نصر القفاص
ترك "محمد حسنين هيكل" وثيقة كاشفة.. شارحة لما اعتقده
بأنه "الجمهورية الأولى" التى انتهت برحيل "جمال عبد الناصر"
وذكر تلميحا – دون تصريح – أن "أنور السادات" وضع أساس "الجمهورية
الثانية" التى استمرت لأكثر من نصف قرن!!
كتاب "وقائع تحقيق سياسى" الذى صدرت الطبعة الأولى منه
عام 2003, يتضمن الأساس الذى قامت عليه "الجمهورية الثانية" وهو باختصار
كان هدم أركان "الجمهورية الأولى" بالذهاب فى الطريق العكسى اقتصاديا
وسياسيا وعسكريا وثقافيا.. بل وحتى اجتماعيا.. وظنى أن ما وصلنا إليه هو نتيجة
واضحة لما حدث طوال – وخلال – هذا الزمن.. ويبقى الإشارة إلى أن رجال
"الجمهورية الثانية" يحاولون جمعها مع "الجمهورية الأولى"
أملا فى إطالة عمرها.. ربما لأنهم لا يريدون أكثر من الإساءة.. أو قل تشويه
"المؤسسة العسكرية" لطرحها من معادلة حفظ هذا الوطن وضمان تماسكه
واستقراره!!
أخذني الكتاب – الوثيقة – إلى تفاصيل أصبحت مناقشتها ضرورة بقدر ما
هى واجب وطنى.. والواجب الوطنى لا علاقة له بما يسمى "الحوار الوطنى"
الذى نسمع عنه, دون أن يكون له صدى!!
لنا أن نتخيل حوارا وطنيا يطغى عليه صوت الجماهير فى ملاعب كرة القدم..
سواء كانت المباريات فى أوروبا – ريال مدريد وليفربول – أو يتجاوز ما شهدته قاعات
المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية بين فنان هوليودى وزوجته – قضية جونى ديب
وأمبر – ووصل الأمر إلى حد أن جريمة وقعت فى "كاليفورنيا" شغلت الرأى
العام المصرى بتركيز "ماكينة إعلامية متهالكة" عليها بما لا يتخيله عقل
أو منطق.. لمجرد أن القضية تمس وزيرة مصرية.. وتضيع فى الزحام الجريمة الأخطر
داخليا, إذ أقدمت أم على قتل أولادها الأطفال الثلاثة وحاولت الانتحار.. تلك
"كارثة" كانت تستدعى إشعال "لمبات المجتمع الحمراء" لأنها
تمثل امتدادا لسلسلة جرائم شديدة الخطورة.. كلها يتم نشرها عبر مواقع إخبارية..
وقد تكون نشرتها صحف.. لكننى تعافيت من قراءة الصحف, فلا أعرف ما إذا كانت قد
نشرتها من عدمه!! وواجبى الإشارة إلى واقعة انتحار صحفى كبير, من داخل أكبر مؤسسة
صحفية عربية ومصرية – الأهرام – وبسرعة تم طى الصفحة لتموت حقيقة صرخة.. ربما أراد
أن يصرخها "عماد الفقى" الذى مزق قلب كل من يعرفه.. لأنه كان من عشاق
الحياة.. وكان مهنيا مرموقا.. فضلا عن أنه كان إنسانا ترك فيض محبة وتقدير فى نفس
كل من صادفه وعرفه!!
تعرضت "الجمهورية الأولى" لضربة قاسية وقاسمة.. كانت
بوقوع نكسة يونيو, وهى هزيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. لم ينكر ذلك قائد وزعيم
هذه الجمهورية.. ضمن أسباب تلك الهزيمة كان الصراع الصامت بين القيادة السياسية –
عبد الناصر – والقيادة العسكرية – عامر – والذى بدأ بعد انهيار الوحدة مع سوريا..
وتفاصيل هذا الصراع تناولها عدد من رجال الحكم عبر مذكراتهم.. وكتب عنه الكثير من
الكتاب.. ثم اعترف به وواجهه "عبد الناصر" فى "بيان 30 مارس"
الذى أعلن خلاله حكاية "مراكز القوى" وسقوط "دولة المخابرات"
ثم شرع فى بناء القوات المسلحة على أسس علمية وعصرية.
