نصر القفاص
قامت "الجمهورية
الثانية" على ما أسموه "سيادة القانون" وبموجب هذه السيادة، ظهر "المدعى العام الاشتراكي" الذى
لا نعرف إذا كان زمنه قد انتهى.. أو مازال كامنا ويمكن أن يفاجئنا بعودته!!
أصبح لكل شىء قانون..
حتى الفساد ظهرت له قوانين تحكمه..
وتحاكمه!!
انتقلنا إلى "الديمقراطية"
لكنها "ديمقراطية لها أنياب"!!
حققنا أعظم انتصار
عسكرى.. ثم ذهبنا إلى "السلام الضائع" الذى وصلنا فى منتهاه إلى المزيد
من الضعف, لعدم وضوح الرؤية تجاه السلام والاستسلام!!
شرعنا فى تصفية دور
الدولة وتخريب القطاع العام.. دون حسم تسليم القطاع الخاص المسئولية, فتحولت
الدولة إلى وسيط يحاول إرضاء الطرفين.. على حساب الشعب!!
كان تأسيس "الجمهورية
الثانية" قائما على اجتهادات ساذجة.. واجهتها مقاومة شرسة.. لكنها نجحت فى
فرض كلمتها, وكان الثمن اغتيال مؤسسها.. تسلم المسئولية "حسنى مبارك" الذى
اعتقد فى قدراته الشخصية وذكائه الفردى – رغم محدودية ذكائه – وساعده ركام ما تبقى
من رجال "الجمهورية الأولى" إضافة إلى رجال "الجمهورية الثانية"
ولحظة أن فكر "الوريث" فى التخلص من كل هذا القديم دون فهم للتاريخ
وأبجديات علم الاجتماع وقيمة الجغرافيا ووزنها، انتهى إلى تفجير النظام بأكمله.. إلا
قليلا!!
راهن رئيس "الجمهورية
الثانية" الأول على لعب ورقة "الإسلام السياسى" لمواجهة الذين
يدافعون عن "الجمهورية الأولى" والمؤمنين بها.. كان رهانه يمثل فرصة
نادرة للولايات المتحدة الأمريكية والذين معها.. إستدرجوه للمصيدة.. دخلها طائعا
مختارا, رافعا شعار "الرخاء والرفاهية" كبديل عن تلك "العزة
والكرامة" الذى رفعته "الجمهورية الأولى"!!
هنا يمكن أن نطرح
السؤال.. ما مدى فاعلية الرهان على بقايا اليسار والناصريين, في مواجهة "جماعة
الإخوان والجماعات المفقوسة عنها" إذا جاز لنا الزعم بأن ذلك يحدث حاليا تحت
عنوان "الحوار الوطنى" الذى يقال أنه انطلق؟! طرح السؤال مهم.. واجتهادات
الإجابة عليه يمكن أن تقدم عناوينا لحوار جاد.. واعتقادى أن أي حوار جاد لابد أن
تتوافر له شروط موضوعية.. صعب جدا أن يوافق عليها المشاركين فى المسرحية المطلوب
إنتاجها وعرضها, حتى لو لم يقبل عليها الجمهور!!
فشلت "الجمهورية
الثانية" فى طمس ملامح "الجمهورية الأولى" رغم نجاحها فى الاستمرار
بالحكم لأكثر من نصف قرن.. فمشروعها قام على الهدم فقط للجمهورية الأولى, دون أن
تملك مشروعا ومنهجا للجمهورية الثانية!! لذلك سنجد أن "أنور السادات" لا
يختلف عن كل الذين حكموا بعده.. لكن "جمال عبد الناصر" يختلف تماما عن
كل الذين حكموا قبله أو بعده منذ أن حكم "محمد على" مصر.. ثم باقى
سلالته!!
نجحت "الجمهورية
الأولى" فى أن تبقى حية بعقول ووجدان الشعب المصرى.. ودون مبالغة بقيت فى عقل
ووجدان العالم العربى وإفريقيا وصولا إلى دول العالم الثالث.. حتى فى آسيا وأمريكا
اللاتينية.. لأن قائدها وزعيمها كان يملك رؤية ومنهج واضحين, طرحهما على الدنيا.. ووافق
على قبولها الذين يؤيدونه واحترمه خصومه.. ثم ارتضى النتائج بكل ما حفلت به من
انتصارات, وما صادفه من انكسارات!
قامت "الجمهورية
الثانية" بقوة دفع الريح الأمريكية،
وعلى أمل أن يكون تجنب إسرائيل
عاملا يساعدها على تحقيق "رخاء ورفاهية" كامنين فى "مخزن الوهم
والمعونات"!! لذلك رهنت مستقبل البلاد, وباعت حاضرها.. دون اكتراث أو احترام
للماضى.. فوصلت هذه الجمهورية إلى لحظة نهاية شديدة الغموض!!
يجب القول أن هذه
الجمهورية – الثانية – كان يمكن أن تستمر لوقت أطول.. لكن رعاتها تأكدوا أنها
أصبحت عبئا عليهم, وأنه ليس عندها ما تقدمه لهم أكثر مما أعطت!! إضافة إلى أن الوضع
الإقليمي والدولي، شهدا تغيرات كبيرة وجذرية، ومازالت تفاعلات هذه التغيرات مستمرة..
لذلك يمكننا القول أن كل النتائج, ومهما كان اتجاهها ستنفض يدها من هذه المعادلة
للحكم – الفساد والإسلام السياسى – على اعتبار أن أجيالا جديدة ترفضها.. إضافة إلى
أن عدة أجيال اكتشفت حجم الأوهام التى قام عليها خطاب وفعل، كل من حكموا بعد
انتهاء "الجمهورية الأولى"!!
كان الدكتور "محمود
فوزى" رئيس الوزراء الأسبق ومهندس الخارجية المصرية فى زمن "عبد الناصر"
والدبلوماسى الأشهر، أول من قال كلمته وقدم رؤيته لما سيحدث فى "الجمهورية
الثانية" لأنه القائل: "على ماذا تدور الخناقة؟! هى خناقة على اللحاف..
والمشكلة أنه ليس
هناك لحاف"!! وشاء القدر أن نسمع من "حسنى مبارك" المعنى نفسه
عندما نفى مسألة "التوريث" فقال: "صعب أن أترك الحكم لابنى في دولة
مهلهلة"!! ولعلنا سمعنا من "عبد الفتاح السيسى" قوله: "مصر
كانت شبه دولة" بعد عامين تقريبا من توليه المسئولية.. وقدم بعدها كل آيات
التكريم لاسم المؤسس الأول لهذه الجمهورية، خلال مراسم دفن قرينة "أنور
السادات" وكذلك كان التكريم أكبر بمراسم دفن وعزاء "حسنى مبارك" رغم
إدانته قضائيا بالفساد!! وللإنصاف يجب أن نذكر تعيين الدكتورة "هدى عبد
الناصر" كعضو بمجلس الشيوخ مع أغلبية كاسحة من رموز "الجمهورية الثانية"
بما عليهم.. وما عليهم!!
كانت المفارقة أن
ابنة "عبد الناصر" حضرت جلسة الانعقاد الأولى لهذا المجلس, وكان يترأسها
"جلال هريدى" الذى رفع السلاح في وجه الدولة إبان أزمة "المشير
عامر" وقت تحصنه ببيته.. وشروعه فى القيام بانقلاب عسكرى ضد "عبد الناصر"
فى أعقاب نكسة يونيو.. ليتأكد لكل قارئ فى الكتاب أن "الخداع الاستراتيجي"
بدأ مع بداية السبعينات, واستمر كمنهج حكم وليس مجرد رؤية رئيس انقلب من شريك فى "ثورة
يوليو" إلى مؤسس "ثورة مايو" ثم تعددت الانتفاضات أو الثورات.. ونجحت
دائما عمليات ترويض وتطويق كل المحاولات من طرفى معادلة الحكم – الفساد والإسلام
السياسى!!
كان استدعاء "محمد
حسنين هيكل" للتحقيق معه فى أفكاره وآرائه المنشورة أمام "المدعى الاشتراكي"
تدشين لزمن "محاكم التفتيش الناعمة".. وأسماه فى كتابه "وقائع
تحقيق سياسى" ربما تعففا عن وصف ما حدث معه بأنه "محاكم تفتيش".. ورافق
ذلك الخلط المتعمد بين اسم الحاكم والنظام والدولة.. فأصبح من ينتقد الرئيس أو أحد
رجال الحكم، هدفه هدم الدولة.. والمثير أن المسألة تفاقمت حتى وصلنا إلى حالة تشبه
"المكارثية" التى ظهرت فى أمريكا مطلع الخمسينات.. و"المكارثية"
تم وصفها بذلك نسبة إلى اسم صاحب هذه النظرية، "جوزيف مكارثى" والتى
قامت على إلصاق تهمة الشيوعية بكل من يختلف مع القائمين على الحكم فى أمريكا..
لكن سرعان ما كشفت
الديمقراطية خطورة ذلك، وتم إلقاء النظرية وصاحبها فى سلة مهملات التاريخ!!
هنا يجب أن نذكر
للجمهورية الأولى أن رئيسها وزعيمها كان يقول عبر خطاباته للشعب فى مصر والشعوب
العربية.. كل ما يحدث فى كواليس الحكم،
وخطاباته موجودة لمن شاء أن
يعرف.. ويكفينى الإشارة إلى خطاب تأميم قناة السويس، الذى استغرق ساعات سمع خلالها
الشعب أدق تفاصيل الأزمة وتطوراتها قبل إعلان قرار التأميم.. وقد لا تحمل ذاكرة
الذين كونوا ثقافتهم ومعرفتهم عبر آذانهم، والذين لم يجدوا وقتا للقراءة تلك
التفاصيل المهمة.. كذلك كان خطاب "إعلان الميثاق" بعد أيام شهدت مؤتمرا
كان اسمه "مؤتمر القوى الشعبية" فى جامعة القاهرة.. ولنا أن نوضح أن "الميثاق"
كان ثمرة "حوار وطنى" أستمر لتسعة أشهر، نشرت خلالها الصحف مئات
المقالات.. وانعقدت خلالها عشرات الندوات والمؤتمرات لمناقشة مستقبل التنظيم السياسي
الذى كان قائما، وكان اسمه "الاتحاد القومي" حتى وصل المجتمع إلى صيغة "الميثاق"
والذهاب إلى إعلان قيام "الاتحاد الاشتراكي العربي".. واعتقادي الجازم
أن كل من يسخر من "الميثاق" لم يقرأه.. ولا يعرف سياق إعلانه، وكيف وصل
المجتمع إلى نصه وتفاصيله.. وعندما سقطت التجربة بأكملها فى نار "هزيمة يونيو"
كان بيان "30 مارس" الذى اعترف فيه رأس النظام – عبد الناصر – بكل
الأخطاء والجرائم التى وقعت، وأدت إلى تلك الهزيمة.. وفى هذا البيان أعلن سقوط "دولة
المخابرات" وتحدث عن مراكز القوى والتداخل بين أجهزة الحكم المدنى ودور
المؤسسة العسكرية وأسس الدستور الجديد.. ثم أعلن القطع التام وإنهاء هذا التداخل، وأعلن
إعادة بناء الجيش ليخوض معركة تحرير سيناء.
كل هذه حقائق نائمة
فى كتب التاريخ.. كل هذه حقائق محفوظة فى وثائق رسمية، صاغ "أنور
السادات" قانونا يحظر تداولها لمدة خمسين عاما.. وليس ثلاثين سنة كما ذكر
أحدهم من الذين تم تعيينهم على درجة "مفكر" إلى جانب عمله كمؤلف "سينما
ودراما" فى أوقات الفراغ!! ولأننى أخشى أن تأخذنى الهوامش أو تبعدنى "النميمة"
عن القضايا الأهم.. يجب أن أعبر هذا الهامش سريعا، لأصل إلى أن مؤسس "الجمهورية
الثانية" نسب حكاية "مراكز القوى" لنفسه وألصقها بالذين يصارعهم
على السلطة.. واعتبر أن تطهير المخابرات عملا بطوليا نسبه لنفسه، مع أن إنجازه كان
قد تم قبلها بسنوات!!
كانت رؤية "محمد
حسنين هيكل" التى جاهر بها، وأدت إلى مثوله أمام "المدعى العام الاشتراكي"
أن هناك فرقا بين العصر الملكى والعصر الثورى وعصر الانفتاح.. فقد كان شاهدا على
عصره، وأحد شركاء الحكم فى "زمن عبد الناصر" وكذلك فى "زمن السادات"
فى بداياته.. واختار "السادات" إبعاده لحظة اعتقاده أن منهجه اكتمل وأنه
أصبح له رجال يختلفون عن رجال العصر الثورى.. خاصة وأن الجيش كان قد حقق أعظم
انتصار عسكرى فى العصر الحديث..
يتبع
0 تعليقات