آخر الأخبار

الدراما الهبادنية

 




 

د. وسام محمد عبده

 

كانت علية القوم تدخل على المأمون العباسي طبقات، فأول طبقة آل العباس، والطبقة الثانية كبار الموظفين، والثالثة العلماء، والرابعة الأدباء والشعراء، وأخيرًا السمار والندماء وفي جملتهم المغنين، وكان هؤلاء آخر الطبقات دخولًا لأن وظيفتهم تسلية المأمون بعد عناء يوم على دست الحكم.

 

المهم يا مؤمن.

 

كان إبراهيم الموصلي مغني المأمون ومقربًا منه، ولعله كان يؤمن أن الغناء في مقام العلم أو أرقى كما يفهم من حوار له مع القاضي يحي بن أكثم، فـ((ونونت في دماغة)) وطلب من المأمون أن يلبس لبس العلماء ويدخل في طبقتهم فأذن له المأمون في ذلك، فأصبح وقد ارتدى زي العلماء ووقف معهم بباب المأمون ينتظر أن يؤذن لهم، فلما شاهد العلماء هذا قالوا، هنكار – مهرج بالفارسية – وتزيا بزي العلماء، والله لا ندخل على المأمون، وانصرفوا، فلما سمع المأمون ما جرى هاله انصراف العلماء عنه، وأمر الموصلي أن يخلع عنه زي العلماء، ويلزم طبقته من السمار والندماء، وأرسل يعتذر للعلماء عن فعلته ويلتمس منهم أن يعودوا إلى مجلسه.

 

في أربعينات القرن العشرين، كان يوسف وهبي أكبر فناني المسرح والتمثيل في مصر، وهو رجل قد أوتي موهبة عظيمة، حتى أنه قادر أن ينتزع من مشاهدِهِ الضحك انتزاعًا وهو يؤدي الأدوار الهزلية، أو يبكيه بكاء حار وهو يؤدي الأدوار المأسوية، ويبث في قلبه الرعب وهو يؤدي دور المجرم، لا احسب مصر شهدت قبله أو بعده ممثلًا له موهبته، وقد قربته موهبته هذه من علية القوم، حتى منحه ملك مصر يومئذ رتبة البكوية إعجابًا بموهبته. ثم حدث أن هناك قضية كان يوسف وهبي شاهدًا فيها، فذهب أمام القاضي للشهادة وعَرَفَ عن عمله كما يقضي القانون وقال بمنتهى الفخر ((ممثل))، فأسقط القاضي شهادته من فوره، ولما سأل وهبي عن السبب أخبره القاضي أن عمل الممثل احتراف التكسب من الكذب والادعاء وهذا مخرمة للمروءة تسقط عدالة الشاهد، وأزيد أن من له موهبة مثل موهبة وهبي رحمه الله لا يؤمن أن يكذب في الشهادة ويقنع القاضي، ثار وهبي وغضب ولجأ إلى من يعرف من علية القوم، ولكن في النهاية لم تقبل شهادة الممثل.

 

لا أزدري الممثلين ولا أدعو لازدرائهم، ولي من بين أصدقائي من مارس التمثيل ولا يزال، وإن كنت فعلًا أزدري نفرًا كثير من المحسوبين على التمثيل والفنون الدرامية لما يظهرون من وضيع الأخلاق ويتباهون بها، ولكني أود أن ننزل القوم منازلهم، ومنزلهم أنهم مجرد مؤدين لأدوار كتبها مؤلف النصوص، وحركاتهم أمليت عليهم من قبل المخرج، وصنعت شخصياتهم على الشاشة بمهارات المُزين ومهندس الضوء ومؤلف الموسيقى التصويرية، فهم في النهاية مجرد مؤدون ولذلك يسميهم الأمريكيين Performers، وليس مبدعين، فمن العبث أن نعتبر أحدهم فليسوف تؤخذ منه الفلسفة لأنها أدى دور أفلاطون على المسرح، أو أن احدهم فقيه لأنه لعب دور ابن حزم في مسلسل، دعك من أن يزعم هو ذلك، فالبعض منهم يأخذه الغرور والهبل فيظن أن أداءه لدور يسمح له بادعاء الحكمة والفلسفة والدين.

 

لا يؤخذ تاريخ من الدراما.

 

لا يؤخذ علم من دراما.

 

ومن باب أولى وقبل كل شيء ... لا يؤخذ دين من دراما.

 

استهدوا بالله كده واعقلوا ولا تمشوا وراء الهبل.

 

صح صيامكم.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات