نصر القفاص
ضاعت مكاسب وإنجازات
"الجمهورية الأولى" وسط "تروس ماكينة بروباجندا" بدأت تعمل
بعد شهور قليلة من رحيل "جمال عبد الناصر".. مع كل التقدير للذين حاولوا
التصدى لمنهج ومعادلة حكم "الجمهورية الثانية" الذى انكشف بعد نحو نصف
قرن من رحيل قائد وزعيم ثورة 23 يوليو!!
كان
"الكذب" يمارسه أصحاب قدرات وإمكانيات.. إضافة إلى موهبة فطرية فى خدمة
الملكية والاستعمار.. ولأن "أنور السادات" كان يراقبهم ويعرفهم, وقت أن
كان داخل "مطبخ الثورة" وأحد رجال الحكم والسلطة على مدى ثمانية عشرة
عاما.. فقد نجح فى تمكينهم على مراحل, بعملية "إحلال" اتسمت بالبراعة!!
واعتقادى أن استعراض القدرة على الفهم, دون شرح بوقائع ومعلومات.. سيضعنى فى مرمى
نيران الذين احترفوا تشويه التاريخ وتزوير الحقائق.. خاصة وأن هؤلاء أصبحوا
متنفذين يتقدمهم "رجال مال" يشار إليهم بوصف "رجال أعمال"
يدعمون – ويدعمهم – وزراء يتمتعون بسطحية نادرة.. ومعهم أولئك الذين يقال عنهم
"نواب" وكان اسمهم "أعضاء مجلس الشعب" بعد طى صفحات "مجلس
الأمة" الذى ترأسه "أنور السادات" لسنوات!!
شارك هؤلاء جميعا
برعاية سامية، فى اغتيال
"الإصلاح الزراعي" الذى أدى إلى تغيير الأوضاع الاجتماعية.. بقدر ما
فعله "القطاع العام" فى مجال الصناعة.. وإن كنت قد بدأت بنظرة سريعة على
جذور مسألة "الأرض" وملكيتها فى زمن السخرة والقهر والتبعية.. أجدنى
بحاجة إلى ضرورة وضع خطوط كثيرة تحت "قانون الإصلاح الزراعى" ومراحل
تنفيذه.. سأذهب إلى ذلك برؤية صحفى قرأ وفهم التاريخ, باعتبارها مهنتى التى
أفهمها.. وأبجديات هذه المهنة تلزمنى بالتبسيط قدر ما أستطيع.. دون أن أسقط فى
"فخاخ" يجيد نصبها الذين يسمون أنفسهم – أو يسمونهم – خبراء
الاستراتيجية فى ابتذال للمعنى والدلالة.. ففى الدنيا كلها يتم احترام
"الخبراء" كما أنه هناك تعريف علمى لكلمة "استراتيجية" التى
جعلوها سيئة السمعة!!
سبق إعلان
"قانون الإصلاح الزراعى" اجتهادات ومحاولات لإقناع النخبة الحاكمة ملك
ووزراء ونواب – بضرورته وأهميته.. وبعد ثورة 23 يوليو حدثت مناقشات مطولة حوله,
وكانت كلها تؤكد على قناعة الثورة وزعيمها – عبد الناصر – بالذهاب فى هذا
الاتجاه.. وتحفل صفحات التاريخ بوقائع سجلها الذين اقتنعوا بالقانون, كما سجلها
الذين قاوموه وقاتلوا ضده قبل وبعد صدوره.. المهم أن هذا القانون كان السبب
المباشر فى إبعاد "على ماهر" أول رئيس وزراء بعد الثورة.. وكان السبب فى
رسم خريطة جديدة لملكية الأرض فى مصر.. كما كان أحد أركان "الجمهورية
الأولى" التى انحازت للفقراء – عمال وفلاحين – ونجحت فى وضع الأساس لما نسميه
الطبقة الوسطى – طلبة ومثقفين وأساتذة جامعات وضباط جيش وشرطة – وكلهم طحنتهم
"الجمهورية الثانية" بماكيناتها الجبارة المستوردة من خلف المحيط!!
صدر "قانون
الإصلاح الزراعى" وتم إسناد مسئولية تنفيذه لوزير الزراعة فى الحكومة التى
ترأسها "محمد نجيب" وكان وزيرا مدنيا.. عالما.. مزارعا.. يتمتع بسمعة
تفرض احترامه وتقديره فى نفوس الزراعيين والفلاحين.. هكذا كان "عبد العزيز
عبد الله سالم" وزير الزراعة فى فجر ثورة 23 يوليو.. وكان – أيضا – أحد رواد
الزراعيين كعالم، كما كان أحد أهم الخبراء القلائل فى تربية الحيوانات.. كما كان
معروفا باهتمامه بضرورة تطوير حياة الفلاحين.. إضافة إلى إيمانه بقيمة وضرورة
"العدالة الاجتماعية" التى قامت الثورة لتحقيقها.. وتم تفويض الوزير
بتشكيل اللجنة التى ستقوم على تنفيذ القانون.. أختار الوزير عددا من خبراء القانون
والاقتصاد والزراعة.. لنا أن نعلم عن لجنته أنها كانت تضم المستشار "عبد
الرزاق السنهورى" والدكتور "عبد الجليل العمرى" ومعهما المهندس
"سيد مرعى" إضافة إلى آخرين.. ولما كان مجلس قيادة الثورة قد قرر
الاضطلاع بمسئولية الإشراف على تنفيذ أهم أهدافه ومشروعاته.. فقد قرر أن يتولى
"جمال سالم" مسئولية هذا الملف.
المعلومات تقتل
الأكاذيب.. والحقائق حاول "الكذابون" دفنها!!
المفاجأة أن
"جمال عبد الناصر" شخصيا أعترض على اسم "سيد مرعى" فقط!!
إذا حاولت أن
تسألنى.. كيف ولماذا؟!
أستأذنك فى أن تسأل
من دفنوا مذكراته.. كما غيرها من المذكرات التى قدمت الوقائع بأمانة وصدق
وموضوعية.. اختلفنا معها أو اتفقنا.. المهم أن "سيد مرعى" هو الذى قام
بأهم دور فى تنفيذ القانون.. ثم أصبح وزيرا للزراعة, ثم نائبا لرئيس الوزراء..
إضافة إلى أنه كان "وكيل مجلس الأمة" فى "زمن الجمهورية
الأولى" وهذا هو الموضوع, بغض النظر عما حدث بعد ذلك.. أشير إلى ذلك كدليل
على أننى لست من تجار الدفاع عن "عبد الناصر" ولا من الذين استثمروا فى
"أنور السادات" والذين حكموا بعده!!
تمسك "عبد
العزيز عبد الله سالم" وزير الزراعة بوجود "سيد مرعى" فى لجنته..
رضخ "عبد الناصر" الذى لا يكفون عن أن يسبق اسمه وصف "ديكتاتور"!!
الأزمة الأولى التى واجهت
لجنة تنفيذ "قانون الإصلاح الزراعى" كانت صداما عنيفا بين "سيد
مرعى" وعضو مجلس قيادة الثورة "جمال سالم" الذى تحول فيما بعد إلى
صديق شخصى للنائب الأسبق وأحد رموز الإقطاع – سيد مرعى – وكلها تفاصيل مدفونة!!
أصبح "سيد
مرعى" فيما بعد "العضو المنتدب" الذى يمثل لجنة تنفيذ القانون..
بينما وزير الزراعة – عبد العزيز عبد الله سالم – رئيسا للجنة العليا للإصلاح
الزراعى.. واتخذت اللجنة من "قصر عابدين" مقرا مؤقتا لها, ومنه بدأ
العمل يوم 26 أكتوبر عام 1952.. وصدرت عنها "الوثيقة رقم واحد" لتنفيذ
القانون رقم 178 لسنة 1952, وكانت تستهدف التنفيذ على 112 شخصا فقط من ملاك الأراضي!!
شارك فى تنفيذ
القانون عند لحظة تطبيقه 22 مندوبا.. كلهم من المدنيين الذين ذهبوا للتعامل مع
كبار الإقطاعيين و"رموز زمن الملكية" وقد أوضحت سالفا بالأرقام, على
سبيل الحصر مساحات الأراضي وعدد مالكيها.. وفى نوفمبر عام 1954, كان تنفيذ المرحلة
الثانية من "قانون الإصلاح الزراعي" واستهدف فقط 128 مالكا.. أما المرحلة
الثالثة فقد تم تنفيذها فى نوفمبر عام 1955, وشملت 483 مالكا.. ثم كانت المرحلة الرابعة فى نهاية شهر أكتوبر
عام 1956.. وكلها معلومات تدعمها الوثائق المدفونة بقانون صدر فى "زمن
الجمهورية الثانية".. يحظر تداول التفاصيل قبل مرور خمسين عاما بدأت عام
1979.. ولاحظ أن القانون الذى يقضى بدفن المعلومات والحقائق والوثائق, صدر لحظة أن
كان مؤسس الجمهورية الثانية – أنور السادات – يصارع عواصف عاتية, كادت تقتلع ما
فعله من جذوره!!
قاوم تطبيق
"قانون الإصلاح الزراعى" حيتان ورموز الملكية!!
تشكك فى القانون
"الفلاحين" الذين صدر القانون لأجلهم.. بسبب ذهولهم ورفضهم تصديق أن ما
يحدث هو الواقع الجديد!!
كان يقاومه
"محمد نجيب" الذى اعترف بذلك فى مذكراته!!
شارك فى مقاومة
القانون "حيتان البيروقراطية المصرية" وكادوا يقتلونه جنينا!!
تم اختصار كل هذا فى
أنه القانون الذى خرب مصر, وكان سببا فى "تفتيت الملكية الزراعية" وما
زال الكذب مستمرا, لدرجة أن السذج والبلهاء راحوا يرفعون "الصوت
الحيانى" بترديد الكذب اعتقادا منهم أن الحقيقة ماتت.. وكلهم يعتقدون أن
"نظرية جوبلز" مازالت قائمة.. ربما لأنهم لم يسمعوا باسم صاحبها..
وبالتأكيد هم لا يعرفون عن "هتلر" غير اسمه!!
يأخذنى الأسى والحزن
عندما أسمع "الكلام الفارغ" الذى يقوله وزير أو نائب.. ثم أضحك بدموع
العين عندما أجد من هم أكبر فى مواقع المسئولية, يكررون "الكلام الفارغ"
وأترفق بأساتذة التاريخ والذين يقرأون!!
مئات القصص الحقيقية
المنشورة فى صحف هذا الزمان تحمل تفاصيلا تشرح ما حدث.. وكل القصص حققها المؤرخون
وحملتها مذكرات الذين عاشوها.. تكفينى بعضها توضيحا وتأكيدا!! خاصة وأن بعض الذين
استهدفهم القانون, لجأوا للقضاء للطعن فيه.. والبعض الآخر حاول استخدام الرشوة أو
الواسطة لعرقلة التنفيذ.. وكلهم دعموا موظفى المالية والزراعة ورجال الحكم المحلى
فى المديريات – المحافظات – والقرى.. لأن كل هؤلاء عينهم "باشوات" الزمن
الذى سقط خلال ساعات أمام الضباط الأحرار!
كان "عطية
شنودة" أحد كبار الإقطاعيين.. يملك أكثر من سبعة آلاف فدان, معظمها فى منطقة
"إدفو" غير أراض زراعية أخرى موزعة فى أنحاء البلاد.. أهداه تفكيره أن
يذهب لمقابلة "محمد نجيب" بحجة أنه يريد التبرع بعشرات الآلاف من
الجنيهات للثورة.. رحب به الرئيس – آنذاك – فطلب أن تكون له صورة معه للذكرى, بعد
أن أضاف تبرعات أخرى لبناء مستشفى فى زمام المنطقة التى تضم معظم أرضه.. ثم أعلن
أنه سيبنى كنيسة ومسجد, وخرج من اللقاء إلى الصحف محصنا بالصور ليتم نشرها فى أكثر
من صحيفة.. وكان يعلم أن ما فعله كان السلاح الفتاك فى العصر البائد!!.. وعندما
ذهبت لجنة تصفية الإقطاع لتنفيذ "قانون الإصلاح الزراعى" على أرضه قدم
لهم صوره مع "نجيب" وراح يحكى لهم عن أنه اتفق معه على استثنائه من
التنفيذ.. اتصل رئيس اللجنة بالقاهرة ونقل ما سمعه.. جاء الرد الواضح والحاسم
بالتنفيذ, ودعما لذلك تحركت قوة لتأمين العملية فى حالة خروجه عن القانون.. لكنه
رضخ بعد أن تأكد من الحقيقة التى تقول أن زمنا جديدا قد أشرقت شمسه.. كما وصفت
الصحف حين نشرت التفاصيل.. وتكرر المشهد مع آخرين عاشوا على أنهم فوق القانون.. بل
اعتقدوا أنهم ملاك البلاد, باعتبار أن هناك سفير بريطانى يرعاهم وملك يقدمون له
العطايا مقابل الألقاب – باشا وبك – وساسة يخطبون ودهم للفوز بدعمهم عند كل صراع
انتخابى.. لذلك سنجد أن ما فعلته "عائلة مفيد" اختلف عن سلوك "عطية
شنودة".. إذ حاول كبار العائلة تقديم بيانات مزورة لإخفاء آلاف الأفدنة..
فأذهلهم أن اللجنة لديها حصرا دقيقا بما يملكون.. هنا أسقط فى أيديهم ورضخوا
للتنفيذ.. لكن اللجنة العليا للإصلاح الزراعى, أدركت ثغرة فى القانون رقم 495 لسنة
1953.. الذى يتم بموجبه تصفية الإقطاع.. لم ينص القانون على عقوبات ضد من يحاول
تزوير البيانات للتحايل على القانون..
فصدر تعديل للمادة 17
من القانون, ونص على عقوبة الحبس للذى يرتكب هذه الجريمة.. وأخذ النص الجديد رقم
495 لسنة 1953 كقرار بقانون حسب ما كانت تجرى عليه أحوال تلك المرحلة الثورية.
إذا كان رموز الإقطاع
قد قاوموا بأساليبهم.. فقد قاوم الفلاحون بطريقة مختلفة.. يجوز القول أنها كانت
مقاومة سلبية.. فهم لا يصدقون ما يحدث.. عقلهم لا يستوعب أنهم سيتملكون أراضى
جلالته – فاروق – ولا أرض سموه – الأمير عمر طوسون – أو أراضى الباشا – البدراوى
عاشور – الذى كان يرفض تعليم أولاد الفلاحين وذهابهم للمدارس, باعتبارهم
"الخدم" الذين يتقاضون أجرا وهو فتات نظير خدمة الباشوات والأمراء!!
بدأ تنفيذ القانون فى
يوم تحرك خلاله "محمد نجيب" مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى
"البحيرة" وذهب "جمال عبد الناصر" على رأس وفد آخر إلى
"الغربية" لتوزيع أراضى الأمير "عمر طوسون" وهناك كان
الفلاحون مذهولين.. لدرجة أن أحدهم قال للحضور.. يا حضرات تعالوا معنا
"دوغرى" وقولوا لنا الإيجار كام؟.. ولما سمع الرد بأنه ليس هناك إيجار,
وأن العقد الذى تسلمه جعله مالكا لهذه الأرض.. فكان رده: "دى أرض أفندينا..
وممكن يخلى رجالته
يضربونى بالنار"!!.. تحركت القافلة التى كان يقودها "عبد الناصر"
إلى "الزعفرانة" التى أصبحت ضمن محافظة "كفر الشيخ" بعد
الثورة.. وكانت وقتها جزء من "الغربية" وهنا أطلق "عبد
الناصر" صيحته الشهيرة: "أرفع رأسك يا أخى.. فقد مضى عهد الاستعمار
والاستعباد".. وكانت أكثر صيحة ركزت عليها "ماكينات الكذب" وعمل
"خدم الملكية والاستعمار" على نزعها من سياقها, ووضعها فى سياقات أخرى
لإقناع أجيال جديدة بأن الثورة وزعيمها "خربوا مصر" ولم يحرروها!!
إستمرت الحملات ضد
"الجمهورية الأولى" دون توقف – ومازالت – لأن الذين يحكمون من
"البيت الأبيض" يقولون بصريح العبارة: "غير مسموح بظهور عبد الناصر
آخر فى مصر أو المنطقة"!!..
يتبع
0 تعليقات