آخر الأخبار

الأصول العرقية للمصريين

 


 

 

د. وسام الدين محمد

 

كلما قلت (سلامي النفسي أهم)، أجد هم أكبر، قادر على إخراجي من عزلتي السلطانية الاختيارية، وحملي حملًا لغرفة مكتبي، يضعني امام لوحة مفاتيح الحاسوب، فأتمنع عن الكتابة، فتحدثني نفسي بقول الله تعالى «ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده»، وتقول لي أكتب وليكن ما يكون.

 

فليكن ما يجب.

 

والهم الذي حملني على الكتابة اليوم، زعم عجيب يَروجَ بين المصريين، عامتهم وخاصتهم، لا يستند من يدعو إليه إلى مستند من عقل أو دليل مادي ملموس، إنما مستنده الخطابة الفجة والبلاغة الركيكة، ودغدغة مشاعر البسطاء، إذ يروج البعض بكل حماسة أن هناك عرق متمايز ونقي اسمه العرق المصري، وهو زعم وإن كان ظاهره هزلي، إلا أن البعض يأخذه على محمل الجد على الرغم أنه لا يصمد أمام محاكمة العقل والمنطق والعلم والتاريخ.

 

أكاذيب يرفضها العقل

 

فعلماء التاريخ والأنثروبولوجيا المعاصرين، قامت لديهم الأدلة أن مصر كانت في مبتدأ تاريخها أقاليم عدة استغرقت زمنًا ثم أتحدت في إقليمين عظيمين، شغل أحدهم معظم دلتا النيل اليوم، أما الآخر فقد هيمن على صعيد مصر؛ وكان الغالب على الشماليين الصفات الجسدية القوقازية، وربما ربطت بينهم وبين سكان سوريا أصول مشتركة، بينما غلبت صفات الحاميين على الجنوب؛ وفيما بعد اندمج الإقليمين في بلد واحد، ولكن ليس في يوم وليلة كما قد يبدو في كتاب التاريخ المدرسي، ولكن خلال فترة قرنين من الصراع الدموي الرهيب بين الإقليمين، ويُعتقد أن قصة الصراع بين حورس وعمه ست في الأدب الفرعوني، هي قصة رمزية على الصراع بين هذين الإقليمين.

 

إذًا لم يكن هناك شعب واحد في البداية، ولكن كان هناك شعبين جارين، حملت ظروف البيئة أن يكون كل شعب يعيش في دائرة التوسع البيئي الطبيعي للشعب الآخر، وهم ما أدى إلى صدام أنتهى بالاندماج.

 

وكيف يزعم عاقل أن هناك عرق ظل نقي على مدى التاريخ؟ ألا يفترض بمثل هذا الشعب أن يعيش في عزلة جغرافية عمن حوله؟ ولعل هذا الأمر يصدق على بعض الشعوب، فقد وجد علماء الأنثروبولوجي قبائل تعيش في عزلة في أدغال الأمازون، ولكنه لا يمكن أبدًا أن يصدق على بلد مثل مصر، فلا الجغرافية ولا التاريخ يمكن أن يدعم هذه العزلة. ألم يكن الدرس الأول في كتاب الجغرافيا المدرسية أن مصر في قلب الخارطة؟ ألا يعني هذا أن أي حركة بشرية كبيرة كان لابد لها أن تمر عبر هذا القلب؟ فكيف تتحقق العزلة التي هي شرط نقاء العرق؟

 

يخبرنا القرآن والإنجيل والتوراة عن شعوب سامية هاجرت وعاشت في مصر.

تخبرنا الأدبيات المصرية القديمة عن هجرات عظيمة جاءت من الصحراء واستوطنوا الدلتا، وأسند إليهم مانتيون مؤرخ مصر القديمة الأسرتين الرابعة عشر والخامسة عشر.

 

وتخبرنا نفس هذه الأدبيات عن ملوك تزوجوا من أجنبيات، وضباط في الجيش في سوريا تزوجوا من سوريات وعادوا بزوجاتهم إلى مصر.

 

وحكمت مصر في هذا العصر البعيد أسرات نوبية وأخرى ليبية.
ثم جاء عصر اليونان، ووجدنا اليونان يأتون إلى مصر، تجارًا وسياحًا وجنودًا مرتزقة، بل يبنوا مستوطنات لهم في جميع أرجاء مصر.

 

وفي عصر البطالمة، أصحبت الإسكندرية أول مدينة كونية في التاريخ، وإليها أوت شعوب مختلفة، حتى وجد علماء الآثار بين مقابرها القديمة، قبور تحمل أسماء بابلية وهندية وفارسية إلى جانب أخرى تحمل أسماء يونانية وفينيقية.

