آخر الأخبار

اقتراب آمن : وقائع ما يجري في الشرق الأوكراني.

 



 

خالد عكاشة

 

أخيرا وبعد أسابيع من استيلاء الجيش الروسي على ميناء "ماريوبول" الاستراتيجي، الواقع جنوب شرق أوكرانيا، الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية والقدرة بعد ميناء "أوديسا". أعلن الثلاثاء عن مغادرة أول سفينة شحن محملة بالمعادن الميناء في خطوة تكشف نجاح الجانب الروسي في تشغيله، خاصة بعد أن كشف "دينيس بوشيلين" زعيم الانفصاليين في دونتسيك، أن السفينة تحمل (2500 طن) من لفائف الصفائح المعدنية وتبحر من ميناء ماريوبول إلى ميناء "روستوف" الروسي الواقع شمال العاصمة موسكو.

 

 جاءت تلك الخطوة الروسية بمثابة الرد العملي؛ على اتهامات ظلت كييف ترددها طوال الأسبوع على لسان رئيسها وعديد من المسؤولين، حول الإغلاق الروسي العسكري لموانئ البحر الأسود ومنها ماريوبول بالطبع. في غضون سعي الرئيس زلنيسكي للحصول على أسلحة أمريكية ثقيلة تحتاجها أوكرانيا، من أجل فك الحصار البحري المضروب من قبل روسيا على الموانئ الأوكرانية، منذ إغراق الفرقاطة "موسكوفا" الشهر الماضي.

 

عمل الجيش الروسي بإصرار من أجل الوصول لتلك الخطوة الفارقة؛ على اتجاهين متوازيين، يعكس الأهمية الكبيرة لاستحواذه على مرفأ بحجم "ميناء ماريوبول". فبعد أن ضرب على المنطقة حصار كامل لأسابيع، تمكن من إسقاط مدينة ماريوبول خلال شهر مايو، وظل هناك حتى استسلام آخر جيب للمقاومة وهو مصنع "أزوفستال" للصلب. على المسار الثاني نجحت وحداته الهندسية في إزالة وتطهير كافة جنبات ومواقع الميناء، من الألغام التي زرعت على مساحة 1.5 مليون متر مربع، شملت الميناء والمباني والأرصفة وأجسام السفن الراسية فيه. ليتحقق لإقليم الدونباس وهو الأقرب للسقوط بكامله تحت السيطرة الروسية، منفذا بحريا يحقق له ميزة إستراتيجية، باعتبار الميناء ببنيته التحتية يعد الأكبر على بحر آزوف، ومصمم كي يمكنه التعامل مع كافة أنواع وأحجام الشحنات البحرية تحت أي ظروف جوية خاصة الشتاء القارس. لهذا تصف أوكرانيا عملية الإبحار الأولى التي خرجت من ميناء ماريوبول بعد أيام من تصفية مصنع "أزوفستال"، باعتبارها عملية نهب لثروات وممتلكات البلاد التي يجري نقلها إلى روسيا، فضلا أنه من غير المعلوم المكان الذي أنتجت فيه شحنة المعادن، وإن كان المرجح أن تلك الكمية تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء عليها من مخزون مجمع أزوفستال.

 

الجزء التالي الذي يرى الجيش الروسي أنه يحقق له سيطرة أكبر على المحور الشرقي، يتمحور الآن حول مدينة "سيفيرو دونيتسك"، لذلك يخصص لها جهد عسكري مكثف مشابه لما جرى في ماريوبول. فالخطة الروسية وضعت كي تسقط المدينة خلال الأسبوع القادم على الأكثر، لأن من شأن تلك الخطوة في حال جرت الأحداث وفق الجدول الزمني الروسي أن تمهد الطريق للسيطرة على مدينتي "سلوفيانسك" و"كراماتورسك"، آخر معاقل القوات الأوكرانية في الضلع الأوكراني الشرقي. كما تفتح المجال لإعلان السيطرة الروسية على إقليم الدونباس بشكل تام، بهدف فتح ممر بري يصل الأراضي والمناطق في الشرق بالجنوب الشرقي، حيث شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو إلى أراضيها عام 2014. يتحسب الجانب الأوكراني لهذا الفصل من الحرب الروسية؛ فهو يراه الأصعب والأشد وطأة، لتأكده من الأهمية المحورية لهذا الهدف المزدوج بالنسبة لروسيا، وفعليا هو يضع العملية الروسية بكاملها وكل ما جرى فيها على المحك، في حال تعثر إتمامه، فهو الانجاز الذي لن يعود الجيش الروسي من دون تحقيقه تحت أي ذريعة وأمام أية عقبات.

بنظرة مقربة على ما يجري لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؛ نجد في ظل الهدوء النسبي الذي تشهده محاور القتال الأخرى، والحفاظ على الوتيرة المتقطعة التي توحي بأن القتال هدأ وتباعد قليلا لكنه لم يحسم ولم يغادر تلك المناطق. يبدو تكثيف النيران والقصف المتبادل على جبهة المحور الشرقي والشرقي الجنوبي، حامية على مدار الساعة، فالجانب الروسي مع تغير تكتيكات انتشاره العسكري وجهده القتالي يضع تركيزه الأكبر الآن على نقاط بعينها، بنظرية تحقيق الأهم فالمهم حتى يمكنه الإمساك بأوراق حقيقية، بعد شهرين من "التيه" على جبهات ومحاور أخرى عديدة، لذلك بدأت الجبهة الشرقية تؤتي ثمارها، عبر التقدم والإمساك بالأرض الذي تمكن من تحقيقه مؤخرا. ولهذا أيضا تكثف مدفعيته قصف المحاور الرئيسية التي لازالت القوات الأوكرانية تحتفظ فيها بجيوب محدودة، لكن الأخيرة ترى أنها في حال انسحابها منها سيتمكن الروس من تحقيق الاتصال البري، الذي لن تخرج منه مهما واجهت من صعوبات. لذلك تحرص القوات الأوكرانية على الإمساك بالطريق الرئيسي المؤدي إلى مدينة "سيفيرو دونيتسك"، رغم المحاولات الحثيثة للقوات الروسية في حصار القوات الأوكرانية داخل مدينتي "ليسيتشانسك" و"سيفيرو دونيتسك"، حتى تتمكن من خنقها ومن ثم الاجهاز عليها في سيناريو مشابه لما جرى في ماريوبول.

 

على الجانب الآخر؛ ينتظر الجيش الأوكراني في هذه المنطقة بالخصوص، وصول مدافع الهاوتزر الأمريكية التي تعهدت واشنطن بها مؤخرا، لاسيما أنها السلاح القادر على إجهاض هذا التحرك الروسي، ويمكنها أن تحقق التفوق الميداني النسبي للجانب الأوكراني، من خلال إيقاع خسائر كبيرة في صفوف القوات التي دخلت إلى مدن هذا المحور ولم توقف القصف التدميري عليها منذ أسابيع. مدفع (هاوتزر M 777) الأمريكي الصنع قد يمثل كلمة السر خلال الأيام القادمة، في سير ونتائج العمل العسكري، على محاور الجبهة الشرقية لأوكرانيا، فهو يطلق القذائف لمسافة أبعد ويتحرك بوتيرة أسرع في حين يمكن إخفاءه بسهولة بين أشجار وغابات تلك المناطق. تم تجربة هذا الطراز الجديد في الأسبوع الأول من شهر مايو للمرة الأولى، وحقق نجاحات ملموسة للجيش الأوكراني الذي أعلن عن إصابات مباشرة ودقيقة، مكنته من تدمير عدد كبير من المدرعات الروسية في أكثر من منطقة. لكن تظل هناك معضلة تواجه الجيش الأوكراني بخصوص هذا الأمر، فتأثير هذا الفارق التسليحي لن يحدث أثره المطلوب خلال الأسابيع القادمة مباشرة، فلا يوجد العدد الكافي المدرب على استخدامه بصورة فعالة، فضلا أنه لم يصل إلى داخل أوكرانيا منه سوى (12 مدفع) بحسب وزارة الدفاع الأوكرانية، من أصل 90 تعهدت بها الولايات المتحدة.

 

كما تبقى مجموعة من الإشارات الهامة في هذا الصدد، أن هناك تحسب وحساسية سياسية لا يمكن إغفالها فيما يخص (المدافع) المتطورة تحديدا، باعتبارها أسلحة هجومية صريحة. وإن كان الجانب الأوكراني لازال يكرر إلحاحه كي يحصل على المزيد من هذا الطراز، بسبب تقنيته المجهزة بنظام تحديد المواقع العالمي GPSالأمر الذي يسمح له بإصابة الأهداف بدقة، كما تصل مدى إصابته إلى 40 كلم، وقادر على إطلاق أربع جولات من القذائف في الدقيقة الواحدة، ويستغرق إعداده للإطلاق فيما لا يتجاوز 90 ثانية. وهي إمكانات يرى الجيش الأوكراني أنها وحدها القادرة على تعطيل المخططات الروسية، بالأخص فيما يخص المحور الشرقي المتداعي، في حين تيقنت استخبارات الجانب الروسي مؤخرا، بعد تعرض المقر الميداني للواء البحرية الروسي (810) للقصف، أن الهجوم تم باستخدام (هاوتزر M 777) الأمريكية، وأسفر عن مقتل ثلاثة وإصابة 14 ضابطا روسيا بمن فيهم قائد اللواء، ليعلن بعدها بأيام أنه قام بتدمير البعض من تلك المدافع، بواسطة منظومته الروسية الحديثة ذاتية الدفع (جياتسينت ـ S).

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات