نصر القفاص
فرض "القطاع
العام" نفسه على "الجمهورية الأولى" بعد فشل كل محاولاتها الرهان
على الرأسمالية المصرية بقدر فشلها فى إرضاء "المستثمر الأجنبى" لأن
كليهما يربطه بالوطن والمجتمع ذلك القابع فى "البيت الأبيض" والذين ينفذون
أوامره.. وإذا قال لك "خبراء الغبرة" أن هذه رؤية تعتمد على تبسيط لا
يجوز الاستناد إليه..
سأدعوك إلى عودة
للزمن والحقائق, لكى تفصل بين رؤيتهم "الإستراتيجية الأمريكية" وبين
رؤيتى التى أعتقد فى أنها "وطنية مصرية"!!
تعاقبت القوانين التى
صدرت عن مجلس قيادة الثورة, لتحريض أصحاب رؤوس الأموال من المصريين والأجانب على
المشاركة فى تنمية البلاد.. وإذا كان أولها قد صدر بعد ساعات من تحرك الضباط
وتمكنهم من السلطة.. فقد استجاب مجلس قيادة الثورة لنصائح الخبراء فى كل ما طرحوه
لتبديد مخاوف "المستثمرين" وكان أهمها القانون رقم 493 لسنة 1953 – 17 أكتوبر
– بإنشاء المجلس الدائم للخدمات.. كان هدفه الربط بين برامج الرعاية الاجتماعية
والتنمية الاقتصادية.. ثم كان "تأميم قناة السويس" والمعركة التى اندلعت
بسببه.. وطوال هذا الوقت اقتصر نشاط أثرياء هذا الزمان على قطاع العقارات, والتفنن
فى عمليات تهريب الأموال للخارج.. فكان أن اتجه "جمال عبد الناصر" الذى
تولى رئاسة الجمهورية لإصدار القانون رقم 20 يوم 13 يناير عام 1957, وكان هذا
القانون يقضى بإنشاء المؤسسة الاقتصادية.. تحدد لها أهداف يأتي على رأسها: تنمية
الاقتصاد القومي بدفع النشاط الصناعي والزراعي والمالي والتجاري.. وتقوم المؤسسة
بوضع سياسة الاستثمار, وأن تتولى نيابة عن الحكومة الإشراف على المؤسسات العامة.
هنا يجب أن نتوقف
لنذكر أنه تم إنشاء وزارة الصناعة عام 1956, لتنفيذ برنامج التصنيع الذى استغرق
شهورا طويلة لدراسة أهميته وجدواه الاقتصادية والاجتماعية.. خاصة وأن العلاقات مع "الاتحاد
السوفيتي" كانت قد تطورت إيجابيا بعد صفقة الأسلحة التشيكية..
فجاء عرض "موسكو"
بتمويل عملية بناء السد العالي, وكذلك تمويل برنامج التصنيع الوطنى.. واكب ذلك
امتناع كبار رجال المال والأعمال عن دفع الضرائب المستحقة عليهم.. ولما كان "أحمد
عبود باشا" قد تصدر هؤلاء لممارسة الضغط على الحكومة.. فقد جاءه الرد بفرض
الحراسة على اثنتين من شركاته هما: شركة السكر وشركة التقطير.. ثم تقرر دمجهما فى
شركة واحدة امتلكت الحكومة نصف رأسمالها فقط وفاء للضرائب التى تراكمت عليه.. أرتفع
صوت الصراخ داخليا وخارجيا ضد الحكومة والنظام الذى قالوا أنه يعادى أصحاب رؤوس
الأموال.. ومضى "البنك الأهلى" وكان يتولى القيام بدور البنك المركزى فى
ركبهم.. قرر الامتناع عن تمويل عمليات تصدير القطن.. ليرد صانع القرار – الرئيس – وحكومته
بقرارات تمصير البنوك وشركات التأمين.. وكانت كلها فى يد الأجانب ورجال المال
الذين ناصبوا الثورة العداء, وراحوا يجاهرون بذلك بعمليات أقرب إلى التمرد أو
العصيان لاختبار قدرة وإرادة الذين يحكمون!!
كانت الصورة قد أصبحت
شديدة الوضوح.. وكانت الثورة قد اشتد عودها.. وكان زعيمها وقائدها قد أثبت قدرته
على انتزاع حقوق هذا الوطن, بعد تحقيق الاستقلال من يد مستعمرين أحكموا قبضتهم على
رقبة مجتمع ودولة لأكثر من خمسة قرون.. ردا على ذلك أعلنت وزارة الصناعة برنامج
تصنيع بتكلفة 255 مليون جنيه – الجنيه كان يعادل أكثر من ثلاثة دولارات – وتم
الإعلان عن إنشاء لجنة للتخطيط القومى بموجب قرار رقم 78 لسنة 1953.
راجع "عبد الناصر" التقارير
والدراسات العلمية.. أعاد دراسة نتائج تجربة طويلة مع المستثمرين, الذين لا يريدون
غير جنى الأرباح السريعة ونزحها إلى الخارج.. قرر تنفيذ رؤيته الوطنية, التى تبحث
عن تصنيع مصر.. فقد كان الإنتاج الصناعي عام 1952 يصل إجمالية إلى 92,9 مليون جنيه..
وصل إلى 123,3 مليون جنيه فى عام 1957.. والرقم يؤكد أن الاتجاه إلى التصنيع بهذه
المعدلات سيكون بسرعة "السلحفاة" فى ظل تزايد سكانى مع ارتفاع سقف
الأمال المعلقة على الثورة.. وكشف ذلك تصريحات رسمية أدلى بها الدكتور "سعد
زكى" رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي أوضح فيها أن أصحاب رؤوس الأموال يستثمرون
فى العقارات 28,5 مليون جنيه عام 1955, مقابل 7,7 مليون جنيه فقط فى الصناعة!!
قبل أن تدور رأسك
وتنظر حولك لتفسر سر عودة "الإقطاع العقارى"!!
تلك حقيقة ظهور حتمية
بناء "قطاع عام" يمثل قاطرة للتنمية.. صدرت قرارات بقوانين يوم 15 يناير
عام 1957, أخذت أرقام: 22, و23, و24.. وكلها كانت لتمصير البنوك وشركات التأمين..
وتقرر أن تستحوذ
البنوك المصرية على البنوك الأجنبية.. فاستحوذ بنك الإسكندرية على بنك "باركليز"
– تم بيع بنك الإسكندرية وعاد بنك باركليز فى زمن الجمهورية الثانية – واستحوذ بنك
الجمهورية على البنك العثمانى والبنك اليونانى!! واستحوذ بنك القاهرة على ثلاثة
بنوك هى "كريدى ليونيه" و"كونتوار ناسيونال دى اسكونت" و"باريس"..
واستحوذ بنك التسليف على بنك "التسليف والرهونات الزراعى".. واستحوذ بنك
الاتحاد التجاري على "اورينتال كرديت"!!.. وكانت فى مصر 200 شركة تأمين –
مائتى شركة – بينها 13 فقط مصرية.. وبين هذه الشركات كانت فروع لشركات أجنبية فى
الخارج.. فتقرر إنشاء ثلاث شركات مصرية لشراء ممتلكات تلك الشركات الانجليزية
والفرنسية, والتى كانت تجنى أرباحا خيالية تذهب كلها إلى شرايين الاقتصاد الانجليزي
والفرنسى.. فتم إعلان قيام "المتحدة للتأمين" و"الجمهورية للتأمين"
و"التأمين الإفريقية"!!
قبل أن تراجع قائمة
البنوك الأجنبية التى تكاثرت فى "زمن الجمهورية الثانية"!!
يجب أن نعلم أن هذا
منهج هدفه الذى يعلنونه أنهم يريدون "تحرير الاقتصاد".. أما الهدف
الحقيقى فلا يحتمل شكا فى أنه يرهن إرادة واستقلال الوطن.. وأصبح واضحا من خلال
أرقام الديون التى ترتفع يوما بعد الآخر.. وإذا كانت الديون قد أخذت فى الارتفاع, بمجرد
الشروع فى تنفيذ ما يسمونه "تحرير الاقتصاد" فقد اتجهت إلى القفزات بعد
التخلص من معظم شركات القطاع العام.. وستكون النهاية التى لا مفر منها, وسبق أن
سقطت فيها مصر حتى احتلها الانجليز!!
يحدثونك عن "التنمية
المستدامة" وهى فى حقيقتها "تنمية مستدانة"!!
كل هذا وغيره حدث بعد
طى صفحات "الجمهورية الأولى"!!
كل هذا حدث على خلفية
حملات لا تتوقف لإقناعك بأن "ثورة 23 يوليو 1952" كانت وبالا على مصر, وكانت
سبب خرابها..
ووصلنا إلى الصفحات
الأخيرة التى تتمثل فى فصل "المدنى" و"العسكرى" وصولا إلى
الأهم والأخطر تجاه "الجيش المصرى" الذى كان – وسيبقى – هدفا لأولئك
الذين يرون فى مصر "الجائزة الكبرى" وهم على حق!! وكم هو مذهل.. بل يكاد
يصيبك بالجنون أنه يوجد بيننا من لا يريد أن يسمع أو يفهم.. لمجرد أنهم أعداء فعل "إقرأ"
ويسيرون فى "طريق الندامة" بخطوات تبدو واثقة!!
إعتمدوا خلالها على
رشق "ثورة يوليو" بما يمكن قبوله من انتقادات.. وما لا يمكن قبوله
بنكران إنجازاتها الكثيرة والمهمة والعظيمة.. ويحدث ذلك لاغتيال زعيمها وقائدها.. وكان
الوحيد الذى رحل نائما على سريره مطمئنا, وبكته أمته وشعوب العالم الثالث بقدر ما
بكاه شعبه.. وكل الذين حكموا بعده رحلوا تشيعهم اللعنات بنهايات تراجيدية!!
يمكننا القول أن
خطوات بناء الاقتصاد المصرى, إكتملت بإعلان إنشاء أول وزارة للتخطيط فى مصر يوم 17
أغسطس عام 1961.. وكان أول وزير – يجب أن نذكره – هو "أحمد على فرج" ومعه
الدكتور "إبراهيم حلمى عبد الرحمن" كنائب للوزير.. ثم أصبح رئيسا لمعهد
التخطيط القومى فى 30 سبتمبر عام 1962.. لينطلق الاقتصاد المصرى إلى آفاق مختلفة, ذكرها
تقرير البنك الدولى بعد رحيل "عبد الناصر" بست سنوات.. وهو التقرير الذى
يشارك فى التعتيم عليه "خبراء الغبرة" من أولئك الذين يسبق أسماءهم وصف "استراتيجي"..
وتعاظمت ثرواتهم ثمنا لخدمة مشروع قامت عليه "الجمهورية الثانية" وكلهم
تخرجوا من جامعات ومعاهد أمريكية وغربية.. ولكل منهم راع يحرص على وجوده فى دواليب
الدولة كنائب أو وزير أو رئيس مجلس إدارة لهيئة أو مؤسسة يستهدفون تصفيتها فى إطار
ما قالوا عنه "خصخصة" ثم أصبح "تخارج" لتفادى العار الذى
يلاحق كل الذين شاركوا فى "زفة الخصخصة"!!
هنا يجب أن نسأل أنفسنا.. ماهو
الأساس الذى قام عليه "القطاع العام"؟!
