فتحي عثمان
يرصد روس إيلنهورن في
كتابه عن التغيير آمالنا وخيباتنا عندما نعزم على التغيير ونفشل. فنحن عادة ما
نقرر بحزم أن نمتنع عن تناول النشويات والحلويات، ثم ينتهي بنا الحال بزيادة فظيعة
في الوزن وتشوهات معيبة في الشكل. وحتى نعود لسابق شكلنا الجذاب نشتري دراجة رياضة
منزلية ولا نستعملها (ينتهي بها المطاف عادة كنشافة للملابس في البلكونة)؛ ونحن
نفشل كذلك عشرات المرات في الإقلاع عن التدخين، ونفشل في كسر عاداتنا الخبيثة
ونفشل في قراءة العدد الذي حددناه من الكتب. ثم يأتي الأصدقاء الراثين لحالنا
فينصحونا؛ من باب المواساة والتعزية، بالرضا بالقليل بدل التغيير: أي أن نأكل أقل،
ونمشي أكثر، وندخن أقل ونقرأ أكثر وعلى مهل.
كما يحدث ذلك في
حياتنا اليومية، فإنه يحدث وبأبعاد كارثية، في قضايا السياسة المصيرية. فعندما
تقنط جهة ما أو أشخاص من إمكانية التغيير؛ تطالب بما هو (أقل) وتسميه بالممكن
المتاح، وهو مصالحة الاستبداد.
في الحالة الارترية،
يجسد موقف الحركة الفيدرالية هذا الوضع. إن التاريخ الطويل لممارسة السياسية لدى
قادة هذه الحركة (أي ممارسة السياسة منذ السبعينات وحتى اليوم) يجعلنا نفترض، غير
مخطئين، بأن هؤلاء القادة ملمين بالمفهوم الماركسي للتناقضات الأساسية والثانوية
والتمييز بينهما، حيث أن أغلب قادة هذه الحركة تشرب الفكر الاشتراكي في مرحلة
الشباب. وبفهم أن السياسة هي صراع على الموارد السياسية فهي مسرح واسع للتناقضات
الاساسية والثانوية، وتحديد هذه التناقضات له علاقة بتحديد الاستراتيجيات والتكتيك
وسبل تحقق الأهداف (العنف أو السلم مثلا) وتحديد معسكرات الأعداء والأصدقاء. وعندما
نشير إلى الفكر الماركسي في هذه المقاربة ليس لسبب إلا لأنه أفرد مساحات واسعة
لتفكيك هذا المفهوم السياسي والطبقي أكثر من المدارس الفكرية الأخرى.
وبنقل الحركة
الفيدرالية الارترية للصراع مع الاستبداد من خانة التناقض الأساسي إلى خانة
التناقض الثانوي (تحت مبرر أن الأخطار المحدقة بالوطن تملي ذلك) طرأت أسئلة ملحة
لا مناص من طرحها؟
هذه التساؤلات
المشروعة (التي نأمل أن يتسع الصدر لها) هي من قبيل: هل اسياس افورقي مستعد لقبول
الحركة الفيدرالية وما تمثله من مبادئ وخاصة مبدأ (الفيدرالية) الذي يحدد شكلها
واسمها؟
حسب علمنا، أن اسياس
يرفض الفكرة ليس فقط في ارتريا، بل في إثيوبيا ويحاربها بالقول والفعل. وموقفه من
الفيدرالية في إثيوبيا وحربه الأخيرة ضدها، وموقفه من المادة 39 من الدستور الإثيوبي
عبر عنه وبوضوح وأكثر من مرة. وسبب برود علاقاته مع حليفه أبي احمد هو لومه لأبي
أحمد في أنه لم يرجع بإثيوبيا إلى حالة الحكم المركزي السابق للفيدرالية؛ إضافة
طبعا لتبنيه (أي أبي احمد) لمشروع الحل السلمي مع تيغراي. تحاول الحركة بهذا
التحول المبدئي أن تنشئ تحالف مع اسياس (ونقول اسياس لأنه ليس هناك نظام في البلاد)
لمواجهة الأخطار المحيطة بالبلاد؛ فهل درست الحركة مفهوم اسياس للتحالف؟ يؤمن
اسياس بذوبان الآخرين في الجسم الذي يسيطر عليه، ولا يؤمن بأي تحالف ولأي غرض كان.
التاريخ يسجل أن تنظيم جبهة التحرير الارترية (ساقم) انخرط في وحدة (اندماجية) مع
الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا في المؤتمر التنظيمي (التوحيدي) الثاني في عام 1987،
واليوم لا أحد يذكر هذا التنظيم وحتى قيادته التاريخية مثل القائد إبراهيم إدريس
توتيل، وزمهرت يوهنس (مسئول الشئون الثقافية في الجبهة الشعبية) واللواء ابرهلي
كفلي، واحفروم تولدي وآخرين والذين أصبحوا أعضاء في الجبهة الشعبية بعد انمحاء
تنظيمهم. هذا النوع من التحالف أو الوحدة التي يؤمن بها اسياس.
الأسوأ من ذلك أنه في
ظل تغييب الشعب الارتري بواسطة الاستبداد والعسف فإن اسياس (وليس الشعب الارتري) هو
الذي يحدد طبيعة التحالف وشروطه؛ بل من يحق له دخول البلاد وتحت أي شروط (تجربة
عودة المناضلين في بدايات التحرير مثال واضح)، وأي افتراض بأن التحالف هو مع الشعب
أو لخدمة الشعب فهو خداع ناعم للذات.
في صبيحة 12 سبتمبر 1974
والذي صادف بداية السنة الإثيوبية الجديدة دخل خمسة ضباط من الجيش الإثيوبي إلى
غرفة نوم الإمبراطور هيلي سيلاسي وطلبوا منه الخروج معهم إلى مكتبة القصر لتلاوة
بيان على الشعب يعلن فيه عن تنازله عن العرش. قبل هذا اليوم كان سقوط هيلي مستحيلا
بالنسبة للشعب الإثيوبي، وبالنسبة للإمبراطور العجوز نفسه وأخيرا بالنسبة للضباط
الخمسة نفسهم. نفس المشهد تكرر في السودان وفي تاريخ لاحق عندما ابلغ قائد الجيش
السوداني المشير جعفر نميري في ابريل 1985 بأنه لم يعد رئيسا للبلاد، وتكرر المشهد
مع المشير عمر البشير مرة أخرى. وفي كل مرة كان يظن الحاكم أن الشعب لن يثور عليه
وأن ذلك ضرب من ضروب المستحيل.
التغيير تام لا محالة
بتوفر شروطه، وبوجود القادرين على صنعه والاستفادة منه؛ ولكن الذي يؤخره دوما ( ولا
يمنعه أبدا) وهو وجود قناعة تقول: " أننا لا نقوى على تحقيق أحلامنا؛ بل علينا
الرضا بالقليل مقابل التغيير المستحيل."
0 تعليقات