 

وبعد الفتح الإسلامي، هاجرت قبائل عربية وأقامت في مصر، ثم هاجرت قبائل أخرى من البربر أو الأمازيغ، وهاجر إليها المبعدين أو الفارين من الأندلس، وهاجرت إليها أسر تركية وكردية وجركسية، ومن أمم شتى.

 

وفي العصر الحديث، كانت مصر مأوى للعديد من الأعراق، التي هاجرت إليها فرادى وجماعات، منها من استقرت فيها، ومنها من بقي فترة ثم نزح عنها. في مطلع القرن العشرين، كان نصف عدد سكان المدن الكبرى في مصر مثل القاهرة والإسكندرية من الايطاليين واليونان والأرمن واليهود.

 

أيعقل أن تتجاور هذه الشعوب والأعراق، كل هذه القرون الطويلة، ولا تختلط وتتثاقف؟

 

في بلدان أخرى، كانت الجغرافيا عاملًا في تمايز المكونات العرقية والثقافية عن بعضها البعض في البلد الواحد، ولكن جغرافيا مصر السهلة لم تسمح بأن يكون هناك منعزل جغرافي في صورة إقليم جبلي منيع أو شبه جزيرة واسعة، تنعزل فيه عرقية أو ثقافة، فالمساحة المعمورة الضيقة في مصر، أجبرت جميع سكانها على التجاور، وفي ظل هذه الظروف امتزجت جميع المركبات، وظلت في حالة من التغير المستمر بفعل استمرار تدفق المؤثرات.
ولهذا السبب سوف يكون من المدهش لو استعرضت عدد من أسماء المعاصرين وأصولهم العرقية.

 

كان الفريق عزيز باشا (المصري) والفريق محمد فوزي وآل أباظة ومنهم الأديب فكري أباظة والممثل رشدي أباظة ... جراكسة.

 

كان أمير الشعراء أحمد شوقي وعباس محمود العقاد والعائلة التيمورية وآل وانلي والممثلة سعاد حسني ... أكرادًا.

 

كان الشيخ محمد عبده ومحمد فريد والمنفلوطي ويحي حقي وآل يكن ... تركمانًا.

 

كان فنان الإسكندرية عصمت داوستشي والممثل أحمد مظهر ألبانًا.

 

كان الريحاني عراقيًا وأنور وجدي حلبيًا ويوسف وهبي من أصول مغربية.

 

قبيلة هوارة الصعيدية هاجرت من شمال أفريقيا، بينما هاجر تنحدر قبيلة الجعافرة الصعيدية من قريش، وسميت مدينة بني عدي باسم عشيرة عمر بن الخطاب التي اتخذتها منزلًا لها في أسيوط.

 

كان لدي في مدينتي الإسكندرية في طفولتي جيران من لبنان وسوريا واليونان وإيطاليا والأرمن.

 

انحدرت أسرة صديقي كيلاني من العراق.

 

أما مصطفى عزت زميلي في الثانوية فكان أحمر الشعر أزرق العينين كأنه غادر قارب أجداده من الفايكنج توًا.

 

أما محمود سامي بملامحه وبشرته الداكنة فقد جاء جده الأكبر من غانا للدراسة في الأزهر، واستقر في مصر وتزوج من بناتها.

 

فلا العزلة الجغرافية تحققت، ولا هي ممكنة أصلًا، فكيف تخدعون الناس بهذه العرقية النقية؟

 

أتدري ما الذي ينجم عن انعزال شعب جغرافيًا عن محيطه، لا يضمر حضاريًا ويظل قبيلة بدائية مثل تلك القبائل التي عثر عليها الأنثروبولوجيون في الأمازون فحسب، ولكن تتركز في موروثاته الصفات السلبية حتى تفشى فيه الأمراض والإعاقات، فالعزلة الجغرافية لا تنتج شعبًا مميزًا ولكن تنتج شعبًا متخلفًا حضاريًا وعليلً.

 

الطائفية في زي الوطنية

 

وليس أكثر تهافتًا من زعم الشعب المصري النقي العرق، إلا مزعم من قال إن أقباط مصر هم سكان مصر الأصليين، وهي دعوى تستخدم لاستغلال الأقباط وقودًا في صراع طائفي لن يستفيد من أقباط ولا مسلمين ولا عاقل أيًا كانت عقيدته. فإذا كان سكان مصر في زمن بعثة السيد المسيح عليه السلام، خليط متجاور من شعوب مختلفة، فأين كان السكان الأصليين المزعومين، ولماذا نعتبر الأقباط، وهم سكان مصر الذين اعتنقوا المسيحية في هذا العصر، شعبًا مصر الأصلي الذي لم يمتزج دمه بدماء اليونان أو العبرانيين مثلًا؟

 

ألم يمكن مرقص البشير الذي تنتسب إليه الكنيسة القبطية عبرانيًا ولد في ليبيا؟ وكذلك كان تلميذه وخليفته حنانيا عبرانيًا من يهود الإسكندرية؟ وإذا تجاهلنا حقيقة أن مرقص نشر دعوته في أوساط يهود الإسكندرية أساسًا، وأن أكثر من تحولوا للمسيحية على يد مرقص كانوا من هؤلاء، فماذا عن اليونان والرومان الذين سكنوا مصر؟ ألم تكن سانت كاترين ابنة للحاكم الروماني على مصر؟ كم عبراني ويوناني وروماني آخر تحولوا إلى المسيحية في مصر، وهم اليوم أجداد لأقباط مصر؟ فكيف تحدثني عن الشعب الأصلي تحاول أن تستدعي في وجدان من يستمع لك مأسي إبادة الشعوب الأصلية على يد الغزاة في سياق تاريخي آخر، بينما الحقيقة التاريخية المثبتة في كتب التاريخ القبطي، أنه لولا من تحرض ضدهم زاعمًا أنهم غزاة، لما نال أقباط مصر حريتهم، وظلوا أسرى لنزوات وغطرسة أباطرة القسطنطينية.

 

حتى لا نكرر الخيبة

 

ولست أدري، أعقمت السفاهة في بلادنا عن إبداع جديد فلجأت إلى عقيدة الجنس النقي السيد، تلك العقيدة الإجرامية التي صنعتها وتبنتها قوى الطاغوت الغربية، فزعمت أن الشعوب الأوروبية أرقى من الشعوب الأخرى، وبذلك شرعوا لأنفسهم وأقنعوا شعوبهم بحقهم في غزو الأمم الأخرى واستعبادها وإبادتها إن لزم الأمر من أجل مصلحة الشعب السيد، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ويخرج المجرم الأكبر هتلر بعقيدة الجنس الآري النقي، ويذبح باسم شعبه الأرقى كل من خيل لهوسه أنهم دونه، يهود وغجر وسلافيين، لينتهي أمره وقد خُربت بلاده ووطئتها أقدام كل عدو لها يذيقها وشعبها الذل والهوان.

 

ويرى السفهاء أن نشر الشوفينية -التعصب الوطني – بين الناس درب من دروب الوطنية، وأراها باب كل خيبة، فهؤلاء المهووسون بالأمجاد الوطنية، المحبوسون في التاريخ، منتهى أمانيهم التغني بأمجاد الأجداد، ولو عرف الأجداد بحالهم لتبرأوا منهم؛ إنما صنع هؤلاء الأجداد أمجادهم يوم أن أدركوا أن هناك تحد يجب مواجهته عن حق، فقدروا قوتهم ودبروا أمرهم وتحركوا عن خطة وسعي مدروس، فنالوا المجد؛ أم حسبت أن الصليبيين وقد أحدقوا بالقاهرة صدهم عنها أهل القاهرة بالأغاني الوطنية، أو أن أحفادهم وقد فر العبيد المماليك من المعركة قد لقوا عسكر نابليون بأحاديث بطولات الجدود في حطين والمنصورة.

 

وإذا كانت أزمة مصر الجيوسياسية كما لخصها أحد المفكرين بأنها الصراع بين المكانة والإمكانية، فإنه من الجنون أن نرسخ في ضمائر الناس إمكانات لم نحوزها، ونضخم حجم هذه الإمكانات، فإذا انكشفت الإمكانات الحقيقية ذات يوم في صراع غير متوقع، أعقبتها ردة جماعية عن هذا التعصب المعتوه، ومثال ذلك الردة الكبرى عن القومية العربية بعد حرب 1967، بعد أكثر من عقد ونصف عقد من الترويج لوحدة (ما يغلبها غلاب) كما كانت الأغاني (الوطنية) تقول.

 

المصريون، شعب مثل كل شعوب العالم، يجب يحيا حياة كريمة، أي أن ينال حقه العادل والكريم من المطعم والمشرب والمأوى والعلاج والتعليم، ولن يكون بإمكان هذا الشعب أن يحصل على هذا الحياة الكريمة، إلا إذا عرف نقاط ضعفه وقوته في تلك اللحظة من التاريخ، وحدد أهدافًا واقعية لسعيه، ثم أقدم على سعيه اقدام مدروس؛ أما إذا استمر يتغنى بالمجد الذي كان، فقل عليه السلام.


والله من وراء القصد.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات