آخر الأخبار

ورقة علمية: المطبِّعون ينتحُون بالشريعة …(3)

 

 



 

صلاح عبد الرؤوف


(خاص بمركز الزيتونة)

 

اكتسبت فلسطين قدسيتها، كونها أُولى القبلتيْن، وثالث الحرميْن الشريفيْن، كما أنها مهد المسيح (عليه السلام)؛ إضافة إلى أن فلسطين قضية تحرر وطني، وعربية في منشئها، وفي حلِّها، بأفق إنساني؛ لذا، فقد تصدَّرت سُلَّم أولويات الأُمة العربية، والإسلامية، ما جعل الشعوب العربية، والإسلامية، حائلاً دون أن يتمتع الكيان الصهيوني بعلاقات طبيعية مع دولهم، فلزِم تغييب العقل العربي، ليصبح العدو صديقاً، وذلك بأدوات عدة، منها، تزييف الوعي الديني، من خلال فتاوى، وآراء تَنْتَحي بالشريعة، بعيداً عن الحق، وقد تمَّ، في موجات متوالية، كلٌّ منها أشدُّ من سابقتها، سُوءاً، وانحرافاً.

 

ثمة حقيقة يجب إقرارها، أولاً، أن فتاوى “التطبيع”، والمهادنة للعدو، كانت خروجاً على ما أصَّله فقهاء الأمة، من آراء فقهية، أوجبت الجهاد ضدّ العصابات الصهيونية، وكيانها الغاصب، وألزمت آحاد الأمة بالعزل التام للكيان، على كل الأصعدة، من خلال المقاطعة؛ إدراكاً من العلماء بطبيعة الصراع مع العصابات الصهيونية؛ فهو “عدوٌ محاربٌ”، قد “أغار على وطنٍ من دار الإسلام، فاستولوا عليه بالقوة، واستبدوا بأمر المُلك فيه”، وأن أهداف العدو البعيدة، هي “السيطرة على دول الإسلام كافة، والقضاء على عروبتها، وحضارتها”، ولتحقيق هذا الهدف، سعت هذه العصابات، أولاً، إلى “إقامة دولة يهودية بقُطر من أعز أقطار الأمة العربية والإسلامية، وهو فلسطين”، و”تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة، وإخراجها من أيدي أهلها، وإجلائهم عنها”، وذلك من خلال “امتلاك أراضي فلسطين”، التي تعدُّ “القضية الأساسية”، وهذا كله يتم، بدعم من الدول الغربية، وبتأييد من المؤسسات الدولية، ومساعدة بعض أبناء الوطن؛ وانطلاقاً من هذا الفهم لطبيعة الصراع.

 