رحل "عبد الناصر" وترك دولة لها توجهات ومنهج حكم
واضحين.. وبمجرد تولى "أنور السادات" اعتمد طريقة "الخداع
الاستراتيجي" للشعب وكل من كانوا حوله من رجال "الجمهورية
الأولى".. كان يعلن أنه سيمضى على طريق "عبد الناصر" بينما كل
قراراته وتوجهاته فى الطريق العكسى.. بداية من رؤيته للصراع العربى – الإسرائيلي..
مرورا بالتوجهات الاقتصادية.. وليس انتهاء بانحيازاته الاجتماعية.. فإذا كان
"عبد الناصر" قد اختار الانحياز للفقراء والطبقة المتوسطة.. فقد اتجه
"السادات" إلى إعادة بناء طبقة الأثرياء عبر ما أطلق عليه الانفتاح الاقتصادي..
ثم اختار من اللحظة الأولى إعادة الإسلام السياسي للواجهة – جماعة الإخوان – لكى
يشاركوه مسيرته في طريق 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا!!
التفاصيل يمكنك الاطلاع عليها في كتاب "وقائع تحقيق
سياسى" وتضمن مثول المؤلف – محمد حسنين هيكل – عام 1978 أمام هيئة قضائية
لمحاكمته بسبب أفكاره وآرائه وتوجهاته السياسية المنشورة.. وكانت هيئة المحكمة
برئاسة "أنور حبيب" المدعى العام الاشتراكي, ومعه "عبد الرحيم
نافع" الذى أصبح فيما بعد محافظا.. وكذلك "أحمد سمير سامى" وأصبح
وزيرا للعدل فيما بعد.. وجاء اختياره للمنصب الوزاري بعد أن سقط فى انتخابات نادي القضاة..
ولعل ذلك يذكرنا بتكريم "سامح عاشور" مؤخرا, بتعيينه عضوا بمجلس الشيوخ
بعد أن سقط فى انتخابات نقابة المحامين!!
منهج "الجمهورية الثانية" حافظ عليه "حسنى
مبارك" بتعديلات فى طريقة الحكم وأساليبه.. وكادت هذه الجمهورية أن تنتهى بما
حدث يوم "25 يناير 2011" ويسميه الدستور الحالى "ثورة".. لكن
"جماعة الإخوان" باعتبارها كانت شريكا من الباطن فى معادلة الحكم !! اعتقدت
فى أن فرصتها قد لاحت بعد سقوط الطرف الثانى – الفساد – وحدث ما نعلمه ومازلنا
نذكر تفاصيله.. فقد انتفض الشعب ضد "الإخوان" خلال ما حدث فى "30
يونيو 2013" وما بعده, ويسميه الدستور الحالى "ثورة".. شهدت مرحلة
انتقالية لمدة عام.. ثم تولى "عبد الفتاح السيسى" المسئولية.. إلتف حوله
الشعب بصورة مذهلة.. علقوا عليه آمالا عريضة.. كان مفترضا أن تظهر ملامح
"الجمهورية الثالثة" بمنهج جديد وتوجهات جديدة واضحة يفهمها الشعب..
ويفهمها المجتمع الدولى.. لكن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن!!
