آخر الأخبار

الجمهورية الثالثة!! طربوش ديمقراطى (29)

  





نصر القفاص

 

 

اعتقدت "الجمهورية الأولى" فى أن الثقافة هى الأجنحة, التى تجعل المجتمع قادرا على الطيران.. بقدر اعتقادها فى أن الصناعة والزراعة هما ساقاه اللتان تحملانه ويمشى بهما.. واعتقدت أن التعليم هو القلب الذى يضخ دماء العلم فى شرايينه.. كما اعتقدت فى أن الصحة تاج على رأس وطن يعيش على أرضه أصحاء.. وإذا كانت الثقافة أولا.. فهى أخيرا.. لأنها تعطى المعرفة للناس, بما يساوى "الأوكسجين" الذى لا يعيش بغيره إنسان!!

 

كانت "الجمهورية الثانية" تؤمن – ومازالت – بأن الثقافة هى الترفيه والترويح.. وأنها نوع من المخدرات مسموح بأن تتعاطاه الشعوب.. لذلك أصبحت "أفلام المقاولات" هى السينما.. كما أصبح "المسرح السياحى" فرصة لكسب "لقمة العيش" على حساب الباحثين عن اللهو من أهل الخليج.. وطبيعى أن تصبح الأغنية وسيلة من وسائل "الردح" عندما أصبحت أغنية "والنبى لنكيد العزال" – وكانت أغنية فى فيلم شهير – هى المفضلة عند "الرئيس المؤسس" فى المناسبات التى يحضرها بعد "كامب ديفيد".. فقد حرص فى كل مناسبة يكون فيها عمل فنى فى حضوره على دعوة الفنان الكبير محرم فؤاد ليغنى و"النبى لنكيد العزال".. إضافة إلى حفاوة غير مسبوقة بالرقص الشرقى.. ليس لأنه فن مصرى, بل لأن "صديقة كيسنجر" كان يحب مشاهدة "سهير زكى" و"نجوى فؤاد" قبل فتح الطريق للراقصة "فيفى عبده" التى أخذتها النشوة, فقالت أنها من "ميت أبو الكوم" فى البرنامج التليفزيوني الشهير "النادي الدولي".. ودفع "سمير صبرى" الثمن بإيقاف البرنامج.. ثم دفع "عبد المنعم الصاوى" وزير الإعلام ثمنا فادحا, لمجرد تخيله أن كلامها يمكن أن يسىء للرئيس.. وتحدث عن ذلك باندهاشه لدعوتها بعدها لزفاف عائلى – رئاسي – بفندق "مينا هاوس" وهذا ليس تربص بقدر ما أعتبره إشارات.. فكلنا يعلم أن "صوت العرب" تم نبذها لصالح "الشرق الأوسط" التى كانت تدعوك إلى: "غمض عينك وامشي بخفة ودلع.. الدنيا هى الشابة وأنت الجدع" رغم أنها كلمات "صلاح جاهين" الذى ألهب حماس الأمة العربية وجمعها حول "عبد الناصر" قبل أن يتجه إلى كتابة هذا اللون.. وانقلب التليفزيون إلى "جهاز العجايب" الذى يرى فيه بطل الحرب والسلام نفسه وإنجازاته!! ثم ضاع الكتاب مع تخطيط لقتل الصحافة ببطء!!

 

سخرية القدر أن "الترفيه" أصبح له وزير فى السعودية!!

 

كان "ثروت عكاشة" عنوان الثقافة فى "الجمهورية الأولى" وتعددت عناوينها فى زمن "الجمهورية الثانية" لتضم "عبد الحميد رضوان" وصولا إلى "عازفة الفلوت" التى حولت بيوت وقصور الثقافة إلى قاعات حفلات يجب تسديد رسوم مقابل استغلالها.. وهذا طبيعى بعد أن انطفأ المسرح, وتكاثرت قنوات التليفزيون – الفضائية – التى تشهد حركة تنقلات بين هذه وتلك بقوة "جهاز سامسونج" العجيب!!