منذ الأيام الأولى للصراع العربي – الصهيوني، خرجت الفتاوى، تحثُّ المسلمين، في كل بقاع الأرض، على وجوب الجهاد لتحرير فلسطين، بالنفس والمال، وحرَّمت التقاعس عن هذا الواجب، وعدم جواز الصلح مع العصابات الصهيونية؛ “لما له من إقرار الغاصب [العصابات الصهيونية] على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه”؛ وعارضت فتاوى العلماء، في أثناء الحرب مع العصابات الصهيونية، عقد الهدنة مع العدو الصهيوني، لما سيعود بالمصلحة عليه، دون تحقيق فائدة للمجاهدين، في ميدان المقاومة؛ وكذا أيَّد العلماء مقاطعة العدو، بـ”منع السلاح، والذخيرة عن اليهود، وعدم السماح بمرور ناقلاتها”، وعدم جواز “إرسال أي شيء، سواء كانت أسلحة، أو مواد تُستخدم في صناعتها، أو حتى الغذاء، والملبس”، حيث إن “إرسال غير الأسلحة إليهم، يُقوّيهم، ويُغريهم على التشبث بموقفهم، الذي لا تبرره الشريعة”. وأعلنت الفتاوى بطلان القرارات الدولية الجائرة، في حق الشعب الفلسطيني، مثل قرار التقسيم؛ وأجمعت على “تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع، والتوسُّط فيه، وتسهيل أمره، بأي شكلٍ، وصورة من صورها الرسمية (البيع)، أو غير الرسمية (كالترغيب)”، وتحريم “الرضا بذلك كله، والسكوت عنه، وأن ذلك كله أصبح، بالنسبة لكل فلسطيني، صادراً من عالِم بنتيجته، راضٍ بها، ولذلك، فهو يستلزم الكفر، والارتداد عن دين الإسلام”، وأن “بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك، مباشرة، أو بالواسطة، وأن السمسار، والمتوسط في البيع، والمسهِّل له، والمساعد عليه، بأي شكلٍ، مع علمهم بالنتائج، كل أولئك، ينبغي ألا يُصلى عليهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم، ومقاطعتهم، واحتقار شأنهم، وعدم التودد إليهم، ولو كانوا أباءً، أو أبناءً، أو إخواناً، أو أزواجاً”؛ كما بيَّنت الفتاوى الموقف من آية: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، حيث إجماع الفقهاء على تقييدها، برؤية مصلحة للمسلمين، في ذلك، أخذاً بقوله تعالى: “فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”؛ وعن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة، أشار العلماء إلى وجود “فارق، لا بدّ من رعايته، وهو أن مكة كانت بلداً مشتركاً بين المؤمنين، والمشركين، ووطناً لهم أجمعين، بخلاف أرض فلسطين، فإنها مِلكٌ للمسلمين، وليس لليهود فيها حكمٌ، ولا دوله”؛ ولم ترتبط الفتاوى، بحدود فلسطين الجغرافية، بل خرجت من فلسطين، وسورية، وعلماء نجد، ومصر، وعلماء العراق، والمغرب العربي، وجمعية العلماء المركزية للهند، والمؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان.



جاء حين من الدهر، سيطرت فيه أنظمة شمولية على الحكم في الدول العربية، حرصت على توظيف الدين لخدمة سياستها الرامية، في الأساس، إلى الاحتفاظ بكرسي الحكم، وضمان استقرار الأوضاع الداخلية، من خلال تحييد القوى الخارجية، حتى وإن كانت تلك السياسات في غير صالح الشعوب؛ ما استلزم تهيئة العقول العربية لما ترمي إليه تلك الأنظمة؛ ولأن الدين، أصل نافذ في وعي الشعوب، وأكبر المؤثِّرات على أبناء الأمة؛ فلزم استقطاب بعض أصحاب العمائم، لتبرير تلك السياسات، فسقط البعض في اجتهادات خاطئة، وارتضى البعض الآخر أن يفتي ابتغاء مرضاة الرئيس، فكان الخطأ، والتزييف، هو الموجِّه لتلك الآراء. غير أن الأمة لم تُعدم العافية، بل من علمائها من لم يزالوا على الحق، يكشفون كل زيف، بالحجة، والبيان.



الموجة الثانية:

 

امتدت تلك الموجة من الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987، وحتى وأد “الربيع العربي” سنة 2013، وقد شهدت تلك الموجة مزيداً من السقوط، إلى هاوية التطبيع مع العدو الصهيوني، في فتاوى بعض العلماء، والدعاة، وكأن مصلحة العدو، هي الغاية المرجوة.

 

1-       المسار الفلسطينى ( أسلو)



