدته ومتابعة أحد عمالقة فن
التشخيص في العالم وهو الممثل البريطاني الرائع (جريمي أورنز) في آدائه العميق
والهادئ لدرجة الوثوق والمعبر لدرجة ان يجعلك تحس بنبضات قلب وحرارة روح الشخصية
التي يؤديها ..
وهو أحد أفلامه التي أحببتها بالإضافة إلي دوره(في بيت الأرواح)
كرائعة أخري من روائع بيل اوجست و فيلمه (تلف) للمخرج الفرنسي لويس مال ، وكذلك
دوره في رائعة جوسيبي توناتوري (المراسلات) .
طبعاً كان هناك ممثل رائع آخر استمتعت بآدائه في الفيلم وهو الممثل
السويسري (برنو جانس) في دور (جورج اوكيلي) الثوري السابق (عندما أصبح شيخاً)
والمحطم بفعل الإحساس بالذنب تجاه فقده لصداقة رفيقه وشروعه في قتل (ستيفانيا)
التي جسدت شخصيتها الممثلة الفرنسية (ميلان لوران) .
وستيفانيا كانت زميلة (جورج اوكيلي) الشاب في المقاومة ومحبوبته
والعضوة الأخطر في المجموعة الثورية المناهضة لنظام الديكتاتور (سالازار) ، والتي
قرر التخلص منها بالقتل حماية الثورة من الفشل لو تم القبض عليها لأنها مخزن أسرار
المجموعة الثورية ومدبرة خطوط الاتصال بين كافة الثوريين المناهضين لحكم سالازار
في صفوف القوات المسلحة البرتغالية بماتملك من قدرة علي حفظ معلومات الاتصال دون
الحاجة للأرشفة والتدوين بينما لم يخلو ذلك في الحقيقة من دافع ذاتي باطني ييسيطر
علي (جورج) وهو الغيرة والاحباط من حبها لصديقه الحميم (اماديو) الذي فقده في نفس
اللحظة وهو التناقض الذي ظل يشكل لديه عقدة الذنب التي لازمته إلي منذ لحظة عزمه
علي اطلاق النار عليها إلي النهاية وحولته فيما بعد إلي مدمن خمر عجوز رغم انه كان
- وقتها - قد تراجع عن قتلها في اللحظة الأخيرة ..
كذلك روعة آداء الممثل البريطاني (توم كورتيناي) وهو يجسد دور (جو
ايسي) عم طبيبة العيون التي قابلها جورجيروس لعمل نظارة بديلة لنظارته التي تهشمت
علي إثر اصطدام دراجة به في إحدي طرقات لشبونه ، و(جو) هو الضلع الرابع في
المجموعة الثورية بعد أن كبر وأصبح نزيلاً في إحدي دور الرعاية يعاني من آثار
تدمير روحه علي أثر تدمير يديه وهما اللتان كان يعزف بهما البيانو بمهارة إلي أن
دق عظامهما (مينديز) سفاح لشبونه ورئيس البوليس السري في حقبة النظام القمعي الذي أسسه
الديكتاتور البرتغالي سالازار مستخدماً مطرقة طحن المطبخ بوحشية وعنف شديدين حتي
بعد ان تولي مساعدوه تقييد (جو) الشاب ، وبعد ان عجزوا عن انتزاع اعتراف منه بمكان
وجود وستيفانا حافظة أسرار المجموعة الثورية ..
لن ادخل أكثر من ذلك في صميم قصة ولا إلي مشاهد الفيلم التي تطرقت
ببراعة وحبكة ولغة سينمائية جميلة وعميقة إلي مصائر مجموعة من أعضاء المقاومة
الثورية ضد الفاشية البرتغالية وخصوصاً قصة (آماديو برادو) الذي جسد دوره الممثل
البريطاني (جان هيوستن) وهو البطل المحوري بالنسبة لقصة الفيلم والذي عاش تناقضات
الانتماء لمهنته كطبيب وبين معتقداته الثورية وهو ماتمثل في انقاذه لحياة
(مينيديز) رئيس البوليس السياسي ودفعه ثمن هذا التناقض غالياً رغم انضمامه بعد ذلك
لصفوف المقاومة وانقاذه لها مستخدماً الدين الذي تركه في رقبة مينيديز السفاح ،
وكانت مذكراته التي تركها هي لرحلة (جورجيروس) من سويسرا إلي البرتغال ..
، وذلك كمحاولة لتحفيز شغف اصدقائي الأجلاء لمشاهدته وعدم المصادرة
علي قرائتهم لهذا الفيلم البديع ..
فقط أود أن أنوه
إلي أن هذا الفيلم حفزني لكي أقرأ عن فترة ال (نوفو ستادو) وهي
الترجمة البرتغالية لكلمة (الجمهورية الجديدة) التي اتخذ منها الديكتاتور
البرتغالي (انطونيو سالازار) عنواناً لحكمه !!!
، و(الجمهورية الجديدة) أو (نوفو ستادو) هي أطول جمهورية فاشية
قمعية شهدها التاريخ الأوربي وربما التاريخ الإنساني الحديث فقد عمرت وقتاً أطول
من مدة نظام حكم هتلر في ألمانيا أو وموسوليني في إيطاليا ، أو فرانكو في اسبانيا
الجارة للبرتغال .
.. فجمهورية سالازار الجديدة (نوفو ستادو) حكمت البرتغال من عام
1932 إلي عام 1974 أي انها تخطت الأربعين عاماً بسنتين ، شهدت منتهي القسوة والقمع
والقتل والتعذيب عاشها الشعب البرتغالي وعاشتها معه - علي نحو أعمق بالطبع - شعوب
المستعمرات البرتغالية التي شهدت أيضاً أطول فترة استعمار في العالم .
، وهي أيضاً مدة حكم لم يصل إليها أي ديكتاتور قمعي في التاريخ الإنساني
الحديث ..
، وهكذا أخذني الفيلم كما أخذ بطله (جورجيروس) الذي جسد شخصه
ببراعة الرائع (جيرمي أورنز) إلي رحلة معرفية ، وإن كانت لاترقي ولو إلي جزء ضئيل
من الرحلة المعرفية التي قام بها (جورجيروس) عبر السفر من سويسرا إلي البرتغال
ليظل عالقاً بها حتي نهاية الفيلم ..
0 تعليقات