نصر القفاص
عرفت "محمود
السعدنى" وهو "الأستاذ" بحق.. لكننا معشر الصحفيين تعودنا ذكر
الأسماء – خاصة مع الأعلام – مجردة من الصفات.. فنحن نذكر اسم الرئيس – أى رئيس – دون
أن نقدم عليه أوصافا مثل "فخامة" و"سيادة" وغيرها من أوصاف
التفخيم.. ربما لذلك كنا نقول "الولد الشقى" فى حضرة "محمود
السعدنى" دون ارتباك أو خجل.. بل أنه جعل صفته التى اشتهر بها عنوانا لعدد من
كتبه ومقالاته.. ومعلوم بالضرورة أن "الولد الشقى" كان مثقفا رفيع
المستوى, ويتمتع بتجربة متفردة فى طولها وعرضها وعمقها.. كما تفرد بسخريته اللاذعة..
والمؤلمة أحيانا.. بقدر ما كانت تفجره من ضحكات!!
أتذكر أننى التقيت
بمبدع عربى – أتحفظ على ذكر اسمه – بمكتب "طلال سلمان" رئيس تحرير جريدة
"السفير" فى بيروت..
أعجبتنى قدرة هذا "الأستاذ"
على "الحكى" وتفجيره للضحكات بحكايات يرويها, وكانت أطرفها وأخطرها.. سببا
فى طرده من دولة عربية, وحرمانه من دخولها طوال حياة الذى حدثنا بحكايته معه.. فقال
أنه ربطته علاقة قوية مع هذا المسئول, قبل أن يصبح حاكما.. والسر هو خفة ظله
وثقافته الواسعة.. إضافة إلى قدرته على "الحكى" المثير.. خلال واحدة من
جلسات المبدع معه, فوجئ بأن من أصبح حاكما يطلب منه تفسير رؤية قصها عليه أحد
المقربين..
ثم أضاف بأنه: "شاهدنى
ألبس أبيض فى أبيض.. وأمشى وسط مزرعة خضراء".. فإذا المبدع العربى الذى سمعت
الحكاية منه، يتعجل أملا فى إضحاكه.. وقال: "الحلم مفسر نفسه.. معناه أنك تور
الله فى برسيمه"!!
أظن أن سبب تحفظى على
ذكر اسمه إتضح!!
سمعت من "الولد
الشقى" حكايات شبيهة.. لم يكتبها.. لأنها حدثت خلال
جلسات خاصة, وهو كان يعتبرها لا تستحق النشر بقدر ما يمكن "حكيها" للتندر
والضحك.. لكن التاريخ الإنسانى يحتفظ بوقائع طريفة, فجرت ضحكات وبقيت ذات دلالة.. بينها
حكاية "السيناتور" الأمريكى عن الحزب الجمهورى, الذى قال خلال جلسة مع
أصدقائه: "لقد أثبت روزفيلت أنه يستطيع أن يكون رئيسا لأمريكا مدى الحياة.. وترومان
أثبت أن أى شخص يستطيع أن يكون رئيسا.. وايزنهاور أثبت أن أمريكا لا تحتاج إلى
رئيس على الإطلاق"!!
وصلت الواقعة إلى "ايزنهاور"
فى "البيت الأبيض" فضحك طويلا من قلبه!!
هنا يتضح الفرق بين "أمريكا"
وعقلية حاكمها.. وبين "واحد تور الله فى برسيمه"!!
أردت عبر هذه المقدمة
الإشارة إلى أن "النكتة" فى مصر كاشفة..
بل يجوز القول أنها
فى مراحل معينة تصبح جرس إنذار.. لذلك اهتم كل من حكموا مصر "بالنكتة" ومعناها
باعتبارها تحمل رسائل أحيانا.. وهنا سنجد أن "جمال عبد الناصر" كان
الأكثر حرصا على ما يقال بين الشعب من "نكات" وذهب أحيانا إلى إعادة
حكيها خلال جلساته وخطاباته للشعب.. بينها "نكتة" سمعها, تقول أنه خلال
إحدى زيارات لمصنع.. سأل عامل عن أحواله, فأجابه بأنه بخير والستر كثير.. فنادى
على عبد المنعم القيسونى, وقال له: "ليه ما عملتش ضريبة على الستر"!!
النكتة سمعها "الرئيس"
وضحك لها.. لم يتحرج فى أن يقولها للشعب!!
استخدم الشعب "سلاح
النكتة" ضد الرؤساء ورؤساء الوزراء والوزراء والنواب.. وضد صحفيين ومثقفين.. وكان
هذا "السلاح" يزعج مؤسس "الجمهورية الثانية" جدا, رغم أنه كان
يحب الذين يقولون له "النكتة" التى لا تتعرض له.. ثم كان أن قال له ابنه
"جمال" نكتة قاسية عن العربجى والحمار, وردت الواقعة فى فيلم "أيام
السادات" الذى أبدع "أحمد زكى" فى تقديمه بقدر ما أبدع فى تقديم "ناصر
56" رغم الفارق الرهيب بين كليهما!!
يجوز لنا القول أن
الواقع أحيانا يسبق "النكتة" ليجعلنا نضحك بالدموع.. وضمن تفاصيل هذا
الواقع ما حدث مع "القطاع العام" الذى تعرض لأخطر عملية تخريب مع سبق
الإصرار والترصد منذ أن بدأت "الجمهورية الأولى".. ولنا أن نتوقف أمام
مقال كتبه "محمود عوض" على صفحات جريدة "الحياة" بعنوان "مصر
والصين.. سلامات" استعرض خلاله قصة هذه العلاقة وتطورها..
ذكر أن الصين كانت
تستورد منتجات من مصر, فى الخمسينات والستينات.. و"ما أدراك ما الستينات"
كما قال أحدهم من الذين حكموا مصر لشهور!! وذكر فى المقال أن الحكومة المصرية اشترت
سندات خزانة أمريكية, قيمتها مليار وخمسمائة مليون دولار أمريكي.. أملا فى كسب رضا
الصديق الأمريكي, ورفضت فى الوقت نفسه طلب شركة "كفر الدوار" للغزل
والنسيج بمنحها قرض قيمته عشرة ملايين دولا!! ولم تجد الشركة من يقرضها سوى حكومة
الصين ليتم عزل رئيس مجلس الإدارة الذى ذهب إلى هذا الطريق!!
الواقعة منشورة
باللغة العربية.. وقت حكم الرئيس الثانى فى "الجمهورية الثانية"!!
الأخطر هو ما ذكره "محمود
عوض" فى نهاية المقال, وأقتبس منه نصا: "بمناسبة المنسوجات.. كان العالم
كله يعرف منذ قيام منظمة التجارة العالمية عام 1995, أن أمريكا ملتزمة بإلغاء نظام
الحصص فى وارداتها من المنسوجات بعد عشر سنوات.. الصين – وكل دول العالم – استغلت
السنوات العشر فى تطوير منسوجاتها وتخفيض تكاليفها.. حتى أصبحت المصدر الأول
للمنسوجات إلى السوق الأمريكية.. لكن مصر فعلت شيئا آخر لم يخطر على بال أى دولة
أخرى.. لقد نامت الحكومات المصرية المتعاقبة فى العسل.. قررت منع مصانع النسيج
المصرية من تطوير نفسها.. أو إضافة أية استثمارات جديدة فى شرايينها.. فقط قبل
أسبوعين اثنين من انتهاء نظام الحصص الأمريكية.. فاجأت الحكومة المصرية شعبها فى
ديسمبر عام 2004 باتفاق مع إسرائيل.. باسم الكويز يلزم مصر بشراء 11,7 بالمائة من
مكونات صناعتها فى النسيج من إسرائيل, كشرط لدخول السوق الأمريكية معفاة من الرسوم
الجمركية.. الحجة الرسمية هى أن هذا هو الحل الوحيد والسحرى لإنقاذ الصناعة
المصرية"!!
ما جاء فى مقال "محمود
عوض" وقائع منشورة وقت جلوس الذين يحكمون على "كرسى السلطة" بجريدة
لا تصدر من مصر.. هى جريدة سعودية كانت – ومازالت – تصدر فى "لندن" وكانت
تطبع فى "القاهرة" وتسمح لكاتب كبير – مصرى – أن يكشف ما حدث مع "القطاع
العام" الذى لا يتوقفون عن اتهامه بأنه سبب خراب مصر, لحساب "سماسرة"
و"مغامرين" تكاثروا – ومازالوا – حتى أصبحوا يملكون العبث بمقدرات
الاقتصاد متى شاءوا.. راحوا يفرضون كلمتهم, بأن تكون لهم حصة من مقاعد الوزارة
ومقاعد البرلمان.. ويفرضون الذين يتمتعون برعايتهم من "أراجوزات التنوير"
على الشاشات وكرؤساء تحرير.. وتطور الأمر لتتصارع عواصم الخليج على تمكين رجالها
فى مواقع المسئولية.. ثم امتد العبث إلى ميادين الرياضة والفن, لدرجة أن الشعب
أصبح يعرف كل راع وكل واحد من رعيته بالاسم!!
وقت أن كان بيننا
صحفيون من "زمن عبد الناصر" تم إبعادهم تدريجيا فى "زمن الجمهورية
الثانية"!!
عندما تم إبعاد "محمود
عوض" عن الكتابة فى "أخبار اليوم" تولى مسئوليتها أحدهم, وذاع صيته
بحكاية "طشة الملوخية" وليت العجلة توقفت.. لكنها استمرت فى الدوران.. وصلنا
إلى لحظة أصبح فيها المشهور بأنه "مخبر أمن" يتكلم باسم الدولة.. فهم
نجم نجوم مرحلة ما بعد ثورتين – حسب نص الدستور – إضافة إلى كثيرين نعرفهم بالاسم..
بل أصبح الشعب يعتبر أسماءهم "وظيفة" نخجل من كتابتها حتى بالسخرية.. ويمكنك
القول أننا نخاف من مجرد ذكر أحدهم أو بعضهم.. خاصة أن من فعل تعرض للتنكيل
والإذلال, على نحو يدعو للذهول!!
لم يتوقف "محمود
عوض" وقتها.. بل كتب مقالا أخطر بكثير!!
عنوان المقال كان "لماذا
نمزق نسيج الماضى والحاضر"؟!
تمنيت أن أقتبس
المقال كله.. لأن ما يحمله من تفاصيل تحكى كيف تم تدمير الصناعة المصرية!
سأعتمد على قدراتى
كصحفى تتلمذت فى محراب الصحافة المقدس!!
إلتقط الكاتب خبرا
منشورا فى الصحف عن أزمة سيارات مصانع كفر الدوار التى توقفت, لعدم وجود أموال
لتجديد تراخيص سيارات القلعة الصناعية.. قدم عرضا شاملا وافيا.. لصناعة الغزل
والنسيج منذ تولى رعايتها ونهضتها "طلعت حرب" وكيف أن "الجمهورية
الأولى" أضافت وطورت حتى جعلت هذه الصناعة تستوعب 150 ألف عامل وفنى.. وسرد
تفاصيل تحويل شركة "المحلة الكبرى" من الربح إلى الخسارة بفعل فاعل من
عام 1972.. وكان يشير فى مقاله إلى تحقيقات صحفية نشرتها "الأهالى" وكتبها
"مصباح قطب" إضافة إلى تقارير أخرى نشرتها جريدة "البديل" وكلها
تشرح منهج تدمير زراعة القطن التى كانت ثلاثة ملايين فدان.. وصلت إلى مليون فدان
عام 1990.. ثم أصبحت 300 ألف فدان عام 2008.. ذلك حدث استجابة لنصائح "صندوق
النقد" و"البنك الدولى".. وعرض "محمود عوض" دراسة
متكاملة أعدها "محسن الجيلانى" رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج
لإنقاذ هذه الصناعة.. لكن ما حدث – وذكره بالتفاصيل – أنه تم الذهاب إلى الطريق
العكسى, بقرارات وزارية وقوانين يبصم عليها البرلمان..
كلها تتعجل تصفية هذه
الصناعة!!
يتوقف "محمود
عوض" أمام ما نشرته صحف 8 مايو 2006 مبشرا بالأمل!!
كانت العناوين تقول:
"وزراء الاستثمار والتجارة والصناعة والقوى العاملة.. يعلنون برنامج الرئيس
لتحديث مصانع كفر الدوار"!!
الوزراء الذين ذهبوا لإنقاذ
مصانع "كفر الدوار" كانوا هم "رشيد محمد رشيد" هارب لحظة
اندلاع ثورة "25 يناير" كما يسميها "الدستور", والثانى هو "محمود
محيى الدين" أحد أبرز قيادات "صندوق النقد" حاليا – مرشحا معظم
الوقت لرئاسة الوزراء – والثالثة هى "عائشة عبد الهادى" وزيرة القوى
العاملة.. تناولتها فى مقالات بالمصرى اليوم فى وقائع فساد وقت أن كانت وزيرة.. وانتهت
الزيارة إلى إعلان "رشيد محمد رشيد" عن منح امتيازات لإقامة منطقة
صناعية للصين – لم يحدث وذهبت لإثيوبيا – وأعلن "محمود محيى الدين" أنه
اتفق مع "كوريا الجنوبية" لإقامة أربع مصانع جديدة للغزل والنسيج – الأخبار
10 ديسمبر 2008 – ثم قرر منح شركات نسيج "تركية" مساحة مليونى متر مربع
فى مدينة السادس من أكتوبر لتعمل بنظام وامتيازات المناطق الحرة.. ثم أعلن "رشيد
محمد رشيد" يوم 27 ديسمبر عام 2008 عن إقامة منطقة عالمية لصناعة النسيج, باستثمارات
أجنبية تتهافت علينا لصناعة الملابس الجاهزة!! فى الوقت نفسه كانت الصحف تنشر
تحقيقا عنوانه: "أصحاب مصانع النسيج يصرخون" و"قبل أن تدخل صناعة
النسيج غرفة الإنعاش"!!
تنشر جريدة "البديل"
تقريرا صحفيا.. يحمل تصريحا على لسان رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للغزل
والنسيج يقول فيه: "نية الحكومة تتجه لغلق شركات الغزل والنسيج المصرية"!!
هكذا تم خنق وقتل
صناعة الغزل والنسيج فى وضح النهار!!
كان فى مصر وقتها "برلمان"
و"وزارة" وكانت هناك "صحافة" تستطيع أن تنشر أكاذيب الوزراء..
وتنشر صراخ العاملين والمسئولين عن الشركات.. وكان "اتحاد العمال" شاهدا
على تشريد عشرات الآلاف من العمال.. وللحقيقة كانت هناك محاولات تتصدى لهذه
الجرائم, تقدمها "حزب التجمع" الذى استمر متهما بأنه "وكر الشيوعيين"
قبل أن يرضخ ويشارك فيما أسميته "اتفاق القصد الجنائى"!!
ما حدث مع "صناعة
الغزل والنسيج" كان هو المنهج ذاته, الذى تم به تدمير صناعة "الحديد
والصلب" و"الأسمنت" و"المراجل" و"الكوك" مع
المئات من المصانع التى تم بيع أراضيها برخص التراب.. وبقيت أمامنا حكاية "عمر
افندى" التى شاعت وذاعت لأن "يحيى حسين عبد الهادى" تصدى لها ودفع
الثمن.. بينما "محمود محيى الدين" مرموقا فى "واشنطن" كما حدث
مع "محمود عوض" الذى رحل وترك "صلاح منتصر" مرموقا حتى
النهاية.. وكل من حاول الدفاع عن "الجمهورية الأولى" أخذ نصيبه من
الاضطهاد والإبعاد والسجن والتشريد.. وبقى رجال "الجمهورية الثانية" يتألقون
برعاية "الثرثار باشا" وآخرين بعضهم يلمع "كالسيراميك" وغيرهم
يقترن بالفنانات الفاتنات – وفق معاييرهم – دون داع لتفاصيل أخرى.. إحتراما
للديمقراطية والإنجازات!!..
الجمهورية الثالثة !! عوض ومنتصر... عنوان ( 18)
يتبع
0 تعليقات