محمود جابر
ببالغ الامتنان أتقدم لصديقي النائب البرلماني عاطف مغاورى على هديته
القيمة " قناة السويس ماضيها .. حاضرها .. مستقبلها .. للمهندس محمود يونس ..
والكتاب عبارة عن شرح توضيحى للصورة الكاملة لقصة قناة السويس من بدء
فكرتها وحفرها بسواعد المصريين وفكر الإمبراطوريات فى تلك الحقبة واستغلالها
لقوتها لتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستعمارية وحتى قرار الزعيم جمال عبد الناصر بتأميمها،
ذلك القرار الذى غير وجه العالم وكسر ثوابت التاريخ، وكان هذا القرار شرارة كبرى
فى تحولات تاريخية فى السياسة والعلاقات الدولية، إضافة إلى تجلى الإرادة المصرية
ونجاحها فى تشغيل مرفق قناة السويس وسط الأمواج العاتية التى انكسرت على الصخرة
الصلبة لرجال التأميم ورجال الهيئة والتى ساندهم فيها فطاحل قانونيين ودبلوماسيين
ومن خلفهم قيادة سياسية داعمة للوطنية وعيت الحاضر والمستقبل وإطماع الغرب فى
ثرواتنا .
وهذه ليست مذكرات يراد بها تمجيد شخص وإنما هى رؤية من المصرى الذى اختارته
القيادة السياسية لقيادة عملية التأميم ومن بعدها العمل على نجاح العمل اليومى بها
انه المهندس محمود يونس .
فى ص 24 يقول يونس : منح محمد سعيد صديقه دى لسبس الامتياز الأول لحفر قناة
السويس فى 30 نوفمبر 1854 وبعد ثلاثة أسابيع تسلم سعيد من قنصل فرنسا العام فى مصر
وفى أثناء حفل أقيم فى القلعة الوشاح الأكبر من وسام الشرف الذى أهداه إليه
نابليون الثالث، وإمبراطور فرنسا.
ليت شعرى ماذا فعل سعيد ليستحق هذا التقدير السامي؟
لقد غمض عينيه ووقع فرمان .
فرمان مبهم مجمل ينقصه كثير من التحديد والتفاصيل فرمان يعطى صاحبه حقوقا
واسعة وهائلة وعجيبة لا يتصورها عقل ولا يستسيغها منطق فرمان يصرح لحامله بان
يستولى على ما يجلو له من أراضى دون تحديد ودون مقابل !!
ولهذا فإن مشروع القناة لم يكن مشروع لمجرى ملاحى بين البحرى الأحمر
والمتوسط بل لإقامة منطقة محمية ومستعمرات فرنسية حول القناة !!
فى 20 يوليو 1856 حصل دي لسبس على قرار تلتزم فيه الحكومة المصرية تستخير
العمال والفلاحين لشق قناة السويس للشركة ّ!
مادة (1) : نقدم الحكومة المصرية العمال اللازمين لحفر قناة السويس والترع
وذلك عند طلب مهندسي الشركة وطبقا لحاجة العمل ".
وعليه التزمت الحكومة بتقديم 20 ألاف، وان تستبدلهم فى فترة من شهر إلى 3
شهور، وقد نشرت جريدة " ستندر" وفق ما ورد فى مجلة قناة السويس فى عددها
122 بتاريخ 15/7/1861
تقول :" دفع العمال المصريون الى ساحات الحفر كأنهم قطعان من الإنس.. أخرجوا
من ديارهم مسوقين على السخرة كما تساق الأنعام.
كان هؤلاء العمال التاعسون يسحبون سيرا على الأقدام إلى بور سعيد وقد ربط
بعضهم الى بعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد التى يسوقها تجار الرقيق بأفريقيا من الأقاليم
الداخلية الى الساحل ".
ثم اصدر الخديو أوامره باستمرار العمل فى شهر رمضان وتحدد وجبة العامل
الويمية بحفر 60 مترا مكعبا فى اليوم يرفعها أثناء الليل او خلال النهار فى عمل
متواصل، وقد اتخذ ما يلزم من شراء ألف مشعل من القاهرة لإنارة ساحات العمل فى
ليالى رمضان !!
كما لم يفلت الأطفال من السخرة، وبذلك استطاعت ان تزود عدد العمال شهريا من
20 ألف الى 30 الف، وحتى الجنود فى الخدمة العسكرية أنفسهم اشتركوا فى عمليات
السخرة فى حفر القنال، ويصف نوربار باشا ما كان يحدث فى بيئة حفر القناة قول :
رأيت بأم عين رأسى ما يعانيه هؤلاء الفلاحين المساكين من عذاب وقد أتيحت لى أيضا
ان ازور سجون فرنسا فأقسم بشرف ان حراس سجون فرنسا القساة اكثر رحمة من ملاحظى
شركة قناة السويس . ولقد بكيت بدموع حارة على هؤلاء المواطنين البؤساء ويبدو لى أحيانا
من يضرب فلاحا ويكسر معصمة بضربة كرباج إنما يضربنى ويكسر معصمى .
لقد كانت مناطق الحفر أشبه بأودية الرعب . كان على العمال الوافدين إليها
ان يختاروا لونا من ألوان الموت المعروضة عليهم بسخاء . فالسياط تلهب ظهورهم. والعطش
يفرى صدورهم، والجوع يمزق أحشائهم، والانهيارات الرملية تدفنهم أحياء والمواد
المشعة فى طمى النيل تبيد أجسادهم والأوبئة تتفشى فى صفوفهم فتحصدهم بالآلاف.
كانوا يموتون عطشا فى بداية أعمال الحفر لان المهندسين العباقرة الذى عهد
اليهم دى لسبس تنفيذ المشروع لم يدروكوا ان توفير المياة الى ساحات الحفر يجب ان
يسبق توفير الايد العاملة، يقول فواز بك المدير الفرنسى العام للاشغال العامة
اثناء الحفر " كان الماء يجلب من مسافات بعيدة للغاية على ظهور الجمال ويكفى
ان نذكر ان رحلة القافلة كانت تستغرق اربعة ايام فى الذهاب من القنطرة الى موارد
المياة والعودة ".
وإذا تأخرت القافلة فى الوصول يكون الموت للآلاف العمال موتا محققا... هلفرد
هوسكينز الطرق البريطانية الى الهند صفحة 365.
كان العديد من العمال يلوذ بالفرار من ساحات العمل حين يستشعر قرب موته
عطشا، فلا يقدر خطورة الهرب فيهرب الى الصحراء بحثا عن ماء فكان يموتون ويلقون
حتوفهم من شدة العطش وتظل جثثهم فى العراء على رمال الصحراء تنهشها الذئاب .
ومن يظل فى مكانه يحدوه الأمل بوصول الماء فكان مصيره الموت وقد يلفظ أنفاسه
الأخيرة قبل ان تدركهم قافلة الجمال!!
الى جانب أزمة شح المياه ومجانية العمل وسخرته كان الكرباج والموت تحت
السياط موتا بالمجان، ثم زاد هول الرعب حينما حلت الأوبئة تحصدهم وحسب الترتيب فى
الظهور فقد ظهر التيفود، ثم التيفوس، ثم الجدرى، والكوليرا، والحمى الراجعة.
ظهر التيفود فى ابريل 1862 فى ساحة حفر رقم 6 بمنطقة عتبة الجسر واتخذ مظهر
الوباء بين العمال، وتكتمت الشركة على الوباء تكتم بالغ ولم يسمى احد من مشرفى ولا
مهندسى ولا مسئولى الشركة اسم المرض حتى لا ينشتر الرعب فى البلاد وحتى العمال
الذين كانوا يصابون ويموتون لا يعرفون سبب موتهم.
وف عام 1864 تسرب وباء الجدرى فى أعقاب التيفود والتيفوس.
وكان وباء الكوليرا الذى اجتاح ساحات الحفر فى مستهل صيف 1865 اخطر واشد
وباء شهدته المنطقة لقدر راحت ضحيته زوجة فوزان بك المدير العام للإشغال رغم كل ما
لديها من وسائل ترفيه ومياه، فما بلك بالعمال الذين يفترشون الارض ويتلحفون السماء
ولا يجدون كسرة خبز ولا جرعة ماء؟!!
حتى ان الخديو إسماعيل هرب من مصر خوفا من الكوليرا الى القسطنيطينة، بعد
ان انتشر فى البلاد انتشارا مروعا حيث ظهر فى الإسماعيلية ومنه انتشر الى عموم
البلاد، وبلغ الموقف غايته من الخطورة حين عجرت الإدارة الصحية للبلاد على نقل
المرضى الى مراكز الإسعاف ، وفى شتاء 1868 انتشر الدوسنتاريا بين عمال الشلوفة
واتخذ المرض مظهر الوباء وساعد على انتشاره شدة البرد وعدم وجود ملابس تحمى العمال
من البرد ولا أغطية ولا أماكن للنوم.
كما ظهرت ظاهرة أخرى أودت بحياة الكثر من العمال أثناء الحفر فى القطاع
الشمالى حيث ترسيب طمى النيل لقد اتضح ان هناك طبقة من الطين والصلصال فى الاعماق
تحتوى على مادة مشعة حارقة فجند دى لسبس جمع كبيرا من صيادى بحيرة المنزلة وأفناهم
عن آخرهم .
ولك ان تعرف ان سكان مصر فى عهد إسماعيل كان أربعة ملايين وثمانمائة وثلاثة
وثلاثين نسمة...
كان يخدم منهم فى السخرة 720 ألاف عامل سنويا أى تقريبا خمس سكان مصر كانوا
يموتون سنويا فى أعمال الحفر والسخرة .
وهذا أحد جوانب الجريمة فى عملية حفر القناة .............
0 تعليقات