نصر القفاص
قامت "الجمهورية
الأولى" على إبداع ونتاج مبدعى ما قبل "ثورة يوليو" لدرجة أن الذى
طالب بإطلاق وصف "ثورة" على "الحركة المباركة للجيش" كما كانت
تسمى نفسها.. هو عميد الأدب العربي "طه حسين" فى مقال منشور يصعب شطبه
أو تشويهه!! حدث ذلك بعد أشهر من طرد "الولد الذى
حكم مصر" واسمه "الملك فاروق"!
كان قائد وزعيم هذه
الثورة قارئ نهم.. وكان متفردا بين كل من حكموا باحترامه وتقديره لفعل "أقرأ"
كأول فعل يضمه القرآن الكريم.. وكان قد قرأ كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر"
الذى أبدعه "طه حسين" بديلا عن تقرير كان مطلوبا منه تقديمه بعد إيفاده
لحضور مؤتمر فى "باريس" وكتب الحكاية كمقدمة للكتاب.. حدث ذلك فى نهاية
ثلاثينات القرن الماضى.. وتم إعادة طبع الكتاب فى التسعينات بتقديم كتبه الدكتور "أحمد
فتحى سرور" وقت جلوسه على مقعد رئيس مجلس الشعب – النواب حاليا – فى زمن
الرئيس الثاني "للجمهورية الثانية" حسنى مبارك!!
لا ينكر منصف ولا
جاحد، أن أزهى عصور الثقافة عاشتها مصر خلال سنوات "الجمهورية الأولى"..
ولا يمكن أن ننسى اسم "ثروت عكاشة" الذى رفع رايات الثقافة المصرية
عالية خفاقة.. وكان "ثروت عكاشة" أحد ثوار وضباط "ثورة يوليو"
والذى بقى منه أنه كان مفكرا ومبدعا أسس لأعظم نهضة ثقافية فى العصر الحديث.. ولا
يمكن أن ننكر أن "الجمهورية الثانية" استبعدته بقسوة تليق بمؤسسها!! لكن
الرجل ترك سيرته فى كتاب "مذكراتى" الذى تم إخفاؤه أملا فى قتل ما حفل
به من حقائق.. ولا مانع من ذكر اسمه والعبور عليه سريعا.. ولا أنسى الصديق – والأستاذ
– "رأفت نوار" شيخ محامى الإسكندرية، الذى قال لى عنه: "كان
امتدادا لإنجاز واسم رفاعة الطهطاوى.. وأخطر جريمة فى حق شعبنا هى تجاهل الرجل وما
فعله لكى تسود الثقافة المصرية فى المنطقة العربية"!!
ثقافة "الجمهورية
الثانية" ومنهجها قاما على الهدم.. والهدم فقط!!
أما فقه "الجمهورية
الأولى" فقد قام على البناء.. والبناء فقط!!
المؤسف أن فعل "الهدم"
أنتصر على فعل "البناء" بتخطيط شديد الإحكام.. ولأن الذين هدموا كانت
ترعاهم "واشنطن والذين معها" وهى نفسها و"الذين معها" حاربوا –
ومازالوا – كل محاولات بناء الدولة المصرية!!
أخشى أن يعتقد القارئ
أن هذه مرافعة عن زمن ضد زمن.. لكن الحقيقة أنني أرفض النظر للتاريخ بمفاهيم مشجعى
كرة القدم فى الدرجة الثالثة!! هؤلاء يستحقون أن تأخذنا بهم الشفقة.. لأن "الجمهورية
الثانية" نفذت خطط تزوير وتشويه التاريخ بحرفية وإخلاص!! وكل الذين شاركوا فى
هذه الجريمة فازوا بالثروة ووصف "نجوم المجتمع" وبينهم الدكتور "أحمد
فتحى سرور" الذى كتب مقدمة إعادة طبع كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر"
لأنه كان قد قرر بيع الغالى بالرخيص.. رهن العلم عند السلطة.. اختار مصلحته على
حساب مصلحة وطن ومجتمع.. فخسر كل شىء.. كما خسر كل الذين تركوا سفينة "الجمهورية
الأولى" واختاروا مركب "الجمهورية الثانية!!
خدعوك فقالوا أن "ثورة
يوليو" هى سبب الخراب!
يتفق على ذلك طرفى معادلة الحكم
فى "الجمهورية الثانية"..
وهدفهم الوحيد هو ضرب
"المؤسسة العسكرية" ولا أستطيع أن أنكر أنهم كادوا يحققوا هدفهم.. حدث
ذلك بجعل مسألة "الحاكم المدنى هى الحل".. لدرجة أنها أصبحت بديل "الإسلام
هو الحل" وهو الشعار الذى سقط أمام أعيننا يوم "30 يونيو 2013"..
ويواصل السقوط فى "تونس"
بقدر ما سقط فيها شعار "الحاكم المدنى" الذى يفعل فى بلاده ما لم يجرؤ
عسكرى على فعله!!
الأزمة تكمن فى الفرق
بين حاكم يحترم الديمقراطية ويقدرها, بقدر احترامه للشعب وتاريخ بلاده.. وحاكم لا
يرى غير نفسه, ولا يؤمن بغير الأقزام!! لأن "ديجول" وتشرشل" و"روزفيلت"
كانوا من رجال العسكرية.. لكنهم يحظون باحترام ناله "عبد الناصر" و"تيتو"
وغيرهم.. وهناك العشرات من المدنيين الذين يثيرون الغثيان بينهم من يحكم "قطر"
أو "تركيا"!!
إذا كانت "الديمقراطية"
كلمة فهى معنى وقيمة.. أهم تعريف لها هو التفاف الشعب حول من يحكم بمفهومها.. فحاكم
يحترم شعبه وينحاز إلى أغلبيته هو ديمقراطى.. وحاكم يتاجر بشعبه ويخدعه ويعمل
لصالح فئة هى الغالبة منه.. هو ديكتاتور.. بغض النظر عن الوسيلة أو الطريق الذى
يسلكه وصولا للحكم.. وأمامنا نموذج "الصين" التى يحكمها "الحزب
الشيوعى" وهذا اسمه، وما فعله مع وبسكان ربع ساكني الكرة الأرضية!
يؤمن الحاكم
الديمقراطى بأنه واحد من الشعب.. ويرى الدكتاتور بأنه فوق الشعب.. فإذا كان الحاكم
يسمع بأكثر مما يتكلم فهو ديمقراطى.. وإذا شاء أن يرسل فقط فهو دكتاتور.. ويجب أن
نذكر لمؤسس "الجمهورية الثانية" أنه كان يتكلم ويترك الشعب يتكلم.. وعلى
نهجه مضى ثانى حكام "الجمهورية الثانية" بطريقة مختلفة.. لكننا وصلنا فى
ظل هذه الجمهورية إلى أن الحاكم يقول فقط.. يرفض أن يسمع!! اختار الرهان على الذين
"يلبسون مزيكا" دون قدرة على العزف أو تذوق الموسيقى!!
فى كتابه "مستقبل
الثقافة فى مصر" عرض "طه حسين" ملف التعليم وأزماته بالكامل.. حاضره
ومستقبله.. قدم رؤية لما يجب أن يكون عليه حال التعليم, والمدهش أن من يقرأ هذا
الكتاب سيجد فيه الكثير من سبل إصلاح التعليم.. وحاول "عميد الأدب العربى"
وقت أن أصبح وزيرا للمعارف قبل قيام "ثورة يوليو" تطبيق أسس رؤيته
بإطلاق صيحة "التعليم كالماء والهواء" دون أن يسعفه الوقت ولا تساعده
الظروف لتحقيق إنجاز ملموس.. تولت "الجمهورية الأولى" منهج ورؤية "طه
حسين" بعد أن تم إبعاد أعداء تعليم أبناء الفلاحين.. وهنا يجب التذكير بأن "البدراوى
عاشور" وكان من أقطاب "الوفد", وقف تحت قبة البرلمان معترضا على
رؤية وخطط "طه حسين" الذى كان وزيرا فى حكومة وفدية.. وقال قولته
الشهيرة: "إذا علمنا أولاد الفلاحين، فمن
الذى يخدمنا فى بيوتنا ويزرع أراضينا ويرعى مواشينا؟"!!
جعلت "الجمهورية
الأولى" التعليم بالمجان.. نشرت المدارس فى ربوع الوطن.. توسعت فى فتح
الجامعات.. أدخلت نظام التعليم الفنى.. طورت التعليم الأزهري بما فيه "جامعة
الأزهر" وكل الذين أبدعوا وشاركوا فى حكم مصر, كانوا خريجى مدارس وجامعات زمن
"الجمهورية الأولى" بل أن بعضهم أكمل مشواره فى عواصم الغرب.. لدرجة أن
بعضهم نال التكريم اللائق مثل "جائزة نوبل" وغيرها من أمثال "نجيب
محفوظ" و"أحمد زويل" و"مجدى يعقوب" و"فاروق الباز"
كعناوين لملايين الذين تخرجوا من مدارس وجامعات هذا الزمان.. ولما جاءت "الجمهورية
الثانية" بدأت عمليات تخريب هذا المنهج، بإهمال "المعلم" وشئونه
وأوضاعه.. ثم التقصير فى الاعتمادات المطلوبة للمدارس والجامعات.. وترتب على ذلك
تداعى العملية التعليمية ببطء.. وكان أبرز مثال على ذلك هو تجاهل الاحتفال بعيد
العلم و"يوم المعلم" اللذان كان يرعاهما رئيس الجمهورية الأولى بنفسه.. وتم
فتح الأبواب للتعليم الخاص، وجعلوه عنوانا للتقدم والتطور.. تركت الدولة "المعلم"
يحاول تجاوز أزماته عبر "الدروس الخصوصية" ولتكتمل حلقات هذه السلسلة
الجهنمية.. كان إغلاق "مدرسة المتفوقين" التى كانت ترعى أبناء الفقراء
من المبدعين.. وفى زمن الرئيس الثاني – مبارك – تم تحويل التعليم إلى سلعة، ومشروع
استثماري يتربح منه الأثرياء الجدد.. وكان كل هذا يحدث تحت لافتة "تطوير
وإصلاح التعليم" التى عاد من تحتها الدكتور "فتحى سرور" بتولى
وزارة التعليم.. وهو الذى قرر اختصار سنوات التعليم الابتدائي.. ثم قرر من جاء
بعده العودة إلى ما كان.. وتولى الملف الدكتور "مصطفى كمال حلمى" الذى
مكنوه من موقع "نقيب المعلمين"!! وكانت المفارقة أن أحدهما جلس بعد ما
أبلاه فى عملية تخريب التعليم على مقعد رئيس مجلس الشعب – فتحى سرور – والثانى جلس
على مقعد رئيس مجلس الشورى – مصطفى كمال حلمى – ربما تقديرا لجهودهما فى تخريب ما
كان مطلوبا تخريبه وهدمه مما تم بناؤه فى "زمن الجمهورية الأولى".. واستمر
المنهج – ومازال – كلام وضجيج حول "إصلاح وتطوير التعليم" يوازى تمكين
مناهج تعليمية غريبة عن المجتمع.. بل هجينة.. فأصبح فى مصر.. تعليم أمريكاني.. وتعليم
انجليزي.. تعليم ياباني.. تعليم المانى.. تعليم روسى.. تعليم فرنسى.. إلى آخر
القائمة حتى وصلنا إلى ظهور "جامعة الملك عبد الله"!!
إذا اتفقنا على أن
التعليم هو الأساس الذى تقوم عليه الثقافة.. هنا يجب أن يلفت نظرنا إغلاق كتاب
الثقافة المصرية, الذى صاغه وجعل له منهجا "ثروت عكاشة" بداية من تخريب "بيوت
الثقافة" وإهمال "قصور الثقافة" وعدم إكمال الضلع الثالث الذى خطط
له بإنشاء "دوار الثقافة" فى القرى!! وتم تحويل كافة مؤسسات الثقافة مثل
هيئة السينما وهيئة المسرح إلى عبء على ميزانية الدولة..
وتولى التنفيذ "عبد
المنعم الصاوى" الذى راح يطرح أفكار ما يسمى بالخصخصة، وكاد أن يبيع ستديوهات
"ماسبيرو" للشيخ "صالح كامل" والتفاصيل يجب أن نتذكرها.. وتلك
الملفات هى الجديرة بأن نفتحها ونناقشها إن شئنا الذهاب إلى "الجمهورية
الثالثة" القادمة دون أدنى شك!!
لكن مصر كانت عامرة
بنخبة قادرة على المواجهة, فتصدى "يوسف إدريس" ونادية لطفى" مع "سعد
الدين وهبة" وآخرين من أمثال هؤلاء الذين تفتقدهم مصر فى زمننا هذا.. وفرضوا
على من أراد بيع أصول الثقافة المصرية التراجع!!
هنا يجب – أيضا أن
نشير إلى أن ما حدث كان وفق منهج تولاه مؤسس "الجمهورية الثانية" واستمر
على دربه كل من حكموا بعده.. فوصلنا إلى ما نحن عليه بإغلاق المسارح وجفاف الإنتاج
السينمائى، مع بروز "الدراما" التي تحكمها
قوانين الإعلان.. ثم وصلنا إلى "دراما" تحكمها رؤية الأجهزة الأمنية!! ويرافق
ذلك حملات تلعن "الجمهورية الأولى" وتحاول إلصاق كل جريمة ارتكبوها, بالرئيس
الغائب منذ أكثر من نصف قرن.. وكان مهما عدم مناقشة جذور أزماتنا, لأن ملفاتها
ستكشف حجم التخريب وفق منهج سابق الإعداد والتجهيز فى غرف مظلمة على الجانب الآخر
من البحر ومن خلف المحيط!!..
يتبع
0 تعليقات