جاءت انتفاضة الحجارة في 8/12/1987، من مخيم جباليا، بقطاع غزة، ومن ثمَّ إلى أنحاء شتى من قطاع غزة، فالضفة الغربية، وكان لهذه الانتفاضة أصداء واسعة ومؤثِّرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد تزامنت الانتفاضة مع أحداث إقليمية ودولية، أذِنت بتغييرات جذرية في مسار الأحداث في فلسطين، بعد أن كانت قد شهدت فترة من الركود، منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد، و”معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية”، حتى إنه قد انعقد مؤتمر القمة العربية الطارئة في 8/11/1987، في عَمَّان، وقد تصدرت الحرب العراقية – الإيرانية جدول أعمال المؤتمر، بدلاً من القضية الفلسطينية، التي نُوقشت بصورة فرعية، وفي إطار البحث عن حلٍّ للمشكلة، بوسيلة سياسية! فلم يرد في قرارات المؤتمر أي ذكر لا لدولة فلسطينية، ولا لحق تقرير المصير، ولا حتى لتمثيل مستقل لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”؛ ما يُظهر اعتبار القادة العرب، أن الخطر الرئيسي على العالم العربي، هو إيران وليس “إسرائيل”! ومن بين قرارات المؤتمر قرار بـ”إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية، والتجارية، بين الدول العربية، والدول التي تزود إيران بالأسلحة”، في حين أنهى المؤتمر المقاطعة الديبلوماسية والاقتصادية لمصر، التي تمت على إثر توقيع الأخيرة “معاهدة السلام” مع الكيان الصهيوني؛ ما عدّه الكيان الصهيوني خطوة “ستجشع كل الدول العربية على عقد اتفاقات سلام مع (إسرائيل)”، وقد وصف شمعون بيريز ، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية للكيان الصهيوني حينها، الحدث بقوله: “ليست مصر التي عادت إلى العالم العربي، وإنما العالم العربي هو الذي عاد إلى مصر”!


تمثَّلت الرؤية الصهيونية لمسار الأحداث، أن “فرصة سانحة” تلوح في الأفق، لتحقيق تقدم في مسار التطبيع، من خلال البوابة الفلسطينية، حيث توافقت الرغبة الصهيونية وأُمنيات القيادة المتنفِّذة في منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك، في استثمار الأحداث، للحصول على مكاسب سياسية، وهي [تلك القيادة] التي أسرفت في تقديم نفسها، على الساحة الدولية، على أنها الشرطي الوحيد، القادر على وأد هذا “الشَغَب”(أي الانتفاضة)، وإعادة الاستقرار، أملاً في أن يقع على تلك القيادة الاختيار، لتقود تسوية سياسية مع الكيان الصهيوني، وهو الحلم الذي راود عرفات وفريقه منذ 1968.

 

 متغافلين عن أن الصهيونية تتعامل مع مَن تواجههم من العرب—فلسطينيين، وغير فلسطينيين—بمعادلة صفرية (إما هم، وإما نحن)؛ ما يعني أن الصهيونية، وكيانها لا يملكان إلا مشروع تصفية للقضية الفلسطينية، وما أبعد التصفية عن التسوية.



كان لزاماً على عرفات، أولاً، أن يقترب بالبيت الفلسطيني من مثلث القبول الصهيوني، فدفع مستشاره، بسام أبو شريف، لينشر رسالة، في حزيران/ يونيو 1988، داعياً فيها إلى “السلام”، والتعايش مع الكيان الصهيوني، ثمَّ عرض عرفات برنامجاً فلسطينياً جديداً، على المجلس الوطني الفلسطيني الـ 19 (الجزائر، 12-15 /1988/11)، ضمَّنه اعتراف المنظمة بقرار التقسيم، الصادر عن الأمم المتحدة (رقم 181، في 29/11/1947)، والقرار 242، الصادر عن مجلس الأمن (في 22/11/1967)، ثمّ وقَّع عرفات على “وثيقة ستوكهولم، في 7/12/1988، والتي تضمنت اعترافاً صريحاً بالكيان الصهيوني، وبقراريْ مجلس الأمن 242 و338، و”نبذ الإرهاب” (أي المقاومة المسلحة)، وكان المقابل لذلك، أن سُمح لعرفات بأن يُلقي خطابه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جنيف، في 14/12/1988، بعد أن رفضت السلطات الأمريكية السماح له بدخول نيويورك، حيث المقر الرئيسي للأمم المتحدة.

