د. وسام الدين محمد
بانتصاف القرن السادس
الميلادي، كان العالم القديم قد راح ينزلق في هوة الفوضى والتفسخ ببطء وإصرار. الإمبراطورية
الرومانية التي هيمنت على البحر المتوسط، انشطرت إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية
منذ منتصف القرن الرابع الميلادي. أما الإمبراطورية الغربية فقد أسرعت إلى
الانحطاط، وتناوشها البرابرة ينتزعون ممتلكاتها حتى اجتاحوا روما نفسها وأعلنوا
نهاية الإمبراطورية الغربية عام 476م. وقد أعقب سقوط روما حالة من الفوضى سببها
تنافس البرابرة فيما بينهم، ومحاولة الإمبراطورية الشرقية استعادة السيطرة على
أملاك توءمتها الغربية. ولم يكن الحال في الشرق أفضل، فالإمبراطورية الشرقية،
الإمبراطورية البيزنطية، دخلت في حرب مفتوحة ومستمرة مع الإمبراطورية الساسانية،
حرب خربت دمرت الأراضي الأغنى والأقدم حضارة في سوريا ومصر والعراق والأناضول، وقد
أسفرت هذه الحروب المتصلة عن تضاؤل عدد السكان وتدهور الاقتصاد في الإمبراطوريتين.
لم تكن الأوضاع
الثقافية خيرًا في الأوضاع السياسية والاقتصادية، فالصراعات الثقافية في كل مكان. في
عالم الإمبراطورية الرومانية، كان الصراع بين الوثنيين واليهود والمسيحيين، وبين
فرق المسيحيين نفسها، في البداية نظرت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية
الناشئة كأحد الفرق اليهودية، ولعل الاضطهاد الروماني المبكر للمسيحية كان من أثار
هذه النظرة، هذا الاضطهاد الذي بلغ ذروته مع نهاية حكم الإمبراطور دقلديانوس،
والذي أصدر مجموعة من المراسيم قضت بمنع المسيحيين من الالتحاق بالوظائف الحكومية
والجيش، ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية، وإحراق كتبهم، كما أصدر بنفسه أوامره
بإعدام العشرات وربما المئات من زعماء المسيحيين مثل رومانوس القيصري، وتابعه
عماله على الأقاليم الخاضعة لحكمه، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ في القسم الغربي من
الإمبراطورية الغير خاضع لحكم دقلديانوس. ولم يقتصر اضطهاد دقلديانوس على
المسيحيين، ولكنه طال أتباع ماني في الإسكندرية والذي أمر بحرق زعماءهم وكتبهم،
وإعدام عامتهم بالسيف (1).
ولكن موقف الدولة
الرومانية بدأ يتغير لصالح المسيحيين مع تبني الإمبراطور قسطنطين الكبير للمسيحية
في القرن الرابع الميلادي، ليبلغ هذا التغيير ذروته في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس
الذي أصدر مراسيم بمنع ممارسة الشعائر الوثنية وهدم المعابد الوثنية، وبينما تجاهل
كثير من موظفي الدولة تنفيذ هذه المراسيم، قامت بعض مجموعات من الرهبان المسيحيين
المتعصبين بتنفيذ هذه المراسيم بنفسها متخذين سبيل العنف (2). وقد تصاعد اضطهاد
الإمبراطورية لمواطنيها الوثنين حتى بلغ الذروة في عهد الإمبراطور جيستنيان، والذي
قام بإغلاق مدارس الفلسفة وطرد الوثنيين من الوظائف الحكومية والجيش، كما دمر
الكثير من المعابد الوثنية وأحرقت الكتب القديمة (3).
وعلى الرغم أن
الإمبراطورية الساسانية فتحت ذراعيها مرحبة بالطوائف المسيحية المضطهدة والفلاسفة
الفارين من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وحمتهم وضمنت حريتهم الدينية، إلا أن
هذه السياسة المنفتحة ظاهرًا كان هدفها المكايدة في الإمبراطورية الرومانية
الشرقية خصيمة الساسانيين، وهي السياسة التي لم يحظى بها مخالفي المجوس، كهنة
الزرادشتية/الزورفانية الدين الذي تبنته الدولة الساسانية، فأعدم بهرام الأول
المفكر الديني الفارسي ماني في نهاية القرن الثالث الميلادي (4)، واضطهدت الدولة
أتباعه؛ وفي القرن السادس الميلادي ظهرت حركة مزدك والتي كانت تحمل طابع فوضوي
شيوعي، وتسببت في فوضى سياسية واجتماعية كبيرة داخل الإمبراطورية الساسانية؛ وهو
ما حمل كسرى أنوشروان إلى إعدام مزدك وقمع أتباعه مما ألجأ المزدكية إلى الدخول
تحت الأرض، لتظل مؤثرة وفاعلة إلى العصر العباسي (5) .
وقد بلغ هذا الصراع
الثقافي والعقائدي الجزيرة العربية، ففي جنوبها، أقدم يوسف ذو نواس الحميري على
إبادة نصارى نجران، وهي حادثة ثابتة تاريخيًا وقعت في الربع الأول من القرن السادس
الميلادي وإن أختلف تفسيرها، فقد ذكرتها كثير من المصادر السريانية والبيزنطية
والحبشية، ويعتقد بعض علماء الآثار المعاصرين أن المسؤول عن هذه الحادثة هو الملك
الحميري الذي تسميه النقوش المسندة باسم يوسف أثأر (6)، ويربط مفسرو القرآن (7) بين
هذه الواقعة وبين أصحاب الأخدود الذين ذكرهم القرآن الكريم بصورة مجملة غير
تفصيلية (*).
كان العالم مضطرب
والحضارة آخذة في الانحسار، وقدمت غرب أوروبا نموذج للمصير المنتظر للعالم، فقد
كانت غرب أوروبا بالفعل قد دخلت فيما يسميه المؤرخين الأوروبيين بعصور الظلام،
وربما كان لهذا الظلام أن يغمر الأرض كلها لولا أن ظهر الإسلام.
هامش
*سورة البروج الآيات 1-8.
اللوحة المرفقة
للفنان الروسي كارل برايولوف (1799-1852) بعنوان آخر يوم في بومبي.
يتبع
0 تعليقات