 

تلك هى رؤيتى.. صياغتها حصيلة قراءة وتدقيق ومراجعة للتاريخ.. ليست لحظة انبهار كما تلك التى يسبق اسمها "دكتورة" وجعلوها "نائب فى مجلس النواب" لمجرد أنها جعلت من نفسها – أو جعلوها - "ماكينة سباب" لثورة 23 يوليو وزعيمها وقائدها.. وأصبحت نموذجا "للنباطشى" الذى يحدثك عن "الولد الذى حكم مصر" واسمه "فاروق" باعتباره كان يسكن قصورا فخمة.. دون أن تتوقف عند دور "بوللى" فى حياته ومع أبوه – فؤاد – وليست رؤيتى فرصة لكسب أموال كما فعل الذى قدم نفسه على أنه "ناصرى" ثم أصبح "خادما" فى بلاط "الثرثار باشا" مع "خدامين" الساسة الذين قدمتهم لنا تجارة الحديد والسيراميك!!

 

حالة الثقافة فى زمن "الجمهورية الأولى" تناولها "إريك رولو" على صفحات كتابه "فى كواليس الشرق الأوسط" والتى يروى خلالها ما كانت تفعله جريدته – لوموند الفرنسية – ضد "عبد الناصر" فيقول: "كانت جريدتى مع صحف الغرب لا تتوقف عن شيطنته.. تطلق عليه ديكتاتور القاهرة.. تشبهه بكل من هتلر وستالين.. تتهمه بأنه فاشى وشيوعى وعميل للكرملين"!! وهذا ليس مهما.. لأن الأهم هو الصورة التى رسمها لحالة مصر التى تجمع كافة المثقفين العرب.. يحدثنا عن كافيتيريا "نايت أند داى" بفندق "سميراميس" على ضفاف النيل, والذى كان مفتوحا ليل ونهارا, فيقول: "كان ملتقى اللاجئين السياسيين العرب, ممن كانوا أو سيصبحون من فئة الحكام العرب.. كانوا يخالطون المفكرين المصريين من كافة الاتجاهات بلا تمييز.. إرتدت اللقاءات.. كنت أشارك فى النقاشات حتى ساعات متأخرة من الليل.. تلك الجلسات يجد فيها الصحفى مبتغاه, ليتعرف إلى ما يدور فى المنطقة العربية.. بينهم كنت تجد فؤاد الركابى المنشق عن حزب البعث وكان وزيرا فى الثلاثينات من عمره, وقد حرص عبد الناصر على إحاطته بمودته لدرجة أن شهد على عقد زواجه.. وكذلك سعيد العطار الذى كان يدافع عن قضية بلاده – اليمن – وتقلد مناصب وزارية عديدة فيما بعد.. وكان يجلس معهما عبد الله الريماوى أستاذ الرياضيات والفيزياء, والنائب السابق فى البرلمان الأردني.. وكان يجاهر برفضه لنظام سياسى يعتمد على الحزب الواحد.. ويعلن اختلاف مع عبد الناصر فى إمكانية حل قضية فلسطين سلما !!.. وكان يجلس اللواء على أبو نوار الهارب من الأردن خشية بطش الملك.. يحب إعلان إيمانه بالفاشية ورفضه للشيوعية.. ويجالسهم جلال طالبانى – أصبح رئيسا للعراق فيما بعد – الذى يعتبر أن أغلى قسم عنده.. وحياة جمال عبد الناصر.. مع إيمانه بأن أمريكا هى حامى أكراد العراق!! وكان صلاح جاهين الشاعر والفنان ونجم الأهرام يشع بهجة فى الحضور, بإطلاق النكات الساخرة بحذر من رموز النظام!! وتضم الجلسة إبراهيم طوبال الباحث عن أمل يطيح بنظام الحبيب بورقيبة كما تضم زعيم المعارضة المغربية المهدى بن بركة ومعه الأخضر الإبراهيمي سفير الجزائر فى القاهرة بعد تحريرها.. ثم يحضر لطفى الخولى وآخرين من كبار المثقفين والمفكرين"!!

 

المشهد نفسه كان قائما ومتكررا فى كل مكان فى القاهرة!!

 

كانت قهوة "عبد الله" فى "الجيزة" منتدى يضم "محمود السعدنى" و"زكريا الحجاوى" و"عبد الرحمن الخميسى".. بينما "نجيب محفوظ" وحوارييه تجمعهم "ريش" وتمتد الجلسات فى الإسكندرية بمقهى "دى لابيه" وفى بار "الشيخ على"!! مرورا بما كانت تشهده مقاهى دمنهور والمنصورة حتى المنيا وأسيوط.. وطن بأكمله لا يكف عن القراءة ولا الكلام.. يستمتع ويتعلم من المسرح والسينما والكتاب.. مستحيل أن تفوته قراءة الصحيفة, وأذنه طوال الوقت على الإذاعة.. فى هذا الزمان تستطيع أن تشم "رائحة الأهرام" التى تختلف عن "رائحة الأخبار" وكليهما لا علاقة له برائحة "الجمهورية" وكانت المجلات تفوح منها عطور متباينة من الفكر والثقافة.. بداية من "المصور" مرورا "بروز اليوسف" و"صباح الخير".. فقد كانت "القاهرة تؤلف" بينما "بيروت تطبع" لكى "تقرأ بغداد" كما كانوا يقولون!!

