آخر الأخبار

بين المؤمنين ومستقبل الثقافة والتعليم

 

 

 


 

محمود جابر

 

 

 

أحيان يبلغ الألم حد الإمتاع، والإبهار، والاندهاش، والصدمة .. تلك كلها مشاعر أخذتني وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي الباكستاني (بين المؤمنين) أو (Among the Believers )...

 

والذي أشكر حسناء كثيرا على هذه الهدية القيمة وهى ليست المرة الأولى التى تتفضل عليا بهذه الأشياء البديعة .

 

هذه الفيلم والوثائقي يتناول قضية ما يعرف بالمسجد الأحمر بباكستان، وهو ليس مسجدا بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه سلسلة من المدارس الدينية التى تربى فيها ما عرفوا بعد ذلك بطالبان، وهى تلك المدارس التى تلقت تمويلا أمريكيا وسعوديا، وقبله حكوميا من اجل مواجهة ما سمى بالغزو السوفيتي لأفغانستان، والتى تلقت تمويلا جيدا، من قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

 

الفيلم وبحق تقشعر منه الأبدان، فى البداية مشهد مولانا (عزيز) أو عبد العزيز إمام المسجد أو قائد ميليشيات مدارس المسجد الأحمر والتى تنتشر فى كل أنحاء باكستان، الرجل ينتقل بسيارة (بيك آب) فى الصندوق الخلفى يقبع مجموعة من الرجال المسلحين، يتحرك فى كل مكان داخل او خارج المسجد وحوله مجموعة من الشباب المسلحين، وكل واحد منهم يده على الزناد فى حالة جهوزية قتالية، سواء فى الأوقات العادية أو وقت الدرس، أو أثناء أداء الصلاة.

 

أثناء مشاهدتى الفيلم كان ذهنى يعيد قراءة مقالات نصر القفاص فى الجمهورية الجديدة وهو يتحدث عن طه حسين وكتابه مستقبل الثقافة فى مصر، وأزمة التعليم، فبعض من مشاهدة الفيلم أثناء حديث الدكتور براويز الذى يقوم بمجهود مجتمعى فى مواجهة الإرهاب يشرح كيف تحول المدارس الدينية إلى مفارخ إرهاب دون طلقة بدلا من ان يعلم الطفل ان حرف (أ) يرمز له بـ ( أرنب) يضع له صورة مقاتل مصوب بندقيته ( أضرب)، وبدلا من حرف الـ (الباء) برتقاله، يرمز الباء للـ ( بندقية)، وهكذا فإن حشو عقل الطفل بهذا الكم من العنف وأدواته وافعله كفيل بأن يخلق طفلا عنيفا مستعد للقتل والإرهاب .

 

قدم الفيلم نموذجا لصبى يبلغ من العمر خمس سنوات، تخلى والده عن والدته وتركه وحده فى هذا العالم، فتوجه الطفل إلى شخص الشيخ عبد العزيزغازى مدير المدارس او المسجد الأحمر وهو معروف لمساعديه باسم مولانا (عزيز) والذى سأل الطفل: ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟، فرد الطفل: مجاهد!!

 

ثم يسأله، وهل تذكر تلك المواعظ التى علمتها لك؟ فوقف الصبى وقال: أعوذ بالله من الشيطان ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، وانظر إلى تضحيات شهداء المسجد الأحمر، ثم يتحول سلوك الطفل الهادئ إلى العنف عندما يبدأ فى الصراخ وفى هز قبضته الصغيرة فى الهواء ويقول: إننا سوف ندمرك إذا هاجمتنا! لا يمكنك الدخول هنا !لا يمكنك قهرنا! لا تستطيع! واذا تجرأت على الدخول هنا سوف ندمرك باسم الجهاد!، وينظر الطفل إلى رجل الدين الذى يقول له: «أحسنت»، وهو ما يكشف الكثير مما كان يجرى داخل هذا المسجد.

 

فيلم «بين المؤمنين» يروى خمس سنوات خلف أسوار المسجد الأحمر والذى يعد مدرسة دينية مثيرة للجدل فى إسلام أباد فى باكستان، تعد الأطفال منذ الخامسة وتدربهم للجهاد، فهو القاعدة الرئيسية لشبكة مدرسة المسجد الأحمر التى تضم 30 مدرسة وجيشا من 10.000 طالب منتشرين فى أنحاء باكستان.

وتصدر المسجد الأحمر عناوين الصفحات فى 3 يوليو عام 2007، بعد أن نشبت مواجهات دامية واشتباكات بين الطلاب المتحصنين داخل المسجد وقوات الأمن الباكستانية، وتم إلقاء القبض على مولانا عبدالعزيز، بينما كان يحاول الفرار من مكان الحادث متخفيا بالنقاب، وهذا النقاب فى 2007، أعاد عليا مشهد قادة الإخوان من أول المرشد وهو يهرب من بؤرة رابعة الإرهابية مرتديا النقاب، وكلاهما (عزيز) و(بديع) يتم نزع نقابهما أمام شاشات التلفيزيون، وأمام الجمهور !!

يتضمن الفيلم عدة حوارات منها حواران مع طالبين فى المسجد الأحمر، بينهما فتاة تدعى زارينا "12 عاما" نجت من المسجد الأحمر بالقفز فوق جدار حجرى وتركت النقاب وراء ظهرها، وقالت عن تجربتها هناك: الفتيات تأكل شريحة واحدة من الخبز يوميا ويتعرضون للضرب إذا خرجوا من المسجد إنهم لا يريدون السلام، إنهم لا يريدون سوى القتل، هم ليسوا مسلمين وإنما كفار.

 

هروب زارينا من المدرسة الدينية، ذكرنى ببعض الحكايات التى سمعتها من شخوصها، من عدد من المصريين الذين ذهبوا للالتحاق بمدارس دينية إيرانية، فى قم، أو لبنان، ثم هربوا بعد وقت قصير لأنهم لم يطيقوا العيش وسط هذا الجوع وتلك الحالة الجنونية من التدين الزائف .

 

زارينا الأخت لتسعة أولاد لأب قيمة دخله الشهرى حوالى 50 دولارا، ينفق منها على هذه العائلة الكبيرة، لم يجد بد للتخلص من أعباء بعض أولاده الا ان يلقى بهم فى آتون المدارس الدينية، وحينما تهرب ابنته من جحيم هذا العنف يلقى بها الوالد الى آتون آخر -هى شقيقها – وهو الزواج فى سن ما دون الخامسة عشر!!

 

من هذه المقابلات نستطيع تكوين انطباع معايش عن المناخ السوسيو- سياسي الراهن في باكستان، وهو في الواقع لا يختلف كثيرًا عن مثيله فى كل البلدان التى ضربت بالإسلام السياسي، وعسكرة المجتمع إجمالا، وحين نضع في الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي سمحت لهذه "المدارس" الدينية بالازدهار (الظروف التي تم وضعها وتشريحها بشكل ممتاز في هذا الفيلم)، لا عجب إذا أن نجد الآباء والأمهات ممن يواجهون صعوبة كبيرة في توفير حياة كريمة لأنفسهم، ناهيك عن أبنائهم، يقدمون أولادهم فريسة سهلة ومجانية لهذه المدارس المتطرفة من أجل توفير المسكن والتعليم لهم، خصوصًا حين نعلم أن التعليم الأساسي في باكستان ليس مجانيًا، وأن الدولة لا تضع التعليم في سلم اهتماماتها الأولى بالدعم، هنا نعيدكم الى قراءة مستقبل الثقافة فى مصر، ونطلب من المسئولين فى بلادنا ان يعيدوا قراءة الكتاب وأهمية إنفاق الدولة على التعليم.

 

إجمالًا، (بين المؤمنين) ليس فيلما وثائقيا جديدا،  رغم روعته التى تقشعر منها الأبدان، وربما موطن الارتعاد هو ان هذه المواجهة مع هذه النسخة من الاسلام  لن تختفي قريبا- وربما لن يختفي أبدًا، فالفساد الحكومة وشح الإنفاق على التعليم، والتحالفات التكتيكية للحكومات التى تقوم على الاستعانة بهؤلاء من وقت لآخر، أو الاستعانة بهم وقتا، وضربهم وقتا آخر وفق فلسفة ( لابحبك ولا اقدر على بعدك)، والتى فرضتها ظروف التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية التى تعتبر هؤلاء فيلقا جاهزا للتقديم العون فى اى وقت وفى اى مكان كما نرى اليوم هؤلاء فى ليبيا وسوريا وحتى فى أوكرانيا ...

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات