د. وسام الدين محمد
02|06|2021
يعتبر تناول أرسطو للأخلاق والسياسة من أكثر مساهماته الفلسفية
حيوية إلى اليوم، وربما أعتبر بعض الدراسيين أن مقاربات أرسطو للفلسفة الأخلاقية
بالذات لا تزال أفضل طريقة لمقاربة هذه الفلسفة، على الرغم أن أكثر هؤلاء الباحثين
أنفسهم يرفضون الإجابات التي طرحها أرسطو عن الأسئلة المتعلقة بالأخلاق، إلا أنهم
كذلك يعتبرون أن أرسطو قد طرح الأسئلة الصحيحة واللازمة لفهم الأخلاق؛ بينما في
مقاربته للنظرية السياسية وتصوره للدولة كان أميل للبحث عما يضمن بقاء الدولة من
عوامل أخلاقية، بعيدًا كل البعد عن طرح تصميمات لدولة مثالية خيالية.
ويمكن استطلاع أراء أرسطو حول الفلسفة الأخلاقية في رسائل مختلفة
صحت نسبتها إليه، مثل (الأخلاق الكبرى) و(أخلاق نيكوماكوس)؛ بينما تبدو أفكاره
السياسية في رسائل أخرى، مثل (كتاب السياسة)، وقد ترجمه للعربية في النصف الأول من
القرن العشرين أحمد لطفي السيد، وكتاب (الدساتير) وهو دراسة موسعة لدساتير الدول
اليونانية في زمن أرسطو، وقد ضاع الكتاب، ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، عثر في
الفيوم، إحدى محافظات مصر، على خبيئة من البرديات، ضمت أحد رسائل هذا الكتاب، وهي
المسماة (دستور الأثينين).
فلسفة الأخلاق عند أرسطو
ولأن أرسطو اختار أن تكون فلسفته تعبير عما هو واقع بدلًا من البحث
فيما يفترض أن يكون، نراه عندما يتناول مسألة الأخلاق يونانيًا حتى النخاع،
فالأخلاق عنده – وعند قومه من اليونان – هدفها أن يبلغ الإنسان سعادته.
ولكن ما هي السعادة؟
إن استقراء آثار أرسطو تبين لنا أن مصطلح السعادة يتساوى عنده مع
مصطلح النجاح ومصطلح الخير؛ فما يسعد الإنسان هو خير محض، ونجاح الإنسان في فعل ما
لابد أن يشعره بالسعادة؛ ويعرف أرسطو السعادة بأنها بلوغ الإنسان بفعله إلى ذروة
الكمال، والوصول بفعله إلى حالة من السكون المطلق؛ ولكن مفهوم الإنسان في فلسفة
أرسطو يحدد مفهوم السعادة، فالإنسان لدى أرسطو هو كائن مادي وعقلي في آن واحد، كما
أنه كائن اجتماعي يوجد في جماعات يتفاعل أفرادها فيما بينهم؛ ولذلك قسم أرسطو
السعادة إلى ثلاثة أنواع؛ سعادة مادية تتحقق عندما يحقق الإنسان بإرضاء متطلباته
المادية، سواء كانت هذه المتطلبات حاجات أساسية كالطعام والشراب، أم حاجات شهوانية
كالتملك، وسعادة عقلية تتحقق بأن يستخدم الإنسان نشاطه العقلي في التأمل والسعي
إلى الحق، وسعادة سياسية تتحقق باندماج الإنسان في الممارسة السياسية لمجتمعه
سعيًا لاستحواذ السلطة.
ويختلط مفهوم أرسطو عن السعادة بمفهومه عن الفضيلة، فمفهوم الفضيلة
في آثار أرسطو يبدو مبهمًا، فهو لا يصك مفهومًا صريحًا واضحًا عن الفضيلة، وبدلًا
من ذلك يصفها بأنها سعي الإنسان قدر إمكانه لبلوغ الكمال في أفعاله، ولكنه لا يمضي
إلى أبعد من هذا في تعريف الفضيلة، ويقصر عما قدم استاذه أفلاطون عندما تناول
الفضيلة وصنفها إلى مراتب مختلفة، فيكتفي أرسطو بتصنيف الفضيلة إلى فضيلتين؛ فضيلة
عقلية نتاج فعل عاقل أراده الإنسان ومثالها الذكاء وهو فعل إرادي عقلي الغرض إدراك
الأشياء وخصائصها وما يربط بينها من علاقات؛ وفضيلة غير عقلية صادرة عن فعل غريزي
وغير عاقل، ولكنها تخضع أثناء تطورها إلى العقل مثال ذلك العدل، والذي يبدأ كفعل
غريزي وغير عاقل متمثل في رغبة الإنسان في الاستحواذ على كل ما يريد، ثم يروض
العقل هذه الرغبة لتصبح مسعى لنيل الإنسان عدله.
وأرسطو، وإن لم يتوسع في دراسة الفضائل مفردة، أفرد مساحة واسعة في
آثاره تناول فيها مفهوم العدالة؛ فيبحث فيما هي العدالة، مؤكدًا على أن العدالة لا
تعني المساواة، ومن ثم يخلص إلى أن العدالة هي أن ينال كل شخص ما يستحق، وما يستحق
كل شخص يختلف من شخص إلى آخر، وأسمى هذه العدالة بالعدالة المميزة، لأنها تميز عدل
الإنسان تبعًا لحاجاته، فالمساواة أن ينال الطفل والبالغ والعجوز نفس النصيب من
الطعام، ولكن العدل أن ينال كل منهم على قدر ما يستحق، فالطفل في طور النمو يحتاج
إلى قدر من الطعام غير ذلك الذي يحتاجه الشخص البالغ وغير ما يحتاجه الشيخ المسن،
والتسوية بينهم في نصيب الطعام ليس بالعدل؛ ولكن المساواة وهي مطلب غير منطقي، إلا
أنها لا تزال مطلب ضروريًا، والعدالة المميزة إن كانت تضمن لكل فرد ما يستحق، إلا
أن ما يستحقه من مورد ما قد يكون أقل أو أكبر مما يستحق من مورد آخر، فالطفل يحتاج
مساحة أكبر للعب والنمو، بينما الشيخ المسن قد لا يحتاج مثل هذه المساحة، ومن هنا
يعرف أرسطو شكل آخر من العدالة، ويسميه العدالة المعوضة، وهي العدالة الناتجة عن
التوزيع الغير متساوي للموارد بصورة منفردة، ولكنه تضمن توزيع متوازي لمجمل
الموارد، فإذا كان نصيب الطفل من مورد ما أكبر من نصيب الشيخ، فإن العدالة المعوضة
تؤكد على أن الشيخ سوف ينال ما يستكمل به نصيبه المتساوي من مورد ثان يعوض به ما
قل من نصيبه من المورد الأول؛ ويعرف أرسطو نوعًا ثالثًا من العدالة، أسماه العدالة
المتبادلة، والتي تعبر عن العدالة بالنسبة للإنسان ككائن اجتماعي، فهذه العدالة
اقتصادية الطابع، تضمن أن يتبادل الأفراد في إطار المجتمع، أو المجتمعات فيما
بينها، المنافع المادية والخدمات.
نظرية أرسطو السياسية
يظهر التباين بين نزعة أفلاطون الخيالية الحالمة وواقعية تلميذه
أرسطو أشد ما يكون عند مقارنة نظريتيهما السياسية؛ فأفلاطون في فلسفته المثالية لا
ينطلق من الواقع عند دراسته للدولة، ولكن يرسم صورة يعتقد أنها الدولة المثالية؛
على حين تبدو مقاربة أرسطو لدراسة الدولة أقرب للمنهجية العلمية، إذ قام بجمع
الدساتير المتاحة في زمانه، وقارن بينها بحثًا عن المشتركات والمختلفات، ثم صنفها؛
ويرى بعض الباحثين أن دراسة أرسطو للدولة على هذا النحو أقرب إلى أن تكون دراسة
قانونية، وليست فلسفية، وهو ما يجعل الأصالة الفلسفية لنظرية أرسطو في السياسة
موضوع نظر، وكثير من دارسيه يعتقدون أن تناول النظرية السياسية في آثار أرسطو سببه
استكمال المذهب الفلسفي في المقام الأول؛ وبرغم ذلك أسهمت مقاربة أرسطو في الفلسفة
السياسية في رسم ملامح كثير للفلسفة السياسية إلى اليوم.
نقطة الانطلاق في الفلسفة السياسية لأرسطو هو اعتباره أن الأسرة،
وليس الفرد كما فعل أستاذه أفلاطون، هي اللبنة الأساسية في بناء الدولة والمجتمع،
معتبرًا أن الإنسان حيوان سياسي، بمعنى أنه كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش بمفرده
ولابد أن يعيش في جماعة، ومن ثم فإن الجماعة الأولى والأبسط هي الأسرة، التي تتكون
من الآباء والأبناء والخدم أو الرقيق؛ وكل أسرة تستطيع أن تحصل على حاجاتها
البسيطة مكتفية بنفسها، ولكن عندما تتعقد حاجاتها، يصبح من العسير عليها أن تبقى
مكتفية ذاتيًا ومنعزلة، ومن ثم تبدأ في التفاعل مع الأسر الأخرى، وهو ما ينتج عنه
تكون القرى، والقرى بدورها تستطيع أن تبقى مكتفية ذاتيًا ومنعزلة عند مستوى معين
من الحاجيات، ولكنها تضطر للتفاعل مع القرى الأخرى للحصول على الحاجيات الأعلى من
هذا المستوى، وهو ما ينشأ عنه الدولة؛ وهذا التصور للدولة وبنيتها مناقض لتصور
أفلاطون، والذي كان يرى الدولة أشبه بكائن حي خلاياه افراد الدولة، وبالتالي فإن
الدولة مقدمة على الفرد، بل أن الفرد يمكن التضحية به ببساطة من أجل مصلحة الدولة
(وهي المقاربة التي أدى إساءة استخدامها من قبل منظري الفاشية إلى عبادة الدولة
كما أشرنا عند تناول أفلاطون وتغذية أفكاره السياسة للنازية)، ففي مقاربة أرسطو،
فإن الفرد قادر عن الاستقلال في حاجاته وقرارته عن الدولة عن مستوى معين؛ ولذلك
نجد أرسطو يعارض ما نادى به أفلاطون من شيوعية النساء والأطفال والملكية لدى
الطبقات العليا في مدينته المثالية، معتبرًا أن ما نادى به أفلاطون لابد أن يؤدي
إلى انهيار المجتمع بسبب تعارضه مع الحاجات الطبيعية للفرد وتكبيله لها، وهو ما
لابد أن يقود إلى انهيار الدولة.
والدولة عن أرسطو، شأنها شأن الإنسان، الهدف من كل ما تقوم به هو
الوصول إلى ذروة السعادة، باعتبار أن ذروة السعادة هي منتهى النُجح والخير المطلق،
ولكن الدولة في مسعاها إلى السعادة، لا تحمل الناس على القيام بأفعال معينة، بل
تكتفي أن تقيم العدل في حدودها، وتحكم بالقسط بين مواطنيها، وتقيم الفضائل والقيم
العليا، وتضمن ألا يطغى أحد على آخر، أو فئة على أخرى، وهذه هي وظيفة الدولة
الأساسية في نظرية أرسطو.
0 تعليقات