محمود جابر
يعتبر الأسس المعرفى
لنظرية الولاية التكوينية، هو الحديث عن الجبر والتفويض، وهذه القضية حتما هى من
المسائل التى طرحت مبكرا فى تاريخ علم الكلام، وهى قضية عالقة بين علم الكلام
والكلام عن العقيدة في إطار المسائل المتعلقة بإرادة الإنسان وإرادة الله والقضاء
والقَدَر الإلهيين.
لقد مثلت هاتان المدرستان حدَّيْ الإفراط
والتفريط في موضوع إرادة الإنسان، وقد تمّ طرح نظريات أخرى أيضاً في إطار بيان
الطريقة الوسطى بينهما. ومن بين هذه النظريات يمكن لنا تسمية )نظرية الكسب).
وربما نظرية الكسب هى
التسمية الأخرى لما عرف لدى المعتزلة بـ (المنزلة بين المنزلتين)... والتى أطلقها
واصل بن عطاء فى درس أستاذه الحسن البصرى.
أولا : التفويض
إن "التفويض" لغة
يعني تسليم أمر لشخصٍ، وجعل ذلك الشخص حاكماً ومهيمناً على ذلك الأمر. وبملاحظة
فاعل ومتعلق وكيفية التفويض تكون له أقسام ومعانٍ متعدّدة؛ بعضها إيجابي، ويحمل
قيمةً أخلاقية؛ وبعضها الآخر سلبي، ومرفوض من الناحية الدينية. وفي ما يلي نعمل
على بيان هذه الأقسام والمعاني:
1ـ إن أول معاني التفويض أن
يفوّض الإنسان تدبير أموره إلى الله عزَّ وجلَّ. هذا، وإن تفويض الأمور إلى الله
والتوكُّل على الله متقاربان.
كما أنهما من حيث المعنى اللغوي قريبان من
بعضهما أيضاً. ومن هنا نجد بعض اللغويين يأخذ كلّ واحد منهما في تعريف الآخر. فقد
عرَّف الفيومي «التوكُّل» قائلاً: «وكلت الأمر إليه: فوّضته إليه واكتفيت به».
أما ابن ابن فارس
فقال : "التفويض" بالقول: " اتكال في الأمر على آخر، وردّه عليه".
وبالإضافة إلى ما تقدّم، فقد ذكر اللغويون خصائص
أخرى في تعريف التوكّل، من قبيل: «الاكتفاء، والاعتماد، والوثوق من قبل الموكِّل
تجاه الوكيل، وعجز أو إظهار العجز من قبل الموكِّل».
إن هذه الخصائص وإنْ لم تؤخذ من معنى التفويض،
ولكنْ يبدو أنها من لوازم التفويض؛ لأن الشخص الذي يفوّض أموره وأعماله إلى آخر
فإنه يعتمد عليه عادةً، ويرى نفسه عاجزاً عن القيام بذلك العمل. وعليه فإن "التفويض"
و"التوكُّل" وإنْ اختلفا مفهوماً، بيد انهما بمعنى واحد.
وهذا ما صرحت به
الروايات الحديثية :
"فوّضوا أمركم إلى الله، وتوكّلوا عليه" .
في توضيح المعنى
الأول للتفويض يمكن القول: إن لدى الله تعالى إرادتين: إحداهما: الإرادة
التكوينية؛ والأخرى: الإرادة التشريعية. وإن إرادة الله التكوينية لا تتخلف، ولا
يمكن لشخصٍ أن يمنع من تأثيرها، وبمجرّد وقوعها يتحقّق متعلقها ـ وهو المراد ـ في
الخارج. قال الله تعالى في هذا الشأن: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82).
وأما الإرادة
التشريعية لله سبحانه وتعالى، والتي تتمثل بأوامره ونواهيه، فيمكن أن تتخلَّف، ولا
يكتب لها التحقّق؛ نتيجة لعصيان المكلَّف لها. لا قدرة ولا قِبَل للإنسان في
الوقوف بوجه الإرادة التكوينية، ولا خيار له تجاهها سوى التسليم إلى أمر الله؛
وأما في ما يتعلق بالإرادة التشريعية فهو مختارٌ، ويمكنه التسليم لأوامر الله
ونواهيه أو يخالفها ويعصيها؛ إذ من شرائط التكليف القدرة والاستطاعة على الفعل
والترك.
فإذا قام شخصٌ في
دائرة الإرادة التشريعية لله بتسليم إرادته وأمره للإرادة الإلهية، لا في الأعمال
الظاهرية فقط، بل في جميع أبعاد حياته، ولا سيَّما في سرّه وخلواته وتدبير أمور
حياته، يكون بذلك قد بلغ مقام التفويض. وفي الحقيقة، كما أن الإرادة التكوينية لله
مفروضةٌ ومهيمنة على الإنسان تكويناً وجبراً، فإن الإنسان باختياره وإرادته يجعل
الإرادة التشريعية لله حاكمةً على إرادته واختياره، ويترك أموره إلى إرادة الله.
إن لازم مثل هذا
التفويض أن يكون الشخص مطمئناً إلى قدرة الله المطلقة وإرادته الخيِّرة في حقه،
وأن يكون راضياً بتدبيره وإرادته، ويعلم أنه لن يتحقّق أيّ شيء إلاّ بإذنه، وأن
جميع الممتلكات والأموال والطاقات والقوى إنما هي من الله، وأنه متى ما أراد الله
أمكنه أن يسلبه جميع ذلك. وعليه فإن مثل هذا التفويض، في الوقت الذي لا يتنافى مع
حرّية وإرادة الإنسان، ينسجم مع قدرة الله المطلقة أيضاً .
وفى حديث النبى صلوات الله عليه قال : إذا قال العبد: (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله) فقد فوّض
أمره إلى الله، وحقّ على الله أن يكفيه.
إذا التفويض ركن من
أركان الإيمان، واليقين..
أما التفويض التشريعي
من قبل الله تعالى، وما يتعلق بالأعمال والتكليف الشرعية التي يجب على المكلف
القيام بها أو ربما تركها، حين رفع
التكليف عن المكلف، وهذا المعنى هو التفويض فى الإباحة، وفقا لعقله فى الفعل أو
الكف .
وهنا حدثت إشكالات
متعددة، واتهامات متناقضة وتصفيات سياسية وخصومات شخصية، فى تفسير الحديث عن
التفويض وقضية أن الأمر بين أمرين .
ومن خلال هذه القضية نبتت قضية أخرى وهو أن الله تعالى فوض بعض أمور الدين إلى النبيّ الأكرم وللعترة
الطاهرة، وبدأت رحلة التنقيب عن النصوص
الدالة على شرعية تلك القضية.
لكن الأمر فى الكلام عن التفويض، لم يقف عند حد التفويض التشريعى، بل تعداه
غالى الحديث عن التفويض التكوينى، وهو أن الله تعالى فوض بعض من قضية الرزق والخلق
فى العالم، على النبى الأكرم والعترة الطاهرة، وقد ذهب الشيخ المفيد فى تصحيح الاعتقاد إلى القول بأن
مصداق المفوّضة بهذا المعنى هم جماعةٌ من الغلاة.
وقال في هذا الشأن:
«المفوضة فرقة من الغلاة الذين غلَوْا في حقّ بعض المخلوقين، وأجروا في حقهم
الأحكام الإلهية، تعالى الله عن ذلك. وقول هذه الفرقة الذي فارقوا به غيرهم أنهم
قالوا في الأئمّة أنهم عبادٌ مخلوقون، وأن ذواتهم حادثة، ونفَوْا سمات القِدَم عنهم،
وقالوا: إن الله تعالى تفرّد بخلقهم خاصّة، ثم فوَّض إليهم خلق العالم بما فيه،
وجعل إليهم أمر الخلق والرزق وجميع الأفعال الواقعة في الكون»
وبنفس المعنى فى تمهيد الأصول
قال الشيخ الطوسى كلاما مشابها عن التفويض؛ إذ يقول: "إن هذا الدليل يدلّ على
أن الصنعة [خلق العالم] تنتهي إلى صانع قديم، ولا يدلّ على أن صانع العالم بلا
واسطةٍ هو القديم تعالى، فيحتاج في إبطال ذلك إلى طريقةٍ أخرى، ليبطل مذهب
المفوّضة وغيرهم".
المفوضة أو أصحاب
نظرية الولاية التكوينية يقولون بأن خلق الكون ينتهي في نهاية المطاف إلى الله
سبحانه وتعالى، وإن الواسطة بين الله والكون هم الأئمة، وإنهم هم الذين خلقوا
العالم.
وهنا
نرى ان حديث الإمام الرضا يخالف قولهم جملة وتفصيلا؛ إذ يقول سلام الله على
:"مَنْ زعم أن الله يفعل
أفعالنا ثمّ يعذِّبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عزَّ وجلَّ فوّض أمر
الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافرٌ، والقائل بالتفويض
مشركٌ.
يتبع
0 تعليقات