د. وسام الدين
محمد
الأحد الثامن عشر من
ذي الحجة 1443هـ
الموافق السابع عشر
من يوليو 2022م
لا شك أن أهم شخصيتين
في قصة قناة السويس في مرحلة ما بعد محمد علي باشا كانت الفرنسي فرديناند دي ليسبس
والوالي محمد سعيد باشا بن محمد علي. الأول، أُعتبرَ لعقود طويلة الشخصية المحركة
وراء نجاح مشروع قناة السويس، وهيمنت روايته الشخصية عن المشروع على جميع الروايات
الأخرى، حتى كادت تعد حقيقة تاريخية، ولكن في هذه (الحقيقة التاريخية) نظر، خاصة
بعدما أصبحت كثير من الوثائق المتعلقة بمشروع قناة السويس متاحة للجمهور(1)، أما
الثاني فهو الوالي الذي منح دي ليسبس امتياز حفر قناة السويس، هذا الامتياز الذي
كان بمثابة صندوق باندورا التاريخ المصري الحديث.
رسم كثير من الباحثين
صورة مسيئة لمحمد سعيد باشا، استمدوها من مقال نشره أمريكي يدعى جون بووِن نشره عام 1886 وصف فيه سعيد بأنه (حسن المعشر، ومسرف،
وغارق في اللذات الحسية، أقرب إلى حاكم فرنسي متنعم منه إلى أمير شرقي، جعل بلاطه
اقرب إلى بلاط لويس الرابع عشر، وحشد فيه الأجانب، وتجاهل تعاليم النبي – صلى الله
عليه وسلم – فأشتهر بالنهم والسكر)(2)، بقي أن نعرف أن بووِن، الذي كتب هذا الوصف،
زار مصر لمدة بضعة شهور في عام 1881، أي بعد وفاة محمد سعيد باشا بما يزيد عن سبعة
عشرة عامًا، وفي هذا ما يكفي لأن نهمل وصفه هذًا.
في المقابل هذه
الصورة نجد عبد الرحمن الرافعي في الجزء الأول من كتابه عصر إسماعيل يصف محمد سعيد
باشا بأنه قد عرف بـ «طيبة قلبه، وسلامة قصده وكرمه، وشجاعته وصراحته وميله للخير،
وتسامحه، وحبه للعدل، ونفوره من الظلم والإرهاق. ولكنه إلى جانب ذلك، كان ضعيف
الإرادة كثير التردد، لا يستقر على رأي واجد، ومن هنا جاءت تقلباته في الخطط
والبرامج والأعمال، وانصياعه لآراء خلطائه من الأوروبيين، وسرعة تأثره بما يسمعه،
ثم سرعة غضبة، ورجوعه عن غضبه لأوهى الأسباب، وكانت نقطة الضعف فيه إسرافه
والتجاءه إلى الاستدانة من البيوت المالية الأوروبية، وحسن ظنه بالأوروبيين، وشدة
ركونه إليهم، وميوله الفرنسية التي جعلته يسترسل في الإصغاء لتأثيرات المسيو
فرديناند دي ليسبس وأضرابه، وفي عهده أخذ الأجانب يبسطون أيديهم على مرافق البلاد،
ويستطيلون على سلطة الحكومة وسيادتها، ويشمخون بأنوفهم، وصار للقناصل نفوذ لم يكن
هلم من قبل في عهد محمد علي وإبراهيم وعباس»(3)، كما عزى له الكثير من الإصلاحات
الاجتماعية التي مست حياة الفلاحين والموظفين والعسكريين والمشروعات التنموية
الهامة . وهي صورة نحسبها منصفة للرجل، وإن كنت لا أتفق مع تفصيلها.
أما الشخصية الثانية،
فرديناند دي ليسبس، فقد ولد عام 1805، والتحق بخدمة الحكومة الفرنسية في الحقل
الدبلوماسي مثل والده وعمه، وعمل نائب للقنصل الفرنسي ثم قنصلًا في أكثر من عاصمة
منها تونس ومصر، وفي عام 1849 شغل منصب كبير مفاوضي الوفد الذي أوفدته فرنسا إلى
روما للتوفيق ما بين البابا والجمهورية الرومانية الثورية التي أعلنت في فبراير من
العام نفسه، وبسبب انحيازه للجمهورية وهو ما ظن أنه موقف حكومته، طرد من وظيفته في
العام نفسه. بعد نجاح مشروع قناة السويس، أصبح دي ليسبس نجم نجوم الاستثمار في
العالم الغربي، ولكنه لم يستطع أن يكرر نجاح مشروع قناة السويس أبدًا، بل لاحقه
الفشل ابتداء من مشروع إنشاء خط قطار بين باريس وأقصى شرق روسيا، وانتهاء بمشروع
قناة بنما الذي أنتهى نهاية كارثية وأدين دي ليسبس وأبنه عام 1893 بسببه بتهمة
النصب والرشوة وخيانة الأمانة، وحكم عليهما بالسجن، الذي نفذ في حق الأبن، وأعفي
منه دي ليسبس الأب بسبب سنه، قبل أن يتوفى عام 1894.
وليس بين يدي من
مصادر عن حياة دي ليسبس قبل عام 1865 سوى ما كتبه دي ليسبس نفسه في مذكراته التي
أسماها (ذكريات أربعين عامًا أهديها لأبنائي)(4) وهي مذكرات
حشيت بالمبالغات التي لا دليل عليها، وربما ناقضت الوقائع، ولكن حسبنا أن الرجل
صرح في عنوان كتابه أن قارئه المفترض هم أبناءه، فكأنما أراد أن يرسم لنفسه صورة
بطل كامل الصفات؛ وإلى جانب هذه المذكرات، هناك تلك المحاضرة التي ألقاها دي ليسبس
عام 1870 في الجمعية الأدبية في باريس، بعنوان (تاريخ
قناة السويس)(5)، وفيها روايته الشخصية عن مشروع قناة السويس .
في جميع هذه الوثائق
يتحدث دي ليسبس عن مشروع قناة السويس بصيغة الملكية (مشروعي mon projet)،
موحيً لمن يقرأ ما كتب أن مشروع قناة السويس من بنات أفكاره، كما أدعى في محاضرته
أنه قد استلهم فكرة المشروع أثناء عمله في القنصلية الفرنسية في مصر بين عامي 1832
و1838 من دراسات رجال الحملة الفرنسية حول مشروع قناة لتوصيل البحرين الأحمر
والمتوسط، وكانت هذه الدراسات محفوظة في أرشيف القنصلية. ومن المحتمل أن يكون
صادقًا في روايته حول اطلاعه على دراسات المشروع التي أجراها مهندسي الحملة
الفرنسية، إلا أنه من الثابت أن دي لسبيس قد التقى ببعثة أتباع سان سيمونيه سنة 1833
التي عرضت مشروع القناة على محمد علي فأوكل إلى مهندسه لينان تقييم المشروع. وقبل
حضوره إلى مصر عام 1854، كان قد ألتقي ببروسبر إنفانتين زعيم السان سيمونيين ورئيس
الشركة التي أنشئت بغرض إتمام المشروع، وعرض دي ليسبس على إنفانتين في هذا اللقاء
أن يقوم بعرض المشروع على (صديقه) حاكم مصر الجديد محمد سعيد باشا نيابة عن
الشركة، وهو ما وافق عليه إنفانتين، وتظهر الخطابات التي أرسلها إنفانتين إلى
مديري الشركة أن دي ليسبس أوفد إلى مصر باعتباره ممثلًا للشركة وبجعبته الدراسات
الخاصة بالشركة(6.(
هل كان سعيد باشا
صديق لدي ليسبس؟ مرة أخرى لا يوجد دليل موضوعي على هذه الصداقة، ووفقًا لما رواه
دي ليسبس أن محمد علي قد عينه مدربًا رياضيًا لابنه سعيد الذي كان يعاني من زيادة
في الوزن، وأن هذا الأمر كان بداية صداقته بسعيد، الذي كان كثيرًا ما يلجًأ إليه
ليحظى بأكلة المكرونة التي يعشقها، وهي القصة الساذجة التي استخدمت فيما بعد
للتشهير بسعيد باشا، وأصبحت من فرط تكرارها تكاد تكون حقيقة تاريخية لا يقوى حتى
الأكاديميين على مناقشتها، فكيف لمحمد على وتحت إمرته عشرات الضباط الفرنسيين
المتخصصين أن يقوم بتعيين دبلوماسي أجنبي مدربًا رياضيًا لأبنه! وكيف يمكن لهذا
الدبلوماسي أن يوفق بين مهام خدمة دولته، ومهامه مدربًا رياضيًا وطباخًا لمكرونة
الأمير!؟ فالقصة في رأي ملفقة، لفقها دي لسبيس رغبة منه في أن يظهر أمام الغربيين
عمق تأثيره وقوة صداقته بسعيد باشا، ويرضي غرورهم العنصري برسم صورة كاريكاتورية
حول الأمير البدين الذي يهرب من والده لتناول المكرونة.
ولمزيد من إبهار
مريديه، نرى دي ليسبس يرسم لوحة كارنفالية تبدأ بوصوله إلى مصر وتنتهي بحصوله على
امتياز حفر قناة السويس، فيدعي أنه عندما وصل إلى الإسكندرية كان في انتظاره سعيد
باشا برفقة عشرة آلاف من حراسه، ثم صحبه معه إلى القاهرة، وأثناء الرحلة يأمر
الباشا بإجراء استعراض للفرسان والرماية، فيشارك فيه دي ليسبس الذي يتفوق على
الجميع – وفق روايته – في الفروسية والرماية، مما يبهر حاشية سعيد، فيؤيدوه كلهم
عندما يقترح مشروعه على الباشا، وينتهي الحال بمنحه فرمان امتياز الحفر.
الآن، لنحاول أن
نستبعد المبالغات وما لا دليل عليه، ونعيد بناء قصة دي لسبيس وسعيد باشا حتى نفهم
هذه الحلقة من قصة قناة السويس وتاريخنا الحديث.
