خالد عكاشة
لا
يتصور أن هناك إمكانية للفصل بين انعقاد القمة الثلاثية الروسية الإيرانية التركية
التي شهدتها العاصمة الإيرانية طهران، وبين زيارة الرئيس الأمريكي لمنطقة الشرق
الأوسط قبل أيام منها، وحضوره لمؤتمر الأمن والتنمية الذي شارك فيه قادة دول
الخليج الستة وثلاثة من كبار قادة الدول العربية في جدة بالسعودية. فالفاصل بين
الحدثين يقاس بالساعات، وخلفية حالة الاستقطاب الدولي تجري على قدم وساق، وما جاءت
تلك القمتين المتسارعتين إلا تعبيرا عن تلك الحالة، بل وتعد إحدى تجلياتها أن تشهد
المنطقة التي وصفت بـ"الأقل أهمية" خلال سنوات مضت، حضور لكل من رئيس
الولايات المتحدة وروسيا وحديثهما العلني عن آفاق للتعاون الاستراتيجي مع الدول
المشاركة يكاد يشمل كافة القضايا الدولية والإقليمية.
هناك
من اعتبر القمة الثلاثية في طهران، ردا جيوسياسيا قويا على زيارة الرئيس الأميركي
لشركائه الأساسيين في الشرق الأوسط، وأن الأمر بالضرورة يتجاوز الملف السوري الذي
حاول الزعماء الثلاثة الإيحاء بأنه الموضوع الرئيسي في الاجتماع. خاصة حين جرى
ربطه بمسار "استانا" الذي يعقد دوريا منذ خمس سنوات لبلورة الجهود
المشتركة، بين الشركاء الثلاثة لحل النزاع بين الرئيس السوري بشار الأسد وفصائل
المعارضة المسلحة. قام وزير الخارجية الإيراني "حسين عبد اللهيان" بتأكيد
هذا المعنى، خلال زياراته لموسكو وأنقرة قبيل القمة حيث حمل معه ملف الأوضاع
السورية، متعهدا بإمكانية المساعدة في حل المشكلة الناجمة عن الأزمة الأمنية بين
سوريا وتركيا، من خلال الوسائل السياسية بديلا عن قيام تركيا بالاستعداد لشن عملية
عسكرية، ضد مناطق تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" التي يشكل
المقاتلون الأكراد عمودها الفقري. على أن تنطلق الحملة كسابقاتها من الحدود
التركية، وتمتد إلى منطقتي "منبج" و"تل رفعت" في محافظة حلب
بشمال سوريا.
هذا
الأمر رغم تداوله بكثافة من الجانب التركي بداية، ومن ثم دخول إيران على خط
اعتباره مهدد كبير وتتشارك معها روسيا في ذلك، يعد مشهد مكرر ولا يحمل أي جديد ولا
يتصور أحد تنفيذه في هذه الفترة بالذات، رغم قيام أنقرة سابقا بنفس السيناريو
التصعيدي الذي جرى بنفس الملامح وانتهى بأكثر من عملية عسكرية. فالمشهد الراهن به
من التطورات والتفاعلات ما هو أخطر وأكثر إلحاحا من الملف السوري، منه التعاون
العسكري بين روسيا وإيران الذي استبق هذا اللقاء أيضا، بإعلان أمريكي مثير عن لجوء
روسيا إلى التزود بطائرات مسيرة إيرانية، لاستخدامها في الحرب على أوكرانيا. الاستخبارات
الأمريكية رصدت زيارة مسؤولين عسكريين روس لقاعدة عسكرية إيرانية مرتين خلال هذا
الشهر، للتقييم ولمراقبة المسيرات أثناء عملها لوضع اللمسات النهائية للصفقة التي تؤكد
واشنطن أنها في طريقها للتنفيذ. فرغم أن طهران تذهب دائما لشراء الأسلحة من الصين
وروسيا، لكنها مؤخرا أثارت قلق كبير بعد دخولها بقوة، مجال الاستثمار في برنامج
محلي لإنتاج الطائرات بدون طيار، كان أبرز تجلياته افتتاح مصنعها الجديد
بطاجيكستان في مايو الماضي كجزء من جهودها في توسيع صناعة الأسلحة، خاصة بعد الرفع
الجزئي للعقوبات الدولية عنها في عام 2020.
أما
الجانب التركي؛ فوجود الرئيس رجب أردوغان على قمة السلطة في أنقرة واستعداده
المبكر لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة 2023، يسلط الضوء على ما استحدثه في
السياسة الخارجية التركية، التي أظهرت منذ العام الماضي قبل الحرب الروسية
الأوكرانية أقصى درجة من المرونة الدبلوماسية. ففي الوقت الذي يحرص على الاحتفاظ
بعلاقات دبلوماسية وتجارية وعسكرية قوية مع الغرب وخاصة أوروبا، قامت تركيا أيضا
بجهود ملموسة لإصلاح علاقاتها مع عديد من الدول العربية، وفي سياق متزامن مع
إسرائيل. كما توصف علاقاتها التجارية والسياسية مع إيران بالقوية والراسخة، في
الوقت الذي تمكنت من الحفاظ على صلاتها المتميزة ليس فقط مع روسيا، ولكن مع
أوكرانيا أيضا التي تبيعها طائرات مقاتلة بدون طيار. الكواليس التركية في أنقرة
ترجح أن الرئيس أردوغان قد يكون انتزع من نظيريه الروسي والإيراني خلال قمة طهران،
غطاء لتنفيذ عملية محدودة في شمال سوريا، لكنه لم يحصل على "ضوء أخضر" كان
يسعى إليه، لشن هجوم واسع ضد المقاتلين الأكراد يهدد به منذ اندلاع الحرب الروسية
الأوكرانية، مستغلا انشغال الاطراف الرئيسية بتداعياتها.
لذلك
يبقى أمام الرئيس التركي من مخرجات القمة الثلاثية؛ أن البديل المطروح أمامه، هو
شن توغل محدود جدا من حيث النطاق والمدة الزمنية، أو ضربات محدودة من الطائرات
المسيرة ضد أهداف كردية محددة. لكن يظل التواجد الأمريكي بالشمال السوري يمثل
معضلة أمام أردوغان، فهذا يعني ببساطة أن هناك مساحات واسعة ستبقى تحت سيطرة "قوات
سوريا الديموقراطية"، فضلا عن تحركات روسية أخيرة أثمرت عن اتفاق بينها وبين
الأكراد، ساهمت في تعزيز قوات النظام من انتشارها في مناطق حدودية خصوصا قرب "منبج".
في سيناريو شبيه بما قامت به خلال الهجوم التركي في عام 2019، للحيلولة دون توسع
تركي، وإن ظلت السيطرة الفعلية على الأرض في يد قوات سوريا الديموقراطية. لهذا حرص
الرئيس التركي على أن يتضمن البيان الختامي للقمة، صيغة صريحة بمواصلة التعاون بين
الدول الثلاث من أجل القضاء على "الإرهابيين" في سوريا. فهو وكما جاء
بكلمته لا يرى فرقا بين المنظمات الإرهابية مثل داعش أو حزب العمال الكردستاني،
وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وهو منطق لا يقنع روسيا وإيران
وقبلهما الولايات المتحدة أيضا، لكن تبقى الاعتبارات التركية الداخلية حاكمة لما
يمكن الرئيس أردوغان التحرك فيه.
هناك
آمال وطموحات عدة؛ لدى القادة الثلاثة ووعود كثيرة توافقوا عليها لم تظهر في وسائل
الإعلام ولا في كلماتهم المعلنة، منها ما له علاقة بالشق العسكري وآخر له ارتباط
بالملف الاقتصادي الذي سعت تركيا للحصول على ضمانات بمساندتها فيه، على الأقل
تأمين لاحتياجاتها من الطاقة، والمؤكد الدعم الانتخابي للرئيس أردوغان، حيث بدا
كلا من الرئيس الروسي والإيراني يملكان وحدهما قدرة حصرية على إيصال الرئيس التركي
لمقعده بسلام.
0 تعليقات