 
أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش ، في خطابه، أمام الكونجرس ، في 6/3/1991، عن “مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، بقوله: “آن الأوان لإنهاء النزاع في الشرق الأوسط، على أساس قراريْ مجلس الأمن الدولي 242 و338، ومبدأ (الانسحاب مقابل السلام)، الذي ينبغي أن يوفر الأمن، والاعتراف بـ(إسرائيل)، واحترام الحقوق المشروعة للفلسطينيين”. وبدأت جلسات المؤتمر، في مدريد، في 30/10/1991، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي (قبل انفراط عقده، بنحو شهرين)، وبحضور أوروبي، وشارك، من الجانب العربي، كل من، مصر، وسورية، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، والجزائر، ودول مجلس التعاون الخليجي الستّ، وفرض الكيان الصهيوني شروطه على المؤتمر، فتمَّ استبعاد المشاركة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واكتُفي بمشاركة ممثّلين فلسطينيين، ضمن الوفد الأردني، بعد موافقة “إسرائيل” عليهم، فرداً فرداً، وعلى ألا يكون أياً منهم على علاقة بمنظمة التحرير، أو يُقيم في القدس!

تتابعت اللقاءات السرية، بعد ذلك، بين ممثلين لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وممثلين للكيان الصهيوني، كلها على قاعدة واحدة، مفادها، كلما هبط سقف المطالب الفلسطينية، كلما ارتفع مستوى التمثيل الصهيوني في الاجتماعات، حتى بلغ المنتهى، بتوقيع محمود عباس، عضو مركزية فتح، وتنفيذية منظمة التحرير، وشمعون بيريز ، وزير الخارجية الصهيوني، على إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي (اتفاق أوسلو)، في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في 13/9/1993، متضمناً اعترافاً رسمياً من منظمة التحرير بالكيان الصهيوني، وإغفال حقّ العودة، وقضية القدس، كما حمَّل الاتفاق الجانب الفلسطيني التزامات أمنية، مفادها حماية أمن الكيان، ووأد الانتفاضة، والتصدي للمقاومة.



بعد أن تمّ التوقيع على اتفاق أوسلو، أعلنت كل فصائل المقاومة الفلسطينية معارضتها لاتفاق الإذعان هذا، وإن لم تتعدَّ هذه المعارضة حدود الألفاظ، عدا حماس، حيث أرسل رأس هذه الحركة، الشيخ أحمد ياسين، من محبسه الصهيوني، رسالةً، دان فيها اتفاق أوسلو، وندَّد به، سياسياً، ووجَّه ياسين خطابه إلى عرفات، قائلًا: “الذي لا يستطيع الزواج، لا يحل له الزنا!”، بينما كان للناطق الرسمي باسم حماس، آنذاك، إبراهيم غوشه، اتجاه آخر في نقد الاتفاق؛ مندداً بالقيادات المنتفعة، التي تتخذ قرارات مصيرية، “تصبُّ في مصلحة العدو الصهيوني المحتل، وتهدف إلى تدمير قضيتنا”؛ واتهم غوشة ياسر عرفات، وفريقه، بالعمل على تدمير مؤسسات منظمة التحرير، “تمهيداً لتمرير اتفاق الخيانة، والتفريط… وهو ليس إلا إدارة ذاتية هزيلة، على أقل من 2% من أرض فلسطين”. وحذَّر غوشه من أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تنفيذ سياسة الترحيل الجماعي (الترانسفير)، والأخطر “كونفدرالية (إسرائيلية) فلسطينية… ومناطه تحويل الفلسسطينيين إلى سماسرة للاحتلال، من أجل اختراق المنطقة، والشعوب العربية”؛ ودمغ غوشه عرفات، وفريقه بأنهم “وضعوا أنفسهم في خندق واحد مع العدو المحتل… وما عادوا يمثلون إلا أنفسهم، ومصالح الأعداء”. وبعد بيان طويل، ذكر غوشه، في البند الـ 11 من أُسس موقف حماس من اتفاق أوسلو: “نطالب علماء الأمة أن يقولوا كلمتهم الفاصلة”.

 

ورقة علمية: المطبِّعون ينتحُون بالشريعة … 2

يتبع

إرسال تعليق

0 تعليقات