آخر الأخبار

كتاب كل يوم جمعة : علم بقلم علم .. عبقري الإصلاح والتعليم محمد عبده بقلم العقاد

 

 


 

د. وسام الدين محمد
الثامن عشر من ذي القعدة 1443هـ
السابع عشر من يونيو 2022م

 

 

لعل سبب شهرة العقاد إلى اليوم تلك السلسلة من المؤلفات التي حملت اسم العبقريات. كانت للكتابة التاريخية أصول عريقة في الثقافة العربية الإسلامية، وكتابة السير من الموضوعات التقليدية في الكتابة التاريخية الإسلامية، والمكتبة العربية الإسلامية ذاخرة بسير الأعلام، ولكن عبقريات العقاد كانت نمط جديد. لم تكن العبقريات سيرة تاريخية لعلم من الأعلام، كما لم تكن رواية أدبية الخيال فيها يتقنع خلف قناع التاريخ، ولكنها كما وصفها صاحبها كانت صورة لحالة من العبقرية في لحظة من التاريخ. لا مشاحة أن منهج العقاد في عبقرياته كان فريدًا في الأدب العربي، إذ جاء متأثرًا بنزعات عصره، فتراه يبحث عن العبقرية في شخصيات كتبه مستنيرًا بأفكار مدرسة الأنثروبولوجي التشريحية الإيطالية ورائدها لامبروزو، المدرسة القائلة بالارتباط ما بين السجايا النفسية للإنسان وملامحه الجسدية، ويأخذ من كارليل إيمانه بقدرة البطل الفرد على تغيير التاريخ، وهو في ذلك لا يزال وفيًا لثقافته العربية الإسلامية، فجل عبقرياته ارتبطت بشخصيات إسلامية، ومثال ذلك تلك الشخصية التي خصها العقاد بكتابه اليوم، شخصية الشيخ محمد عبده.

 

كان ولا زال محمد عبده الشخصية الأكثر تأثيرًا في التاريخ الثقافي لمصر الحديثة برغم وفاته منذ ما يزيد عن مائة عام، وإلى اليوم يزعم الكثير أنهم أصحاب إرثه، حتى وإن لم يطلعوا على حرف من تراث الرجل المكتوب والموثق، وخالفت تصوراتهم تصوراته وقيمهم قيمه، فالانتساب إلى محمد عبده يعني الانتساب لتراث العمل الاجتماعي والسياسي الإصلاحي الرشيد، وليت شعري! صدق من قال «وكل يدعى وصلًا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا». كان الرجل في سيرته يختزل سيرة الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية في زمانه، ليس في مصر فحسب، ولكن في العالم الإسلامي أيضًا، نشأ أزهريًا متمردًا على جمود مشايخ الأزهر في زمانه، كان إصلاحيًا ومع ذلك تتلمذ على جمال الدين الأفغاني الثوري الأشهر في تاريخ العالم الإسلامي، أشترك في الثورة العرابية وانتقدها وهو مقدم فيها، نفي في الأرض فزرع في كل أرض مر بها شجرة مباركة، ثم عاد إلى مصر فأحدث فيها ثورة في تحديث التعليم، والتف حوله نفرًا كثير من أذكياء مصر والعالم الإسلامي، كثير منهم كانوا من المخلصين لقضايا الأمة، وإن اختلفنا بعضهم أو في بعض أعمالهم، لا يجرمنني شنآنهم أن أذكر ما أظنه الحق فيهم، فلما مات، كأن الله أراد له أن يكون يزكيه من رضا سلطان مستبد خاضع للأجنبي، فتجاهلت جنازته السلطات، وخرجت الأمة تشيعه وفي مقدمتهم تلاميذه الأوفياء.

 

في كتابه (عبقري الإصلاح والتعليم، محمد عبده) يرسم العقاد للشيخ محمد عبده صورة أدبية وتاريخية، ولكنها ليست تاريخ صرف أو رواية محضة، صورة للرجل في بيئته وكيف صنعته بيئته وكيف غير هو هذه البيئية، ويستخدم العقاد في رسم صورته نفسه الخطة التي استخدمها في رسم صور عبقرياته الأخرى، فيبدأ في رصد بيئة زمانه، القرن الثامن عشر الذي يصفه بأنه « أسوء – ولا ريب – من أسوء القرون التي تقدمته في أيام الجهالة والجمود»، ثم ينتقل إلى رصد أسرة محمد عبده، وعلى عادة العقاد، يشرع في بناء تاريخ أسرة محمد عبده بالاعتماد على تأويل ما تيسر له من أدلة، فيخلص إلى أن أسرته من أصول تركمانية نزحت إلى مصر في عصر صلاح الدين الذين وطن الأجناد الأكراد والتركمان في أقاليم الإسكندرية وغرب الدلتا تحرزًا من عدوان الصليبيين، ونسب إلى أصولهم هذه ولعهم بالفروسية والصيد، معللًا لمحمد عبده اعتداده بنفسه وما اشتهر به من كرم ومرؤة إلى هذا الولع الموروث بقيم الفروسية، ولكن العقاد يتكلف إذ يستدل بأسماء أفراد الأسرة على ترسخ العاطفة الدينية في هذه الأسرة، ولو أحسن النظر لوجد أن هذه الأسماء التي يعتمد عليها في استنتاجه شائعة بين عموم المصريين، ولكن العقاد المتأثر بنظريات البطل الألمانية كما قدمها رانكه ونظرها نيتشه وأرخ لها كارليل، يستخدم استنتاجه هذا ليجعل لبطله مولد أسطوري، فيصور لحظة ميلاده في إحدى ليالي المناسبات الدينية وإلى جوار المسجد الأحمدي، وأبيه ينذره للعلم، وأظن أن مزاج العقاد الأدبي قد غلب منطقه في هذه الصورة المتكلفة التي لا أساس لها إلا خياله.

 

وفي حياة محمد عبده كما يصورها العقاد أزمة رئيسة شكلت تطوره الفكري وحكمت مسيرته، وهي أزمة معرفية صورها العقاد بمهارة واصفًا مراحل أزمة محمد عبده مع طرق التلقين الشائعة في المؤسسات التعليمية في زمانه، ولكنه أخطأ إذا عزى هذا الصراع إلى أن تمرد عبده على العلم نفسه، على الرغم أن العقاد عاد ليؤكد أن هذا الصراع كان صراع «بين طريقة الأذن والذاكرة، وطريقة الذهن والوجدان»، وإن هذه الأزمة لم تكن قاصرة على محمد عبده دون غيره، ولكنها كانت أزمة «طلاب العلوم الدينية»، وهي الأزمة التي نجح محمد عبده في تجاوزها بعد لقاءه بخال والده الشيخ درويش خضر، مريد السنوسي المصلح الصوفي الليبي الشهير وريث فكر المرابطين في شمال أفريقيا الذي يربط التصوف بالتعليم والتربية والاستقلال الاقتصادي والخدمة الاجتماعية، وعلى الرغم أن محمد عبده سوف يكسب شهرته من محاولته إصلاح التعليم الأزهري عامة والتعليم في مصر عام، إلا أن عملية الإصلاح كما يؤرخ لها العقاد كانت تراوح ما بين التقدم والتراجع، يتبناها تيار داخل الأزهر ويعارضه تيار آخر، وإذا كان العقاد يرى أن محمد عبده بسجاياه الشخصية منفردًا كان محرك هذا الإصلاح، فإني أرى العقاد مخطئ في رأيه هذا، فنجاح محمد عبده وإن كان في قسم منه معزو لسجاياه النفسية وأرادته، إلا إن ما توفر لحركة محمد عبده الإصلاحية من فرصة اغتنمها عبده هو المؤثر الأكبر في مضي محمد عبده في الإصلاح، والعقاد نفسه يؤكد دور الخديو عباس الثاني في الطور الأول من ولايته في دعم هذا الإصلاح، بالرغم مما ينسب له العقاد من مآرب أخرى في هذا الإصلاح، فلما ذهبت هذه المآرب، أنقلب الخديو على المصلح.

 

وهنا تبدو الثورة العرابية في سيرة محمد عبده كما يرسمها العقاد، جملة اعتراضية، ألجأ التاريخ محمد عبده عليها إلجاء، فالرجل مصلح من المبتدأ للمنتهى، وهو ما يجعله مناقضًا لشخصية أستاذه وصديقه جمال الدين الأفغاني، ولعلي أزعم أن المزاج الصوفي العملي الذي نمى في نفس محمد عبده كان سبب ارتباطه فيما بعد بأستاذه جمال الدين الأفغاني الذي اشتهر عنه أنه يرفض مفهوم الفناء الصوفي التقليدي وما فيه من مخاطر عقائديه، ويستبدله بالفناء في الناس، بمعنى اندماج الصوفي في مجتمعه عاملًا مدافعًا عن قضاياه، ولكن جمال الدين الأفغاني وعلى النقيض من تلميذه كان يعتقد أن هذا الاندماج في المجتمع لا يكون إلا بتغييره فوقيًا، ومن ثم تجد الأفغاني حاضرًا في كل عمل ثوري في هذه الفترة، في جبال الأفغان، في الهند، في مصر وإيران وإسطنبول، بينما كان التلميذ يرى أن الإصلاح، وبالتالي التغيير من قاعدة المجتمع أنجح وأسلم، ولذلك كان الفراق بين الرجلين محتومًا.

 

ربما لا يكون كتاب (عبقري الإصلاح والتعليم محمد عبده) السيرة الأدق للشيخ محمد عبده، ولكنه في رأي التعبير الأدق عن موقف العقاد الشخصي من محمد عبده والاجتماعي مما يمثله محمد عبده؛ فشخصيًا أرى أن العقاد في عرضه لحياة محمد عبده وأعماله وعبقريته إنما يعالج هذا التماثل الذي يشعره بين شخصيته وشخصية الأستاذ الإمام، فعبده والعقاد كلاهما بنى ثقافته بنفسه، كلاهما معتد بنفسه، كلاهما وقف بين ثقافتين وبين حضارتين دون أن يجنح إلى أحد الجانبين، كلاهما متمرد على واقع ويسعى لتغييره، كلاهما عاش من اجل مجتمعه، وإن كان لكل منهما طريقه الخاص؛ ولعل فيما ينسب للعقاد من قوله «أنا لا يهمني كم من الناس أرضيت، ولكن يهمني أي نوع من الناس أقنعت» ما يجمل ويلخص تماثل عبده والعقاد. أما اجتماعيًا كان العقاد الابن البار لثورة 1919، وككل أبناءها التمسوا لثورتهم سلفًا في الثورة العرابية، سلفًا يؤكد اتصال ثورتهم وجهادهم، وينأى بهم في الوقت ذاته عن عسكرة الثورة التي شبوا على دعاية بيت محمد علي وأنصاره بأنها المسئولة عن احتلال مصر، فكان محمد عبده صاحب المزاج الإصلاحي من قبل الثورة وبعدها، والذي دعم الثورة ودفع ثمن هذا الدعم، هو السبب المثالي الذي يمنح الشرعية لمثقفي ثورة 1919.

 

ولد عباس محمود العقاد في أسوان عام 1889، وحصل على الشهادة الابتدائية، وثقف نفسه بنفسه، وهو ما لم ينفرد به العقاد، إذا كان أكثر كبار المثقفين في هذا الزمن قد اكتسبوا ثقافتهم بأنفسهم، وقد بدأ حياته موظفًا حكوميًا، ولكنه سرعان ما ترك الوظيفة، واحترف الكتابة في الصحف والمجلات، وألف العديد من الكتب اشتهر منها عبقرياته وأشهرها (عبقرية محمد – صلى الله عليه وسلم)، كما كان شاعرًا واشترك مع المازني وعبد الرحمن شكري في إنشاء جماعة الديوان الشعرية، وخاض العديد من المعارك الأدبية مع زعماء الأدب والثقافة من معاصريه مثل طه حسين والرافعي، وكان عضوًا في المجامع اللغوية في القاهرة وبغداد ودمشق، وتوفي عام 1964. أما كتابه (عبقري الإصلاح والتعليم، محمد عبده) فقد صدر للمرة الأولى عام 1962، واختير ليكون الكتاب الأول ضمن سلسلة (أعلام العرب) التي أصدرتها المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، وقد أعيد طبعه في هذه السلسة، واليوم توجد العديد من الطبعات الصادرة عن دور نشر مختلفة.

 

تقبلوا تحياتي



إرسال تعليق

0 تعليقات