نصر القفاص
الأخطر فى وجود طبقة
الإقطاع.. كان قد عبر عنه "اللنبى" فى كلمته خلال تكريمه, عند انتهاء
عمله – المندوب السامى البريطانى – وقال بوضوح: "يستطيع الانجليز الجلاء عن
مصر مرتاحى البال.. فالواقع أننا خلقنا طبقة من كبار الملاك, تستطيع بريطانيا
العظمى الاعتماد عليهم لتنفيذ سياستها فى مصر"!!
الأهم أن العقل الذى
خطط لثورة 23 يوليو, وتولى القيادة فى "الجمهورية الأولى" كان مدركا ذلك..
وكان واعيا للمعارك التى سيخوضها.. بينما الذى أسس وتولى قيادة "الجمهورية
الثانية" كانت لديه رغبات شخصية.. وإذا كانت "الجمهورية الأولى" قد
انتصرت كثيرا, وانكسرت أحيانا.. فقد اختارت "الجمهورية الثانية" أن تمضى
فى الانكسار كثيرا, مع كل التقدير للانتصار العظيم الذى تحقق فى زمنها.. فقد كان
انتصار أكتوبر 1973, انتصارا عسكريا رائعا ومبهرا.. لكن حاصل جمع الانكسارات التى
حدثت بعده, جعل مصر تصل إلى أصعب لحظاتها التاريخية!!
إعتمد قائد وزعيم "الجمهورية
الأولى" على الشعب الذى احترمه لحد التقديس.. كان يشرح ويفسر دائما كل
قراراته وأسبابها.. كان يصارح أصحاب الحق فى وطنهم بالحقائق.. فقد قال يوم 19
إبريل عام 1954 فى خطاب علنى: "كان محمد على يوزع الأراضي لغرض سياسى, لأن الأراضي
والذين يتحكمون فيها كانت مفاتيح الحكم وسياسة الدولة.. لذلك عاش الملايين من
العمال الزراعيين, فى ظروف أقرب ما تكون إلى السخرة.. عاشوا تحت مستوى أجور متدنية,
وأخذت تهبط حتى وصلوا إلى حد الجوع"!! ثم أوضح بعدها بنحو عام.. تحديدا فى
خطاب يوم 19 إبريل عام 1955: "حاولنا نتفاهم على مسألة القضاء على الإقطاع.. إقترحوا
زيادة الضرائب على الأراضى التى تزيد عن 200 فدان.. لكننا كان هدفنا تحرير الإنسان,
وليس زيادة موارد الخزينة العامة"!!
بعد نصف قرن من انطلاق "الجمهورية
الثانية" أصبح وزير المالية الناجح, هو القادر على زيادة موارد الخزينة
العامة.. حتى ولو حدث ذلك بجلد شعب بأكمله بالضرائب.. وأصبحنا نرى بأعيننا الوزير
يضع خلفه – فى مكتبه – رموز العصر البائد.. ووصلنا إلى مرحلة يقول فيها وزير قطاع
الأعمال, عن أهم وأكبر القلاع الصناعية فى مصر – الحديد والصلب – أن ثمنه لا يساوى
عشرة قروش وقت تصفيته وعرضه للبيع!!
الذهول يأخذ كل عاقل
أو قارىء.. بالتأكيد!!
يتضاعف ذهولنا إذا
حاولنا قراءة "الميثاق" الذى يسخرون منه.. سنجده يذكر: "كنا نقول
أننا لا نريد نقودا للخزانة.. لكننا نريد أن نحرر الإنسان.. لكنهم لم يكونوا
يفهمون معنى تحرير الإنسان.. كانوا يعتبرون الكلام الذى نقوله كلام شعارات.. لذلك
لم نستطع الاتفاق.. لأنهم كانوا يفكرون بعقلية ونحن نفكر بعقلية"!! وفى "الميثاق"
نفسه حدود الخط الفاصل بين عقليتين حين ذكر: "من يتملك الأرض يشعر بالحرية.. الحرية
ليس معناها بأى حال برلمانا وقبة وشعارات ديمقراطية"!!
يتعجب الذين حاربوا –
ومازالوا – قائد وزعيم "الجمهورية الأولى" من انتصاره على أعدائه ميتا..
ويتعجب هؤلاء من هزائم كل الذين حكموا "الجمهورية الثانية" فى حياتهم.. فضلا
عن النهايات المثيرة والدرامية لكل منهم"!!
ولأنهم لا يجدون
تفسيرا.. يذهبون إلى صب اللعنات على الشعب!!
هنا يجوز لنا القول..
لقد وصلنا إلى ذروة المأساة!!
يخفى هؤلاء الحقائق..
لكن الأرقام تكشفها إذا علمنا أنه بعد تطبيق "الإصلاح الزراعي" زاد دخل
المنتفعين به بمقدار 30
مليون جنيه سنويا – وقت أن كان الجنيه يشترى أكثر من ثلاثة دولارات – وزاد
دخل المستأجرين 60 مليون
جنيه سنويا.. زاد محصول
الأرز بنسبة مائة بالمائة.. والقصب بنسبة أربعين بالمائة.. والذرة والقمح والقطن بنسبة عشرين بالمائة.. وزادت الصادرات الزراعية بنسبة أربعين
بالمائة.. بفضل "الاتحاد التعاونى الزراعى" الذى كان يقوده "أحمد
يونس" حتى تمت تصفيته بمسرحية, لمجرد أنه عارض سياسات "الجمهورية
الثانية" الزراعية التى كانت قد قررت الذهاب إلى أن زراعة الفراولة
والكنتالوب.. أهم من القمح.. وأن استيراد الأرز أوفر من زراعته.. حتى وصلنا إلى استيراد
الجزء الأكبر من الغذاء.. وكل هذه كانت سياسات وقرارات, يجب أن يتحمل مسئوليتها
الذين أخذونا إليها.. لكنهم اتجهوا إلى الصراخ فى وجه الشعب عبر "أراجوزات
التنوير"!!
الفارق بين "الجمهورية
الأولى" و"الثانية" هو نفسه الفرق بين عقلية حاكم وآخر.. وهو نفسه
الفرق فى المفاهيم.. إضافة إلى أنه الفرق بين الاستقلال الذى تدفع الدول والشعوب
ثمنه.. واستقلال يكسب به حاكم والذين حوله.. وبمعنى أكثر وضوحا, هو الفرق بين
استقلال حصلت عليه مصر يوم 28 فبراير عام 1922 واستقلال حققته وانتزعته يوم 23
يوليو عام 1952, وراح يتسرب بين أصابع شعبها بعد 28 سبتمبر عام 1970.. وذلك جعل "بن
جوريون" يرى أن "عبد الناصر" خطر على إسرائيل, لأنه جاد فى الذهاب
إلى التنمية ويملك رؤية وقدرة على تحقيقها.. وقال ذلك بوضوح شديد عام 1954 والكلام
معلن ومنشور!!
إذا حاولنا قراءة
كتاب "المجتمع المصرى والجيش" للدكتور "أنور عبد الملك" ونشرته
الهيئة العامة للكتاب عام 2013.. ثم اختفى!! سنفهم الكثير.. والمؤلف واحد من أهم
أساتذة السياسة فى مصر والعالم.. وكان ضد أن يحكم أحد من الجيش, ويجاهر بانحيازه
للمنهج الماركسى.. ومعروف عن "عبد الناصر" أنه كان ضد – وقاتل – الماركسية..
وكان قاسيا مع الشيوعيين بأكثر من قتاله ضد "جماعة الإخوان" بكثير.. لكن
أمانته العلمية أنصفت "عبد الناصر" وكشفت قيمة "الجمهورية الأولى"
للمجتمع المصرى.. فقد حقق وأثبت أن "الجمهورية الأولى" دفعت تعويضات
لتنفيذ "قانون الإصلاح الزراعى" تتجاوز ما يستحقونه بكثير!! ويذكر أن
نسبة الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة, كانت فقط 35,5 بالمائة.. وزادت بعد الإصلاح
الزراعى إلى 49,3 بالمائة.. وفى الكتاب – وهو دراسة علمية ناقشتها جامعة السوربون –
يذكر أن الإنتاج القومى الزراعى تضاعف خلال عشر سنوات بداية من 1960 إلى عام 1970..
ويصل إلى نتيجة مهمة يقول فيها: "كان الإصلاح الزراعى محاولة لتحويل المجتمع
المصرى إلى كيان حديث.. قادر على حل مشاكل التخلف وحل مشكلة زيادة الإنتاج لمواجهة
زيادة عدد السكان"!!
أصبحت لعبة الانتصار
لهذا الرئيس أو ذاك.. سخيفة!!
هى لعبة يستفيد منها
المستثمرون فى "الانتهازية" و"النفاق الرخيص" ويكسب منها "رجال
المال" الذين ينفذون سياسات دول, كما كان يراها "اللنبى" من وقت
مبكر.. وهى لعبة يجب أن يتجاوزها الزمن.. وظنى أن الزمن تجاوزها منذ "25
يناير 2011" التى يسميها الدستور "ثورة"!! وظنى - أيضا – أن الآمال
التى تعلقت بما حدث فى "30 يونيو 2013" ويسميها الدستور "ثورة"!!
إنقلبت إلى "كابوس" حتى أكون واضحا ومباشرا.. فقد وصلنا إلى نقطة تفرض
علينا البحث عن بداية يقبلها الشعب وتلائم العصر بما يشهده من متغيرات عصرية
وجذرية وعاصفة!!
لعلنا لا نعرف ما جاء فى
المذكرة التوضيحية لقانون الإصلاح الزراعى!
العودة إليها مهمة.. والحاجة
إلى الرؤية ذاتها مازالت قائمة!
يجب أن نعترف بأن ما
فعلته "الجمهورية الثانية" أعادتها إلى المربع رقم واحد!
لحظة صدور "قانون
الإصلاح الزراعى" جاء فى مذكرته التوضيحية.. الآتى نصا: "أهم أهداف
الإصلاح الزراعى هو توجيه كل استثمار جديد نحو الاستصلاح الزراعى.. ونحو القيام
بمشروعات التعدين والصناعة والتجارة, لأن من تتبقى فى أيديهم مدخرات.. لابد أن
يبحثوا عن مجال جديد لاستثمارها.. وزيادة الاستثمار ترفع أجور العمال عامة, وتزيد
من قدرتهم على الإنفاق.. وتخلق طلبا جديدا على المنتجات المصرية, مما يشجع من جديد
على زيادة الاستثمار.. وهكذا حتى تستكمل البلاد نماءها الاقتصادى, ويصل المواطن
إلى مستوى من المعيشة يليق ببلاد اعتزمت أن تستغل كل إمكانياتها ومكانتها
الاقتصادية"!!
كانت هذه هى العقلية التى صاغت "قانون
الإصلاح الزراعى" وكانت تلك هى إرادتها صباح يوم 9 سبتمبر 1952.. والذى نشرته
صحف الأيام التالية.. وهى الرؤية والمفاهيم التى أخذتنا فى عكس اتجاهها "الجمهورية
الثانية" حتى جرت مياة كثيرة فى النهر.. لكن النهر أصبحت تتهدده الأخطار!! وحدث
أن عشنا فى أوهام استثمار يختلف جذريا عن الاستثمار الذى كانت تراه "الجمهورية
الأولى" لأن حالة العمال والفلاحين والموظفين.. لم تعد خافية حتى على "الشيخ
حسنى" بطل فيلم "الكيت كات"!!
يجب أن نقرأ لنعرف سر
انكسار "الجمهورية الأولى" بوقوع هزيمة يونيو 1967.. وأسبابها واعترف
بها بكل وضوح قائد وزعيم هذه الجمهورية.. لكنه رحل قبل أن يسمع ما قاله أحد قادة
حرب يونيو 1967 فى إسرائيل.. إسمه "الجنرال بيليد".. وأعلن خلال مؤتمر
صحفى عقده فى فبراير عام 1972 قائلا: "إن ذروة الغش والخداع فى حرب يونيو 1967
التى أقنعنا بها شعبنا والعالم, أنها كانت حربا دفاعية ضد خطر داهم قادم من مصر.. وهى
لم تكن فى حقيقتها سوى حرب عدوانية قمنا بها لحساب الولايات المتحدة الأمريكية, التى
قررت أن عبد الناصر وحلفاءه السوفييت.. قد تجاوزوا كل الخطوط الحمراء.. وإذا لم
يتم ردعهم الآن ستفوت الفرصة"!!
هل نحتاج إلى أكثر من
ذلك وضوحا؟!
إعتقادى أن العودة للقراءة
والفهم هما ركيزة الوعى.. وأن الوعى لا يمكن أن يصنعه "أراجوزات التنوير"
الذين يتقافزون على الشاشات.. ولا نواب يرفضون الالتحاق بفصول "محو الأمية"
أو أولئك الذين تنقل عنهم نشرات الأخبار كلاما باعتبارهم "وزراء"!! لأن
الوعى طريقه معروف وواضح.. وتزييف الوعى مع احتراف ترويج الكذب, أصبحا بضاعة راكدة
لأنها فسدت وفاحت رائحتها!!
ضمن الحقائق الساطعة
أن "بريطانيا" لم تنقذ الإقطاع الذى راهن عليه "اللنبى" كما
أن "واشنطن" لم تستطع حماية الذين حكموا "الجمهورية الثانية" دون
أن تكون للمسألة علاقة بخدعة "المدنى والعسكرى" التى تستهدف وطنا
ومجتمعا وتاريخا.. ويكفى هنا أن أتوقف أمام ما قاله الأديب الفرنسى "أندريه
مارلو" ويعرفه المصابين بمرض القراءة الجميل والمفيد.. بل والفرض عند
المسلمين باعتبار أن "القرآن الكريم" كانت أول كلمة فيه "إقرأ"..
وعملا بهذا قرأت ما قاله "أندريه مارلو" حين دقق النظر فيما فعله الشعب
المصرى والشعوب العربية يوم رحيل "عبد الناصر" وكان نصه: "المسألة
هى إرادة أمة, وتقديرها للبطل حين تجد نفسها فيه.. لقد وجدت أمتكم فى عبد الناصر
مقدار ما وجدته فرنسا فى نابليون مع اختلاف الظروف.. وهذا هو الذى يبقى.. وغير ذلك
تكنسه الأيام"!!..
يتبع
0 تعليقات