أصبحنا نسمع عن "الجمهورية الثانية" وبدأ الترويج لها
باعتبارها خط فاصل عن "زمن ثورة يوليو" وما بعده.. بدأنا نسمع انتقادات
واضحة لسياسات ثلاثين عاما سابقة.. ثم أصبحت ثلاثين إلى أربعين عاما.. بعدها شملت
الانتقادات ما حدث خلال ستين عاما.. كانت الانتقادات تقال غامضة.. عابرة.. حتى وقف
الدكتور "مصطفى مدبولى" رئيس الوزراء الحالى, ليلقى محاضرة فى حضور
الرئيس ورجال الدولة والإعلام خلال إحدى "الندوات التثقيفية" وكانت خلاصة
ما قاله أن مصر عاشت أزهى عصورها قبل "ثورة يوليو" وقدم يومها تاريخا
على شاشة عرض.. لا علاقة له بالتاريخ!! وذكر معلومات منزوعة من السياق, لتبدو على
أنها حقائق.. وكان مدهشا أن الرئيس تقبل ما ذكره رئيس الوزراء, رغم أنه مردود عليه
من الألف إلى الياء.. ورافق ذلك الترويج لما قالوا أنه "الجمهورية
الثانية" دون توضيح لمنهجها وتوجهاتها.. ولكن بما أننا نعيش زمن ترسل فيه
الدولة فقط.. ولا تستقبل!! انصرف الناس عن التدقيق أو الرد والمناقشة.. راحوا
يشغلون أنفسهم "بالنميمة" ومتابعة قضايا الفنان الأمريكى ولاعب الكرة
الأسبانى وزوجته الفنانة.. ركزوا فى كرة القدم ومبارياتها.. ولم يسلم المجتمع
والناس من الذين لا يقدرون سوى على إدانة الشعب, اعتقادا منهم أنه عاجز عن القول
أو الفعل!! وهنا تكمن الخطورة.. ويجب أن نحذر مما هو قادم, لاعتقادي أنه سيتجاوز
القدرة على تصوره!!
فى "وقائع تحقيق سياسى" قال "محمد حسنين هيكل"
كلمته, وحذر من خطورة القادم.. وقد حدث فيما بعد, يوم السادس من أكتوبر, أن سقط
"السادات" برصاص واحدة من "الجماعات المفقوسة عن الإخوان" فى
مشهد مأساوى.. وحكم "حسنى مبارك" لمدة ثلاثين عاما, حتى سقط فى مشهد
درامى.. وسقطت "جماعة الإخوان" فى مشهد تراجيدى.. وكانت الآمال معلقة
على "عبد الفتاح السيسى" الذى اختار – وتمسك – بما يمكن أن نسميه
"شرعية الإنجاز" دون أن تظهر اتجاهات الإنجاز وانحيازاته.. هل هى لصالح
الفقراء والطبقة المتوسطة؟! اكتفى بطرح السؤال.. هل هى لصالح الأثرياء وأصحاب
الهوى والغرض؟! مجرد سؤال.. ثم تتكاثر الأسئلة وتنفجر فى عقل الناس, حتى وصلنا إلى
"حالة غامضة" يخشاها الحكام والمحكومين.. يعكس ذلك إعلام شاع وصفه بأنه
"إعلام سامسونج"!!
هل هناك علاقة بين كل ما عبرت عليه.. وكتاب "وقائع تحقيق
سياسى" الذى تركه لنا "الأستاذ" كوثيقة؟!
أستطيع الإجابة باعتقادي أنه "نعم" لأن التحقيق كان
تطبيقا لما نسميه بمحاكم التفتيش.. التفتيش فى العقول والضمائر.. حدث ذلك فعلا فى
زمن غابر وانتهى.. وإذا حاول حاكم استعادته وفرضه على زمن آخر.. يحدث ما استعرضته
بسرعة.. لكن أن نعيش القرن الواحد والعشرين, ويتخيل أحدنا أو بعضنا أن الصمت يعنى
الرضا.. فهذا الخطأ والخطر بعينه.. لأن الشعوب فى زمننا هذا لا تصمت.. الشعوب تملك
أدوات ووسائل التعبير القادرة على الوصول إلى أطراف المعمورة.. والشعوب تملك
الأدوات والوسائل التى تمكنها من معرفة ما يدور فى أطراف المعمورة.. تلك حقيقة
ثابتة لا يعترف بها "إعلام سامسونج" وهذا حقه.. وواجبنا الإشارة إلى
أننا نعيش زمن "المنشورات العلنية" بعد انتهاء زمن "المنشورات
السرية" التى أسقطت النظام الملكى وأطاحت "بالولد الذى حكم مصر"
واسمه "الملك فاروق"!!
من هنا يمكن أن نبدأ الحديث عن "الجمهورية الثالثة" التى
طال انتظار "الشعب المصرى الشقيق" لها.. وما هو طريق الوصول إليها؟!..
يتبع
0 تعليقات