محمود جابر
قليلون هم من أدرك عظمة حركة تشرين، والأقل من هؤلاء من وقف يساندها، وما
اقصده هنا بعض الرموز الاجتماعية أو الدينية ، ولكن تمضى الأيام ويبقى السؤال :
هل تشرين
انتهت؟
والسؤال الأهم : ما مدى تأثير تشرين سلبا أو إيجابا على المزاج المذهبي فى
العراق ؟
أعتقد انه من المؤكد
أن تشرين - بغض النظر عن توصيفها بأنها ثورة، أم انتفاضة، أم احتجاجات شعبية- مازالت
مستمرة وحاضرة بقوة في المشهد السياسي والاجتماعي.
وقبل أن أشرح كيف أن حركة (تشرين) مستمرة في
تشكيل مستقبل المشهد السياسي العراقي، دعني أشرح ما الذي يميز تشرين عن سواها من
الحركات السياسية الشعبية ويجعلها فريدة من نوعها.
لا أريد التذكير بما
أنجزته تشرين للان كونها أول حركة شعبية في العراق أجبرت الحكومة على الاستقالة،
ولا لأنها أجبرت البرلمان على سن قانون انتخابات جديد بمفوضية انتخابات جديدة
وانتخابات مبكرة أنتجت تغيير كبير في أسس الخريطة السياسية العراقية كان من
نتيجتها رفض الكتلة الفائزة الأكبر في البرلمان (الصدريون) تحالفها مع بقية الكتل(الشيعية)
كما جرت العادة سابقاً.
لكني أريد أن أشرح
المدخلات التي قادت لهذه المخرجات التي ما زالت تتفاعل لليوم وأتوقع أن تُحدث
تغييراً أكبر في النظام السياسي العراقي. تشرين لم تكن حركة احتجاجية ضد سوء
الخدمات والإدارة فحسب، بل كانت حركة شبابية عراقية مستقلة باحثة عن غد أفضل
للشباب وللعراق. لذلك لم تطالب تشرين الحكومة بإعطائها حقوق الشعب، ولم تنتظر ذلك
من الحكومة، ولم ترفع شعارات تطالب بالكهرباء والماء والخدمات، وكان الشعار الأهم
فى تشرين " نريد وطن "!!
وهناك أمر مهم آخر
يميز تشرين عن ثورات الربيع العربي أو الثورة الشعبية في إيران ضد الشاه أو سواها
من الحركات الشعبية التي أطاحت بنظم حكم مختلفة في العالم. فعلى الرغم من مطالبات
سمعناها، ولا نزال نسمعها، عن إسقاط النظام السياسي (المحاصصة) في العراق فأن ذلك
لا يعني الانقلاب على كامل النظام السياسي، بل إصلاحه وتحديثه بما يبقي على أسسه الديمقراطية
الهيكلية من جهة ويغير من قواعد عمله الوظيفية من جهة أخرى.
أن تشرين هي حركة
إصلاح للنظام وليس تغييره. فعلى الرغم من ارتفاع نسبة من يطمحون لحكم العراق من
قبل قائد قوي (لا يكترث بالبرلمان) لتصل مؤخراً إلى أكثر من ثلثي العراقيين حسب
استطلاع "محرار الرأي العراقي"، إلا أن غالبية العراقيين (60% منهم
تقريباً طبقاً لنفس الاستطلاع) تؤيد النظام الديمقراطي. أكثر من ذلك فان 70% من
العراقيين تقريباً حسب آخر استطلاع للبارومتر العربي يعتقدون انه بالرغم من كل
عيوب الديمقراطية إلا أنها أفضل نظام حكم.
بمعنى أن تشرين لا
تريد العودة الى الديكتاتورية أو أي من أشكال الحكم الثيوقراطي (حكم رجال الدين) الذي
لا يؤيده سوى 40%، أو حكم المؤسسة العسكرية الذي لا يؤيده سوى 45% حسب استطلاع مسح
القيم العالمي لعام 2019.
أن تشرين ليست ضد التداول السلمي للسلطة الذي نص
عليه دستور 2005 في العراق. بل أن تشرين لم تنادي بإسقاط الدستور، وإنما رفعت شعار
إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة ونظام الكليبتوقراطية (حكم اللصوص) والمحاصصة الذي
جرى تطبيقه عرفياً، وليس رسمياً.
أما الاختلاف المهم
الآخر لتشرين، والذي يعده كثيرون نقطة ضعف وأعدّهُ نقطة قوة، فهو عدم وجود حزب
سياسي قوي يتمكن من قيادة تشرين وتوجيهها. لقد شاهدنا ما فعلت أحزاب الإسلام
السياسي في ثورات الربيع العربي والثورة الإيرانية عام 1979 حينما سيطرت عليها
وقادتها باتجاه حصولها هي (لا الشعب) على السلطة. أن أقوى ما في تشرين أنها كسرت
حاجز الخوف من السلطة وشيدّت حاجز الخوف من الشعب لدى السلطة.
لذا لا يمكن تفسير
هذا الإصرار الكبير من قبل السيد مقتدى الصدر على عدم التحالف مع من أسماهم
بالفاسدين، وصعود هذا العدد الكبير من المستقلين للبرلمان- رغم أنهم لم يثبتوا فاعليتهم للآن- والتخبط
الكبير الذي أصاب أداء وخطاب الأحزاب المسيطرة على السلطة في العراق، إلا أنه أحد
نتائج تشرين التي باتت شاخصة وحاضرة في أذهان كل ساسة العراق، وشعبه بالتأكيد.
هذه الحقيقة (حضور
تشرين المستمر للآن) لم تعبر عن نفسها سياسياً فحسب، بل عبرت عن نفسها طائفياً
أيضاً.
إن تشرين قوضت كثيراً
من أمكانية الاستثمار السياسي للطائفية، وأن كانت لم تقضِ عليه بعد. صحيح أن تشرين
كانت حركة شبابية غالبيتها من (الشيعة) على الرغم من المشاركة الفعالة للشباب (السني)
أيضا، بيد أن تشرين لم ترفع أي شعار طائفي، بل على العكس تماماً كانت ثورة أو
انتفاضة (لا يهمني المصطلح) ضد النظام الذي يقوده(الشيعة). لذا فأن نسبة التأييد
لتشرين والتي بلغت أكثر من 60% حسب الاستطلاع الذي أجرته المجموعة المستقلة
للأبحاث عام 2020 لم تختلف بين المناطق(السنية) والكوردية مقارنة بالمناطق(الشيعية).
لعل ذلك هو ما جعل السيد مقتدى الصدر يصر على التحالف الطولي العابر للطائفية مع
الحزب الديمقراطي(كوردي) وتحالف السيادة(سني(.
وعلى الرغم من وجود دائل متعددة على اشتراك الصدر فى قمع تشرين، إلا أنه
كان أحد الذين انتبهوا إلى قطف ثمارها واستثمار مكاسبها، مما يجعل الرهان عليه فى
المستقبل وبعد ان استقالت كتلته من البرلمان فقد يكون الصدر فرس الرهان القادم فى
ضخ مزيد من الدماء فى هذه الثورة .
الخلاصة، فإن من
يعتقد أن تشرين قد انتهت، بل حتى توقفت، فهو واهم. تشرين من طراز الحركات الشعبية
الكبرى التي لا تقاس نتائجها بالتغييرات الآنية فحسب. إن روح تشرين ومبادئها
والخشية منها قد تغلغلت عميقاً داخل العملية السياسية بعد أن باتت مثلاً حياً أمام
العراقيين على قدرة الشعب على التغيير. هذا لا يعني أن تشرين أكتفت بذلك، فما زال
أمامها شوط كبير لتقطعه كما فعلت الثورة الفرنسية من قبل.
أن كل العلامات
السياسية الخارجة من أروقة المنطقة الخضراء من جهة، ومن نقاشات الأحزاب التي
ستتغانم الحكومة القادمة من جهة أخرى تدل على أن احتمالات عودة البركان للتفجر
باتت قريبة.
وهذه المرة، أعتقد أن
تفاهماً أفضل سيحدث بين تشرين الشباب المستقل، وتشرين شباب الصدريين الذين فجروا
تشرين 2019 معاً ثم اختلفوا فيما بعد. وإذا ما حصل ذلك (وهو ما أتوقعه) فأن مدى
التأثير ووتيرة التغيير سيكونان أعمق وأسرع مما سبق، وسينتقل تأثير تشرين الفعلي
الى معظم محافظات العراق شمال بغداد.
مع كل ذلك يجب أن أُطلق
صرخة تحذير بخصوص أمكانية تحول العراق لشكل من أشكال النظم الشمولية أو الفوضى كما
حصل مع بعض ثورات الربيع العربي. أن ذلك لو حصل فلن يكون لأن تشرين وشبابها يريدون
ذلك، بل لأن النظام القائم يتجاهل مطالب التغيير ويصر على قمع تلك الحركة أو
شيطنتها كما تحاول بعض الوكالات والأصوات الإعلامية القابضة على السلطة أن تفعله
الآن.
فحينما يصل المنتفضون
الذين يؤيدهم أكثر من 60% من الشعب العراقي الى استنتاج مفاده أن هذا النظام الذي
يكرهوه ويودوا الخلاص منه لا يمكن الخلاص منه بالانتفاض أو التداول السلمي للسلطة،
فسيتعاونون مع أي قوة" بالمعنى الحرفي والدلالي للكلمة" لتغيير النظام
دون التفكير ملياً بما قد يجلبه ذلك من بدائل لهم.
0 تعليقات