عاش دي ليسبس في مصر
بين عامي 1832 و1838، وهي الفترة نفسها الذي كان عمر سعيد يتراوح بين عشرة أعوام
وستة عشرة عام، أي بالكاد كان فيها سعيد باشا مراهقًا، وقد ألحقه والده بالأسطول،
فلا فارق السن، ولا المهام المنوطة بدي لسبيس كقنصل لبلاده أو بمحمد سعيد كضابط
متدرب في الأسطول، تسمح لأن يكون دي ليسبس قد لعب دور المدرب الرياضي للأمير الشاب
والصديق الذي يستقبل الأمير في بيته ويحقق له رغبته في التهام المكرونة. تلك القصة
البائسة اخترعها دي لسبيس ليثبت صداقته لحاكم مصر حتى يقنع الممولين الغربيين بدعم
مشروعه. وغاية الأمر، وربما يكون دي لسبيس قد التقى بسعيد أثناء وجود هذا في
الأسطول الذي كان يشرف على بناءه وتحديثه وتدريب أفراده ضباط فرنسيين.
في العام 1852، زار
محمد سعيد باشا فرنسا ربما للبحث عن حلفاء في الحكومة الفرنسية لمساندته في النزاع
الناشب بينه وبين عباس باشا، والي مصر الذي أراد أن يحول ولاية العهد عن سعيد إلى
ابنه، ويعلم دي ليسبس، العاطل عن العمل منذ أن صرف من وزارة الخارجية عام 1849،
فيسعى لمقابلة الأمير عسى أن يجد وظيفة في حاشيته، ويستقبله سعيد باشا آملًا أن
يجعل منه جسر إلى الحكومة الفرنسية في مسعاة، فلما يكتشف أن دي ليسبس خارج الحكومة
الفرنسية، يصرفه على وعد منه بالمساعدة في حال زاره في مصر. وعندما يتوفى عباس
باشا فجأة، ويصبح سعيد باشا واليًا على مصر، يقرر دي ليسبس أن يذهب إلى مصر لعله
يفوز بما وعده سعيد، ولكنه خشية أن يخيب سعيه، يتصل بشركة أبحاث قناة السويس ويعرض
عليهم استخدام صداقته المزعومة مع الوالي الجديد في مساعدتهم في الحصول على
الموافقة على المشروع، وهكذا يحصل على وثائق المشروع الكاملة، ويذهب إلى مصر على
أمل الحصول على عمل فإن لم يكن فقد ظفر بوظيفة ممثل للشركة.
تولى سعيد باشا عرش
مصر في يوليو من عام 1854، في ظروف صعبه، فسلفه قتل في مؤامرة غامضة، وتآمر حزبه
على حرمان سعيد من العرش وتنصيب الوالي القتيل عباس، ولكن محافظ الإسكندرية يدعم
سعيد، والإسكندرية يومئذ قاعدة الأسطول الذي كان سعيد ذات يوم قائده في عهد أبيه
محمد علي، فالإسكندرية إذًا كانت مقر حزب سعيد، فيحتمل أن سعيد قد ظل بالإسكندرية
حتى نوفمبر 1854، تاريخ وصول دي ليسبس لمصر، أو لعله كان في زيارة لها، ولم يغادر
عرشه وهو الأمير الشرقي المعتد بنفسه لمقابلة فرنسي عاطل يبحث عن عمل، ناهيك على
أن يصحب معه لاستقباله عشرة آلاف جندي، والأغلب أن من كان في صحبة سعيد باشا كبار
أنصاره وجماعة من حراسه ربما تبلغ بضع مئات على الأكثر. أما ما يزعمه دي ليسبس من
فروسية ومهارة في الرمي أبهرت هؤلاء الجنود، فليت شعري، جنود محترفون سبكتهم حروب
محمد علي ومنهم من كان منذ بضعة أشهر يقاتل الروس في القرم، هم أقل فروسية ومهارة
رمي من مدني فرنسي لم يشترك في معركة واحدة، بل وتبهرهم مهارته. أي هذيان وسخف
هذا؟! الأقرب أنه توصل بالرشوة إلى شراء بعض أنصار سعيد باشا، والرشوة كانت شائعة
بين أفراد البلاطات الشرقية، دي ليسبس نفسه أدين فيما بعد بالرشوة في قضية قناة
بنما. وعبر هذا السبيل، توصل إلى لقاء سعيد عارضًا مشروع السان سيمونيين عليه،
فوافق سعيد مبدئيًا على المشروع، ولعل ذلك قد حديث نتيجة رغبة سعيد في إعادة بناء
تحالف والده محمد علي مع فرنسا، خاصة في ظروف توليه العرش الصعبة، وفي مواجهة حزب
إنجلترا الذي دعم سلفه عباس، ولعله أيضًا وافق على المشروع تبرمًا من إلحاح دي
ليسبس ومن اشتراهم من رجال بلاطه، والرجل أشتهر عنه يستجيب لمثل هذا الإلحاح؛
وأيًا كان سبب موافقة سعيد هذه، إلا أن دي ليسبس استغل الموقف حتى يحصل على فرمان
بامتياز حفر قناة السويس.
يتبع
0 تعليقات