 

هذه حالة مستحيل أن تكون ناتج ديكتاتورية!!

 

إذا صدقنا هذه "الخرافة" فلنا أن نسأل.. ماذا أنتجت أو قدمت "ديمقراطية الجمهورية الثانية" بكل حكامها المتعاقبين.. وجعلتنا فى ذهول من أمر "أراجوزات التنوير" الذين يلمعون كالسيراميك.. أو يتألقون بضغطة "زر سامسونج" ودعم "الثرثار باشا" الذى يرى "حمو بيكا" مبدعا يستحق الدفاع عن حريته.. ويعتبر أن السينما لا تختلف عن حفلات عرض الأزياء!!

 

يأخذنا الدكتور "أنور عبد الملك" لرؤية أخرى.. رصينة علمية.. للحالة نفسها.. يحدثنا عن القاهرة التى تناقش وتفكر فيما حدث لها وحولها على مدى قرن مضى.. فالجميع يناقش فكرة القومية الإسلامية عند "جمال الدين الأفغانى".. يتوقفون أمام أفكار "رفاعة الطهطاوى" الإصلاحية مع ما حمله مجددا "محمد عبده".. مرورا بدور "عبد الله النديم" و"مصطفى كامل" و"أحمد لطفى السيد" و"سعد زغلول".. ثم يضع خطوطا تحت أفكار "طه حسين" و"محمد حسنين هيكل" و"سلامة موسى".. وكلهم كنت تجدهم فيما يقوله ويعبر عنه "عبد الناصر" المهموم بالقومية العربية التى قال عنها أمام "الأمم المتحدة" فى خطابه الذى ألقاه يوم 27 سبتمبر 1960 أنها حتمية.. لأن وحدة اللغة تعنى وحدة الفكر.. ووحدة التاريخ تمثل وحدة الضمير.. وهذه الرؤية أنتجت "الميثاق" الذى يسخر منه "الجهلاء الجدد" من "جامعى أعقاب السجائر" دون قراءته.. وهم لا يعرفون أن "جاكوبسون" رئيس بعثة "صندوق النقد الدولى" قال فى القاهرة يوم 24 مايو 1962 بالنص: "على العالم بأجمعه أن يدرس ميثاق العمل الوطنى بانتباه بالغ"!! والكلام منشور على صفحات "الأهرام" يوم 25 مايو, فى اليوم التالى.. وترتب على ذلك أن "البيت الأبيض" قال على لسان ساكنه – كيندى – بوضوح: "عبد الناصر وحده دون سائر حكام المنطقة, القادر على تقديم حل فعال فى العالم العربى والشرق الأوسط بعيدا عن الشيوعية.. لأنه أصبح يملك إلى جانب الفكر, فنيين من رجال الدولة بأعداد وفيرة"!!

 

ركز الاستعمار هجومه على "عبد الناصر" مع محاولات شيطنته.. وركز "خدم الملكية والاستعمار" هجومهم على "ثورة يوليو" وكل من حكموا بعد قيامها.. وصولا إلى أهم أهدافهم, بمحاولة زرع الفتنة بين الشعب والجيش فيما يطلقون عليه ثنائية "المدنى والعسكرى" بعد أن سقطت فتنة "المسلم والمسيحى" التى كادت تنجح فى "زمن الجمهورية الثانية" لسذاجة "أنور السادات" السياسية!! وهؤلاء الذين يعزفون "لحن الديمقراطية" تحركهم عواصم, حكم الدول الغربية فيها "جنرالات" عظام.. وحكم الدول العربية فيها "شيوخ النفط" الذين لا يرون أو يؤمنون بغير حرية تشجيع فرق كرة القدم.. ويعتبرون الديمقراطية رجس من عمل الشيطان!!

 

النظام الذى تزدهر الثقافة فى زمنه, يصعب اتهامه بالديكتاتورية!!

 

لا نستطيع القول أن "الجمهورية الأولى" عاشت أزهى عصور الديمقراطية.. ولا يمكن تصديق "البروباجندا" التى تستهدفها بأنها موضوعية أو تتسم بالأمانة.. لذلك يجب أن نذكر "للجمهورية الثانية" أنها شهدت هامشا من الحرية والديمقراطية أكبر من حيث الشكل.. لكنها فى المضمون كانت "ديكتاتورية" تضع "طربوش ديمقراطى" على رأسها.. ثم خلعت "الطربوش" فى سنوات نهايتها!! لدرجة أن المجتمع حين ثار على "حسنى مبارك" رفع شعار "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" مع صور "عبد الناصر" ليبدو الأمر على أنه رغبة فى العودة إلى طريق "الجمهورية الأولى" مع تصويب ما شابها من أخطاء, كما حدث عندما صدر "الميثاق" عام 1962.. كذلك عندما صدر "بيان 30 مارس" الذى كان نقدا قاسيا وشديد الجرأة والوضوح للتجربة.. كما اعترف بالهزيمة وأسبابها, مع رسم طريق تجاوزها.. إضافة إلى ملامح ما بعد تحقيق الانتصار.. لكن القدر كانت له كلمته بإنهاء "الجمهورية الأولى" ورحيل قائدها وزعيمها!!

 

ربما لا يعرف كثيرون.. كثيرون جدا.. أن وزارة الثقافة أطلقت برنامجا لإعادة نشر عيون كتب الأدب والفكر العربى عام 1961.. وتولاه "مصطفى السحرتى" برؤية تقوم على ضرورة إعادة الاعتبار لكل رموز الحركة الوطنية المصرية.. فصدرت كتب تتناول سيرة "عمر مكرم" و"رفاعة الطهطاوى" و"محمد عبده" و"عبد الله النديم" و"سعد زغلول" مع "مصطفى كامل" و"محمد فريد" إلى جانب "طلعت حرب".. وكلها كانت تطبعها كل من "دار الهلال" و"دار المعارف" وتم دفنها فيما بعد.. كما صدرت العديد من الموسوعات التى قدمت تاريخ مصر القديم, وأبرزها موسوعة "سليم حسن" – مصر القديمة – وكتب "إبن إياس" و"الجبرتى".. واستضافت القاهرة – يوليو 1960 – مؤتمر المهاجرين العرب وشارك فيه العديد من الذين عاشوا فى أمريكا اللاتينية.. وبعد عودتهم لعبوا دورا كبيرا فى إلقاء الضوء على ما يحدث فى مصر والعالم العربى للمجتمعات التى يعيشون فيها!! ولعب "عبد الرحمن بدوى" الفيلسوف المرموق دورا رائدا, إلى جانب "ساطع الحصرى" كمفكر ومدير لمعهد الدراسات العربية.. ولمع فى سماء القاهرة "شكيب أرسلان" و"حازم نسيبة" و"قسطنطين زريق" إلى جانب "سعدون حمادى" و"نقولا زيادة" مع عشرات من الكتاب والمفكرين العرب الذين كانوا ينالون اهتماما لا يقل عما يتمتع به مبدعى مصر.. فكانت "منارة" إحسان عبد القدوس – روز اليوسف – تضم "أحمد بهاء الدين" و"فتحى غانم" و"صلاح عبد الصبور" و"رجاء النقاش".. وهؤلاء غير منارة الجمهورية أو الأهرام والأخبار ودار الهلال.. وظهرت فى هذا الوقت جريدة "وطنى" التى تولى تحريرها مبدعى ومثقفى الأقباط – عام 1958 – كما تكاثرت مؤسسات النشر الخاصة ومجلات الثقافة التى كان يدفعها ويرعاها "محمود أمين العالم" و"عبد العظيم أنيس" وكلها كانت تقدم رؤى مختلفة للديمقراطية والحرية كما يجب أن تكون فى البيئة المصرية والعربية.. وكلهم كانوا ضد فرض "واشنطن" وعواصم الغرب لنموذجهم على المجتمعات العربية.. ولعل كتاب "مصر ورسالتها" للدكتور "حسين مؤنس" يعكس ذلك بوضوح.. هنا يجب أن نتوقف أمام "ثروت عكاشة" وزير الثقافة وتجربته بين عامى 1958 و1962.. ثم رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى بعدها, قبل أن يعود نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة عام 1966, ليكمل بناء ثقافى وضع أساسه حتى تم إبعاده مع بداية "الجمهورية الثانية" واستمرت إنجازاته تتعرض للتعتيم أو السطو عليها!!..



الجمهورية الثالثة !! " أفنديات القاهرة " ( 28)!! 

 يتبع

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات