د. وسام الدين محمد
قليل من الروائيين من
اقترب بقلمه من عصر صدر الإسلام، ومن فعل منهم تجده لا يكاد يبعد عن السيرة
النبوية وهي الحدث الأهم في هذه الفترة، وفي طول تاريخ الإسلام، وهكذا فعل (توفيق
الحكيم) فيما اسماه السيرة الحوارية التي ألفها عن حياة الرسول، صلى الله عليه
وسلم، أو كما فعل (باكثير) في مسرحيته المعنونة (الشيماء)؛ وكذلك فعل (نجيب
الكيلاني)، صاحب الرواية التي أقدمها اليوم، (قاتل حمزة)، فالرواية تدور على هامش
السيرة النبوية، ولكن تميزت بأن محورها شخصية (وحشي)، والذي نقب (الكيلاني) عن
شخصيته في كتب السيرة والتاريخ، واستخرجها لينسج حولها رواية، تتناول قضية الإسلام
الكبرى، قضية الحرية وجوهرها.
بطل الرواية (وحشي) عبد
من عبيد قريش، وهو مع ذلك يطمح للحرية، التي يعتقد أنها سوف تجعل منها «بشرًا
سويًا» كما كتب المؤلف على لسانه، فالعبودية تجعله في منزلة دون بشرية؛ ثم تأتيه
فرصة لنيل حريته، فـ (قريش) التي لاقت الهزيمة (يوم بدر)، تتحضر للخروج لقتال
المسلمين من جديدة، والكل يعرف مهارة (وحشي) في استخدام الحربة، ومقابل أن ينال
حريته، يطلب منه سيده أن يخرج في جيش (قريش) لقتل (حمزة بن عبد المطلب)، عم الرسول
وبطل (يوم بدر)، ثم تأتيه (هند بنت عتبة) وتطلب منه أن يقتل (حمزة) مقابل مكافئة
عظيمة؛ يقارن (وحشي) بين حاله إذ يهرع له سيده ينيبه في (طلب ثأره المقدس) وتتضرع
له سيدة قريش (هند بنت عتبة) أن يساعدها، وبين حال (عنترة) الذي ما اعترف به قومه
إلا لما احتاجوا سيفه، محدثًا نفسه بأن «الحرية تؤخذ ولا تعطى، الحرية بالدم، أي
دم، سواء كان دم الشرفاء أو الأشرار»، فهو وإن كان يحترم (حمزة) ويراه أكرم وأعظم
من سادات قريش الذين هم في ضميره «هياكل سادة وقلوب عبيد عميان»، إلا أنه يقرر أن
يدفع ثمن حريته بدم (حمزة)؛ وترفض حبيبته (عبلة) أن تكون حريتهما وما يتبعها من أن
يكون لهما « أبناء أحرار، لا يفزعهم صياح السادة، ولا تؤرقهم اسواط العار، ولا
تطحن نفوسهم مرارة الذل والاحتقار» ثمنه قتل (حمزة)، الرجل الذي يرمز إلى أملها الحقيقي
في التحرر الحق من العبودية، ولكن (وحشي) يمضي إلى جريمته، ويغتال (حمزة) يوم (أحد)،
وينال حريته وجائزته، ولكنه يكتشف رويدًا رويدًا أن كل ما نال مجرد قبض الريح، فقد
قتل (حمزة) ولا فخر في قتل الأبطال غيلة، وأصبح حرًا ولكن كل (قريش) تنظر له
نظرتها لسائر العبيد، بل وحتى رفاقه القدامى من العبيد لا يزالون ينظرون له
كأحدهم، ويشتري (عبلة) بماله، لكن قلبها لم يعد يكن له حبًا ولكنه يكن له
الاحتقار، تحتقره لعجزه أن يتجاوز أنانيته التي هيأت له أن انعتاقه من عبوديته
قضية الكون كله، فعمي أن يرى أن عدوه ليس إصر العبودية ولكن المجتمع الجاهلي الذي
صنع هذا الإصر، هذا المجتمع الذي يكاد الإسلام يعصف به؛ وها هي حبيبته (عبلة) تهجره
إلى الحرية الحقيقة في ظل الإسلام؛ وتتزلزل أوهامه وهو يرى (بلال) وقد كان رقيق
مثله ذات يوم، في عمره القضاء يتقدم المسلمين ومنهم من كانوا من نبلاء قريش في
الجاهلية، ويسقط (وحشي) في حيرة، تنتهي بأن يكتشف طريق الحرية الحقيقة ويشهر
إسلامه.
استطاع (نجيب
الكيلاني) برسمه صورة لأفكار (وحشي) ومشاعره وتقلباته أن يصور أزمة إنسان المجتمع
الجاهلي الذي تعصف به أنانيته، التائه لا يكاد يعرفه هدفه، وإن عرفه فشل في أن
يسلك الطريق الصحيح لبلوغ هذا الهدف؛ وقد استعمل في تصويره للشخصية أسلوب المناجاة
التي يحدث فيها (وحشي) نفسه، كاشفًا عما في صدره وضميره؛ وفي مقابل (وحشي) كانت
هناك حبيبته (عبلة)، والتي انحازت لقضية الحرية الأصلية، تحرير الروح والعقل
والكرامة من رق جاهلية تقوم على التفاخر بالأنساب والانحياز إلى النسب، فاعتنقت
الإسلام.
وفي رأي الشخصي أن (الكيلاني)
قد بلغ ذروة عطائه الإبداعي في مجال الرواية في (قاتل حمزة)، فـ (الكيلاني) لم يكن
أديبًا فحسب، ولكنه كان منظرًا لما أسماه (الأدب الإسلامي) والذي عرض نظريته بشأنه
في كتابه المسمى (مدخل إلى الأدب الإسلامي)، وفيه يحمل على هؤلاء الذين نحو الأدب
بعيدًا عن قضية الإسلام والمسلمين، وهؤلاء الذين مسخوا الأدب فجعلوا منه إنشاء
خطابي ووعظي مقولب باسم نفس القضية، ثم يطرح مقومات الأدب الإسلامي في تصوره،
مناقشًا مسائل مثل صورة البطل، وبنية العمل الادبي وجماليته، وعلاقته بالتاريخي،
ودور الأدب الإسلامي الاجتماعي والثقافي، وفي (قاتل حمزة) يضع أفكاره حول الأدب
الإسلامي موضع التنفيذ، فقضية الرواية قضية الإسلام الذي جاء ليحرر العباد من
عبادة العباد، وبطلها ولو كانت شخصية تاريخية إلا أنها شخصية لا تحيط بها قداسة
تحمل المؤلف على قولبتها، بل هي شخصية تغلب عليها الجاهلية، إلى أن تنعتق من
الجاهلية وتعانق الإسلام، وأدواته التي يستخدمها في بناء الرواية أدوات تحلل نفسية
الشخصيات، وتستكشف العلاقات الاجتماعية والثقافية المحددة لبيئة الرواية.
ومن المحزن أن تجد
كاتب دراما تلفزيونية، يقدم مسلسل عن (عمر بن الخطاب)، فيعدو على رواية (قاتل حمزة)
ليسرق منها شخصية (وحشي) كما رسمها (الكيلاني) ويوظفها في مسلسله، ثم لا يكتف بذلك
حتى ينتحل لنفسه حوارات كاملة منقولة من الرواية نقلًا حرفيًا، ثم تجد من يطبلون
ويزمرون للمنتحل، ويزعمون أنه أول من قدم شخصية (وحشي) من هذا الجانب، ويضربون
صفحًا عن جريمة السرقة الأدبية، ويتجاهلون نهب إبداع (نجيب الكيلاني)، وهذا الأمر
بلا أدنى شك دليل على فساد الطبقة المثقفة المعتمدة بخاتم النسر وجهلها ونفاقها.
ولد مؤلف الرواية (نجيب
الكيلاني) في إحدى قرى محافظة الغربية عام 1931، ودرس الطب في جامعة الطب، ثم عمل
طبيبًا في أماكن مختلفة في مصر والكويت والإمارات، وقد بدأ (الكيلاني) في نشر
كتاباته في منتصف الخمسينات، وقد تميزت كثير من أعماله الروائية باهتمامها بقضايا
المسلمين حول العالم، ففي رواياته (عمالقة الشمال) يصف صراع المسلمين في شمال
نيجيريا مع الاستعمار البريطاني وورثته، وهذه الرواية كانت اول ما قرأت له، وفي
روايته (ليالي تركستان) يؤرخ لجهاد مسلمي تركستان الشرقية ضد الاحتلال الصيني
والعدوان الروسي؛ إلى جانب رواياته التاريخية المحملة بالهم الإسلامي، قدم (الكيلاني)
عدد من الأعمال الواقعية والاجتماعية مثل (اعترافات عبد المتجلي) و(ملكة العنب) ولكنها
لا تزال مسكونة بالهم الوطني والإنساني؛ وإلى جانب الروايات قدم (الكيلاني) أعمال
قصصية ونثرية في عدة كتب، وقد كُرمَ (الكيلاني) على أعماله من قبل مجمع اللغة
العربية، وتوفي ودفن في (القاهرة) عام 1995.
بهذه القراءة، يكون
انتهى الأسبوع الذي خصصته للرواية التاريخية، وغالبًا ما سوف أعود إلى موضوع
الرواية التاريخية مرة أخرى، لأن تركت ما لا ينبغي تركه من الأعمال الهامة لأدباء
مثل (نجيب محفوظ) و(سعد مكاوي) و(صنع الله إبراهيم) وغيرهم.
تقبلوا مودتي
0 تعليقات