فتحي عثمان
عودتنا إلى ما سبق من
كتابة هدفها، هذه المرة، جلاء الالتباس والتخليط وتفصيل للمجمل بما يفرضه واجب
التفاهم. فيما يتعلق بالالتباس والتلبيس فإن المقال السابق لم ترد فيه ولو بالغلط
كلمة "العودة"؛ لأن العودة خيار شخصي لأحد ما من الناس لا يهم في كثير
ولا قليل. المقال ركز على موقف الحركة الفيدرالية لأنه موقف سياسي لتنظيم حاضر؛ أي
تقرير في شأن عام يخص الجميع.
والموقف أحدث شقا
طوليا في صف المعارضة، ولنا الحق في تناوله من هذه الزاوية. والمناقشة تأتي ضمن
هذا السياق وليس لها علاقة بأي مسائل شخصية حيث إن كاتب هذه السطور لا تجمعه لا
صداقة حقيقية ولا اسفيرية بأي من أعضاء الحركة على كافة مستوياتها، وليس له كذلك
أعداء داخلها كما يحسب ويرجو، وهذا يبعد الحديث عن دائرة العلاقات الشخصية أي كان
شكلها.
تفصيل المجمل:
لنأخذ السطر الحاسم
من بيان الحركة الفيدرالية الصادر في مايو الماضي بمناسبة عيد الاستقلال الحادي
والثلاثين: "... ولكن في هذا الوقت الذي يتهدد فيها بلادنا غزو خارجي نعرف
مكوناته ودوافعه وأبعاده جيدا، ونعرف أبجديات ترتيب الأولويات السياسية وما هو
أساسي منها أو ما هو ثانوي في لحظة تاريخية محددة، كما نعرف المواقف الصحيحة
المستحقة علينا وعلى غيرنا في الساحة السياسية، ولهذا لا يتطلب منا توصيف النظام
ونقده تكرارا وإنما الوقوف موحدين لدحر أي غزو خارجي."
هذا الموقف الذي يحيل
الخلاف مع "النظام" إلى أولوية "ثانوية" تم شرحه في أكثر من
لقاء لقادة وأعضاء الحركة حتى تلخص أخيرا ولدى الكثير من الأعضاء في الحركة في
مقولة: "نحن نقف مع قوات الدفاع الارترية."
قبل أن نبدأ في
التفصيل نقر ونتفق مع الحركة في أن هناك وسط الارتريين من يحلم بدخول اسمرا على
ظهر دبابة الوياني؛ والأخطر منه هو ذلك يدعو إلى "زوال" ارتريا من
الخارطة، وهذا يستدعي ليس فقط الحذر، بل كذلك العمل، ولكن أي عمل؟
لو أن الحركة، وبسبب من الخطر
المهدد للوطن تقف مع قوات الدفاع الارترية كتأييد وتصفيق في الخارج فهذا شيء؛ إما
أن تقوم الحركة بإرسال كتائبها العسكرية "إن وجدت" للانخراط في صفوف
قوات الدفاع الارترية فهذا يحتمل أمرين:
الأول هو:
تلك المسافة
المستحيلة بين الحركة والحكومة في اسمرا وليس "النظام". فرأس الحكم في
ارتريا تقوم سلطته الاستبدادية على الحكم المركزي الناكر للحقوق؛ والحقوق الأساسية
بالذات، مثل حق الحياة وحق العمل وحق التنقل، ناهيك عن حق الحكم سواء كان فيدراليا
أو غيره. بينما الحركة الفيدرالية إن صح إيمانها وعملها بمبدأ الفيدرالية فهي تقوم
على فكرة احترام الحقوق وآخرها حق "حكم الذات" بما يتيح للمجموعات
العرقية والجغرافية والسياسية في المجتمع حكم نفسها تأمينا للعدالة الاجتماعية
والتساوي في الحقوق والتوزيع العادل للسلطة والثروة. ما يقوم عليه استبداد اسياس
افورقي وما تؤمن به الحركة لا يتيح مساحة لأي لقاء أو منطقة وسطي للعمل المشترك
بينهما مهما كانت الأخطار. فلا اسياس قادر على الإيمان بالحقوق ولا الحركة مستعدة
لقبول الحكم المركزي القهري الذي "أنشئت" أساسا من أجل مقاومته. يرفض
اسياس مبدأ الفيدرالية لأنه مبدأ مخالف لاستبداده وحكمه المركزي الغاشم؛ وهو يحارب
فكرة الفيدرالية في إثيوبيا على هذا الأساس، فهل يقبلها في ارتريا؟ بل هو مستعد
لمقاتلتها، إن استطاع في مهدها "الولايات المتحدة"، بل وفي نيجيريا إن
تسنى له ذلك. قد تؤمن الحركة الفيدرالية بقدرة سحرية على أقناع اسياس بفكرة حقوق
الناس وعلى رأسها حقهم في حكم أنفسهم؛ هذا إن استطاعت إقناعه، بحقهم في التنفس من
الأساس. فهنا ستجد الحركة نفسها مجبرة على خلع سترها أمام بابه والدخول على الرجل "ربي
كما خلقتني" وهذا ما لا نرضاه لها بعد نضالها وتكبدها سنوات المشاق.
هذا على مستوى
المبادئ، أما على مستوى الأفعال، فلو افترضنا أن الحركة وإيمانا صادقا منها وضعت
كتائبها تحت إمرة الرئيس اسياس افورقي وانخرطت وحداتها العسكرية في القوات التي
تتأمر بأمره فما يحدث في هذه الحالة؟
أولا وفي العرف
الدبلوماسي يعتبر رأس الحكم في البلاد سواء كان ملكا أو رئيسا أو سلطانا "رمزا
سياديا" ممثلا للبلاد، وارتريا ليست استثناءا شئنا ذلك أم أبينا. أي أنه رمز
السيادة الوطنية.
وفكرة الدفاع عن
السيادة في الوقت الراهن لا تعني فقط الدفاع عن تراب الوطن، بل عن رمزه الحاكم
وحكومته، وهذا واحد من أسباب اتهام اسياس نفسه لمجموعة الخمسة عشر بالخيانة لأنهم
طالبوه بالاستقالة بسبب سوء إدارة الحرب مع الوياني، وهو رفض ذلك بحجة أن استقالة "رأس
الدولة" هو إعلان لهزيمتها في تلك اللحظة. هذا الرمز السيادي الحاكم اليوم هو
وبتدبير قانوني وعرفي هو أيضا "القائد السيادي" لقوات الدفاع الارترية
وهي القوات التي تأتمر بأمره المباشر. إذن وضع قوات الحركة تحت إمرة الحاكم
السيادي والقائد العام لقوات الدفاع هو "مد" لشرعيته على الحركة
وبرامجها وكتائبها المقاتلة وأعضاءها كذلك، إذا هم كلهم دخلوا البلاد. خاصة وأن
الرئيس يمارس "صلاحية" مباشرة على الجيش والأمن. فهو مثلا لا يدير وزارة
الزارعة أو وزارة البيئة مباشرة، بل عبر وسطاء، ولكنه يدير الجيش والأمن من مكتبه.
وضع قواتك تحت إمرة الحاكم المستبد هو إقرار تام بشرعيته على المستوى العملي. عليه
كيف يتفق أنك تقاوم "النظام" ثم تضع نفسك تحت "شرعيته" وتصرفه؟
أخيرا، وحسب فهمنا
المتواضع "ويمكن تصحيحنا إن كنا مخطئين" أن تبني مبدأ الفيدرالية دون
سائر المبادئ معناه محاربة، ودون هوادة، كل من يسلب الحقوق الأساسية، على كل
المستويات، وأن ذلك لا يحتمل "أي مساحة وسطى" مع الاستبداد. وما يتبقى
هو إما أن تقتلع الغاصب الذي لا يؤمن بالحقوق، خاصة حق الحكم الفيدرالي الذي "تستميت
من أجل تحقيقه"، في هذه الحالة، أو التخلي عن المبدأ الذي تقوم عليه الحركة
أساسا وتحمل أسمه. وهذا ما دعانا للتساؤل ومشاركة الآخرين الحيرة.
الخلاصة: خصومة
الاستبداد والفيدرالية هي خصومة نفي: إذا حضر احدهما انتفى الآخر كليا؛ لأن
المستبد لا يؤمن بالحقوق؛ بينما الفيدرالي يؤسس فكرة حكمه عليها، خاصة الحق في حكم
الذات. فأين الخلل في هذه المقاربة؟
0 تعليقات