أ. صلاح عبد الرؤوف
(خاص بمركز الزيتونة).
اكتسبت فلسطين قدسيتها، كونها أُولى القبلتيْن، وثالث الحرميْن
الشريفيْن، كما أنها مهد المسيح (عليه السلام)؛ إضافة إلى أن فلسطين قضية تحرر
وطني، وعربية في منشئها، وفي حلِّها، بأفق إنساني؛ لذا، فقد تصدَّرت سُلَّم
أولويات الأُمة العربية، والإسلامية، ما جعل الشعوب العربية، والإسلامية، حائلاً
دون أن يتمتع الكيان الصهيوني بعلاقات طبيعية مع دولهم، فلزِم تغييب العقل العربي،
ليصبح العدو صديقاً، وذلك بأدوات عدة، منها، تزييف الوعي الديني، من خلال فتاوى،
وآراء تَنْتَحي بالشريعة، بعيداً عن الحق، وقد تمَّ، في موجات متوالية، كلٌّ منها
أشدُّ من سابقتها، سُوءاً، وانحرافاً.
ثمة حقيقة يجب إقرارها، أولاً، أن فتاوى “التطبيع”، والمهادنة
للعدو، كانت خروجاً على ما أصَّله فقهاء الأمة، من آراء فقهية، أوجبت الجهاد ضدّ
العصابات الصهيونية، وكيانها الغاصب، وألزمت آحاد الأمة بالعزل التام للكيان، على
كل الأصعدة، من خلال المقاطعة؛ إدراكاً من العلماء بطبيعة الصراع مع العصابات
الصهيونية؛ فهو “عدوٌ محاربٌ”، قد “أغار على وطنٍ من دار الإسلام، فاستولوا عليه
بالقوة، واستبدوا بأمر المُلك فيه”، وأن أهداف العدو البعيدة، هي “السيطرة على دول
الإسلام كافة، والقضاء على عروبتها، وحضارتها”، ولتحقيق هذا الهدف، سعت هذه
العصابات، أولاً، إلى “إقامة دولة يهودية بقُطر من أعز أقطار الأمة العربية
والإسلامية، وهو فلسطين”، و”تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة، وإخراجها من أيدي
أهلها، وإجلائهم عنها”، وذلك من خلال “امتلاك أراضي فلسطين”، التي تعدُّ “القضية
الأساسية”، وهذا كله يتم، بدعم من الدول الغربية، وبتأييد من المؤسسات الدولية،
ومساعدة بعض أبناء الوطن؛ وانطلاقاً من هذا الفهم لطبيعة الصراع.
منذ الأيام الأولى للصراع العربي – الصهيوني، خرجت الفتاوى، تحثُّ
المسلمين، في كل بقاع الأرض، على وجوب الجهاد لتحرير فلسطين، بالنفس والمال،
وحرَّمت التقاعس عن هذا الواجب، وعدم جواز الصلح مع العصابات الصهيونية؛ “لما له
من إقرار الغاصب [العصابات الصهيونية] على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية
يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه”؛ وعارضت فتاوى العلماء،
في أثناء الحرب مع العصابات الصهيونية، عقد الهدنة مع العدو الصهيوني، لما سيعود
بالمصلحة عليه، دون تحقيق فائدة للمجاهدين، في ميدان المقاومة؛ وكذا أيَّد العلماء
مقاطعة العدو، بـ”منع السلاح، والذخيرة عن اليهود، وعدم السماح بمرور ناقلاتها”،
وعدم جواز “إرسال أي شيء، سواء كانت أسلحة، أو مواد تُستخدم في صناعتها، أو حتى
الغذاء، والملبس”، حيث إن “إرسال غير الأسلحة إليهم، يُقوّيهم، ويُغريهم على
التشبث بموقفهم، الذي لا تبرره الشريعة”. وأعلنت الفتاوى بطلان القرارات الدولية
الجائرة، في حق الشعب الفلسطيني، مثل قرار التقسيم؛ وأجمعت على “تحريم بيع الأرض
في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع، والتوسُّط فيه، وتسهيل أمره، بأي
شكلٍ، وصورة من صورها الرسمية (البيع)، أو غير الرسمية (كالترغيب)”، وتحريم “الرضا
بذلك كله، والسكوت عنه، وأن ذلك كله أصبح، بالنسبة لكل فلسطيني، صادراً من عالِم
بنتيجته، راضٍ بها، ولذلك، فهو يستلزم الكفر، والارتداد عن دين الإسلام”، وأن “بائع
الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك، مباشرة، أو بالواسطة، وأن السمسار،
والمتوسط في البيع، والمسهِّل له، والمساعد عليه، بأي شكلٍ، مع علمهم بالنتائج، كل
أولئك، ينبغي ألا يُصلى عليهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم،
ومقاطعتهم، واحتقار شأنهم، وعدم التودد إليهم، ولو كانوا أباءً، أو أبناءً، أو
إخواناً، أو أزواجاً”؛ كما بيَّنت الفتاوى الموقف من آية: “وَإِن جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ”، حيث إجماع الفقهاء على تقييدها، برؤية مصلحة للمسلمين، في ذلك، أخذاً
بقوله تعالى: “فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”؛ وعن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي
مكة، أشار العلماء إلى وجود “فارق، لا بدّ من رعايته، وهو أن مكة كانت بلداً
مشتركاً بين المؤمنين، والمشركين، ووطناً لهم أجمعين، بخلاف أرض فلسطين، فإنها
مِلكٌ للمسلمين، وليس لليهود فيها حكمٌ، ولا دوله”؛ ولم ترتبط الفتاوى، بحدود
فلسطين الجغرافية، بل خرجت من فلسطين، وسورية، وعلماء نجد، ومصر، وعلماء العراق،
والمغرب العربي، وجمعية العلماء المركزية للهند، والمؤتمر الدولي الإسلامي في
باكستان.
جاء حين من الدهر، سيطرت فيه أنظمة شمولية على الحكم في الدول
العربية، حرصت على توظيف الدين لخدمة سياستها الرامية، في الأساس، إلى الاحتفاظ
بكرسي الحكم، وضمان استقرار الأوضاع الداخلية، من خلال تحييد القوى الخارجية، حتى
وإن كانت تلك السياسات في غير صالح الشعوب؛ ما استلزم تهيئة العقول العربية لما
ترمي إليه تلك الأنظمة؛ ولأن الدين، أصل نافذ في وعي الشعوب، وأكبر المؤثِّرات على
أبناء الأمة؛ فلزم استقطاب بعض أصحاب العمائم، لتبرير تلك السياسات، فسقط البعض في
اجتهادات خاطئة، وارتضى البعض الآخر أن يفتي ابتغاء مرضاة الرئيس، فكان الخطأ،
والتزييف، هو الموجِّه لتلك الآراء. غير أن الأمة لم تُعدم العافية، بل من علمائها
من لم يزالوا على الحق، يكشفون كل زيف، بالحجة، والبيان.
الموجة الأولى:
قصَّ السادات شريط التطبيع، مع العدو الصهيوني، خريف 1977، وإن سبق
هذه الخطوة سلسلة من التراجعات، التي أقدم عليها السادات، في تعامله مع عدو الأمة؛
فقد اختار السادات، منذ تولّيه رئاسة الجمهورية في مصر، في 17/10/1970، طريق
“التسوية السلمية” مع الكيان الصهيوني، معوِّلاً على أمريكا، في أن تسانده بتحقيق
تسوية مقبولة، فبدأ بتمديد وقف إطلاق النار مع العدو الصهيوني، دون أن يتشاور مع
أيٍّ من أركان حكمه، لاهثاً وراء أي تسوية تُعلن؛ وما أن أصدر الوسيط الدولي،
غونار يارنغ Gunnar
Jarring،
مذكرة aide-memoire، في 8/2/1971، والتي
احتوت على خطوات تنفيذية لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 242،United Nations Security Council، حيث طالب الكيان
الصهيوني بالانسحاب إلى الحدود الدولية مع مصر، وطالب مصر بتوقيع “معاهدة سلام” مع
الكيان الصهيوني، حتى سارع السادات بإعلان قبوله توقيع “اتفاق سلام” مع الكيان،
بعد أسبوع من صدور المذكرة، غير أنه اصطدم بصخرة الرفض الصهيوني في التعاطي مع تلك
المبادرة، في 26 من الشهر نفسه، وعلَّق السادات على ذلك، قائلًا: “أنا شايف إن
مافيش فايدة، إلا إذا دخلنا في حرب مع إسرائيل”. واتجهت مصر نحو إتمام الاستعدادات العسكرية،
لخَوْض الحرب ضدّ الكيان، وقد استعانت في ذلك بالعلماء، والدعاة الإسلاميين، لشحن
الضباط، والجنود ضدّ العدو الصهيوني، مغتصِب الأرض، وترغيبهم في الجهاد،
والاستشهاد في سبيل تحرير الأرض، ودحر العدو، حتى إن بعضاً من العلماء كان على خط
الجبهة، في أثناء بدء الحرب، في 6/10/1973، لكنَّ خيار الحرب لدى السادات، لم يكن
لتحرير الأرض، واستردادها، بل كان تحريكاً للركود في مسار التسوية، ومحاولة لإجبار
الكيان الصهيوني على التحرك، بإيجابية ما، نحوها، حسب نصيحة وزير الخارجية
الأمريكية، آنذاك، هنري كيسنجر .
قَرَن السادات انعطافه نحو المعسكر الأمريكي، بتَسَرْبُلِه بالدين
الإسلامي، تحقيقاً لشرعية شعبية يواجه بها السيطرة الناصرية على مفاصل الدولة،
فأطلق محمد عثمان إسماعيل، أحد معاونيه، عليه لقب “الرئيس المؤمن”، وسارع السادات
إلى إضافة اسم “محمد” إلى اسمه، فأصبح “محمد أنور السادات”، وعلى غراره فعل كل
كبار المسؤولين في الدولة، عدا النساء، وبطرس بطرس غالي، وأخذ السادات يُلِح على
شعبه، كي يتحلى بـ”أخلاق القرية”، وحفلت شاشات التليفزيون، وسماعات الإذاعة بعرض
السادات، وهو ذاهب إلى المسجد، وهو يركع، ويسجد، في خشوع، ثمَّ وهو يعود إلى
منزلة، بملابسه الريفية، في استجداء لشعبية يفتقدها.
صُدِمت، الشعوب العربية، والإسلامية، وكذا معاونو السادات، بإعلانه
عن مبادرته للسفر إلى الكيان الصهيوني، في خطابه الشهير، أمام مجلس الشعب المصري،
في 9/11/1977، وقد تَقَصَّد حضور ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة
التحرير الفلسطينية، لهذه الجلسة، كخطوة ٍ لبدء مسار التسوية مع الكيان، والتي لم
تكن مفاجئة لقادة الكيان، بل كانت الفخ الذي حفره الصهاينة للسادات، حيث إن
الزيارة تمت بناءً على دعوة من مناحيم بيغن، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، آنذاك،
للسادات، حملها له الإعلامي الأمريكي الشهير والتر كرونكايت، لزيارة القدس،وسبقها
لقاء، تمّ برعاية مغربية، حضره من الجانب المصري حسن التهامي، مبعوثاً من السادات،
وكمال حسن علي، مدير المخابرات العامة المصرية، آنذاك، والذي أعلن، لاحقاً، أنه قد
تمّ تكليفه من الرئيس السادات بزيارة المغرب، دون معرفته بهدفها، أو حتى هوية من
سيقابله فيها، وحضر من الجانب الصهيوني موشيه ديان وعلى الرغم من طوفان
الانتقادات، والمعارضة، الذي واجه تلك المبادرة، على المستوييْن، الشعبي والرسمي،
في المحيط الإقليمي، وفي الداخل المصري، وحتى بين أركان نظام السادات، حيث استقال
عدد من وزرائه، فإن السادات أتمَّ الزيارة المشؤومة، ثم قام بتوقيع اتفاقية كامب
ديفيد ، في 17/9/1978، على الرغم من مقاطعة عدد من أعضاء الوفد المصري لمراسم التوقيع،
رفضاً لبنود الاتفاق؛ وبعدها، وقَّع السادات “معاهدة السلام” مع الكيان الصهيوني،
في 26/3/1979، وما تبعها من التزامات الطرف المصري بالتطبيع مع الكيان الصهيوني،
في كل المجالات، وعلى كل المستويات؛ وفي المقابل، تصاعد الغضب العربي على ما أقدم
عليه السادات، من خطوات، قوَّضت كل مكاسب انتصارات حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973،
وشقَّت الصف العربي، في مواجهة العدو الصهيوني، حتى بلغ حدّ إعلان دول عربية
مقاطعة مصر، وتمّ نقل مقر الجامعة العربية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، من
القاهرة إلى تونس العاصمة؛ وفي أثناء زيارته للكيان، لم ينسَ السادات أن يُصلي في
المسجد الأقصى، ثاني أيام زيارته، والذي صادف أن يكون يوم عيد الأضحى.
يتبع
0 تعليقات