الإجابة البسيطة تؤكد
أن هذا "القطاع العام".. كان إعادة إحياء لمشروعات "طلعت حرب"
التى تعرضت للتخريب والبيع بعد رحيله وخلال سنوات سبقت قيام "ثروة 23 يوليو"
والتى اعتزت باسم "مصر" فى كل منها.. لذلك أطلقت عليه الثورة "مجمع
مصر" لأنه قام بإرادة وعقول تولت "بنك مصر" وأسماؤهم – أيضا – تستحق
أن نذكرها, وتستحق أن ننحنى لهم تقديرا واحتراما.. وهم: "محمد رشدى" و"محمد
العتال" و"أحمد فؤاد" وثلاثتهم أودعت فيهم الثورة ثقتها, وقدموا ما
يتجاوز الخيال فى ظروف شديدة الصعوبة ووسط تحديات يعجز العقل عن مواجهتها.. وكان "مجمع
مصر" وهو الأساس الذى قام عليه "القطاع العام" يضم 27 شركة.. بينها
"مطبعة مصر" التى تأسست عام 1922.. وشركة "مصر لصناعة الورق" التى
تأسست عام 1924 وتم تصفيتها عام 1927 فأعادت الثورة إحياءها.. وشركة "مصر
لحلج الأقطان" التى تأسست عام 1924.. وشركة "مصر للملاحة والمواصلات"
وكانت قد تأسست عام 1925.. وشركة "مصر للسينما والمسرح" التى تأسست عام 1925..
وشركة "مصر لمصائد الأسماك" التى تأسست عام 1927.. وشركة "مصر
للكتان" التى تأسست عام 1927 وتمت تصفيتها ثم أعادت الثورة إحياءها.. وشركة "مصر
للحرير" بحلوان التى تأسست عام 1927.. وشركة "مصر للغزل والنسيج" فى
المحلة الكبرى وتأسست عام 1927.. وشركة "مصر لتصدير القطن" والتى تأسست
عام 1929.. وشركة "مصر
للطيران" التى تأسست عام 1932.. وشركة "مصر للتأمين" وتأسست عام 1934..
وشركة "مصر للملاحة" وتأسست عام 1934.. وشركة "مصر للسياحة" وتأسست
عام 1934.. وشركة "مصر للتبغ والسجائر" وتأسست عام 1936 وتمت تصفيتها
عام 1940 فأعادت الثورة إحياءها.. وشركة "مصر للغزل والنسيج" فى كفر
الدوار وتأسست عام 1937.. وشركة "البيضا للصباغة" التى تأسست عام 1937..
وشركة "مصر للزيوت النباتية" التى تأسست عام 1938.. وشركة "مصر
للدباغة" وتأسست عام 1938 وتمت تصفيتها عام 1940 فأعادت الثورة إحياءها.. وشركة
"مصر للمناجم" التى تأسست عام 1939.. وشركة "مصر لبيع المصنوعات
المصرية" وتأسست عام 1940.. وشركة "مصر للمنتجات الصيدلية" التى
تأسست عام 1940.. وشركة "مصر للحرير الصناعى" وتأسست عام 1946.. وشركة "مصر
للتجارة الخارجية" وتأسست عام 1953.. وشركة "مصر للتجارة الداخلية"
وتأسست عام 1953.. وشركة "مصر للفنادق" التى تأسست عام 1954.. وشركة "مصر
للمنتجات الغذائية والألبان" وتأسست عام 1954.. وشركة "مصر للمنتجات
الكيميائية" التى تأسست عام 1957.
قام "القطاع
العام" إذن على قاعدة أسسها وبناها "طلعت حرب"!
أحيت الثورة شركات
كانت قد تمت تصفيتها!
أضافت شركات جديدة
باسم "مصر" نفسه لتأكيد الاستمرار بعد شهور من نجاحها!
هناك قائمة أخرى
طويلة من شركات وقلاع صناعية جديدة أضيفت, بينها "الحديد والصلب" الذى
عشنا لنتابع تصفيته فى لحظة حالكة السواد.. و"كيما" اسوان.. و"أبو
قير للأسمدة" وتم بيعها وسط حالة ذهول.. غير "عمر افتدى" الذى تم
فضح عملية تصفيته عبر وطنى مصرى من أبناء "القوات المسلحة" ليدفع ثمنا
باهظا فيما بعد واسمه "يحيى حسين عبد الهادى" إضافة إلى العشرات من
الذين يقاتلون دفاعا عن وطن ومجتمع لم ينقذه ما حدث فى "25 يناير" ويسميه
الدستور "ثورة".. ولا ما حدث فى "30 يونيو" ويسميه الدستور "ثورة"..
لأننا وصلنا إلى ما قبل نهاية "الجمهورية الثانية" التى تنظر للدستور
على أنه "فلكلور"!!..
يتبع
0 تعليقات