حمدى عبد العزيز
لم اعرف - عن قرب - أحداً
يمتلك طاقة بشرية جبارة تتحدى ظروف صاحبها وتتفجر بالانتصار الإنساني قدرما عرفته
متمثلاً في عم عبده زغلولة ..
عم عبده زغلوله
كان رجلاً نحيفاً
قصير القامة ضرب البياض إحدى عينيه لذا كان إذا مانظر أو تفحص شئ فإنه كان يذر على
عينه التي يرى بها ليرى بمايعوض عينه الأخرى التالى يدور بؤبؤها ويرتجف دون رؤيا ،
وعلى مايبدو أن هذا قد رسم على وجهه القمحي خطوط حادة من التجاعيد أعطته ملامح
القسوة والصرامة ، ومع ذلك كان يستطيع من آن لآخر أن يفرج عن ابتسامة تشعرك بطيبة
راسخة وكامنة في هذا الرجل رغم ملامحه الظاهرة التى تذكرك بملامح أمراء حروب
الأزمنة السحيقة ..
التي استغلها بعض
أعيان إحدى القرى التي أرسله إليها بنك التسليف الزراعي كمشرف تعاوني يلقبونه بلقب
(سفاح كرموز) ويستخدمون هذا اللقب في عشرات الشكاوى التي أرسلوها إلى إدارة بنك
التسليف الزراعي ووزارة الزراعة يطالبون فيها بنقله من هذه القرية ..
طبعاً لم تكن هذه
الشكاوى خالصة لوجه الله والوطن أو من أجل دفع ضرر أصاب الناس من وراء قدوم هذا
العبده زغلولة إلى القرية بجلبابه الذي كان يرتدى فوقه بالطو وطاقيته الصوف التي تنسدل
من تحتها على جبينه خصلة شعر المقدمة فتزيد من هيئته جديةً وحزماً وتضفي عليه
المزيد من علامات الصرامة لتزيد من مهابته لدى الجميع ..
كانت هذه الشكاوى
لأنه أوقف ماتمتع به بعض أصحاب المصالح من أعيان هذه القرية الكبيرة من محاباة
وتسهيلات وانتقاء لأجود أنواع الأسمدة على حساب المغلوبين على أمرهم من الفلاحين
الذين كانوا ينتظرون قبل قدوم عم عبده زغلولة ليأخذون مخلفات فرز الكبار سواء من
الأسمدة أو البذور أو التقاوى فيحصلون على الأجولة المتهتكة أو أكياس الأسمدة التى
نالت منها الرطوبة أو ينتظرون لساعات طويلة حتى يفرغ أصحاب المصالح ومحاسيب وأقارب
المشرف التعاوني السابق من أخذ حصصهم ومايفوقها قليلاً أو كثيراً .. إلى أن قررت إدارة البنك نتيجة مخالفات ما في توزيع بذرة
القطن في أحد المواسم الزراعية تغيير طاقم البنك وإرسال عم عبده زغلوله وحده
مؤقتاً إلى جانب عمله في قريته الصغيرة بديلاً عن هذا الطاقم المكون من المشرف
التعاوني ومساعده .
ولمن لم يعاصر أو
يعرف عن وظيفة المشرف التعاوني التي لم تعد موجودة الآن .. فهي تقريباً كانت أهم
مركز وظيفي في القرية المصرية مع وظيفة المشرف الزراعي ووظيفة موظف الرى وطبيب
الوحدة الصحية ..
في منتصف حقبة
السبعينيات كانت الجمعية الزراعية لاتزال هي مركز إدارة الحياة الزراعية بالنسبة
لأهل أي قرية مصرية ، فالجمعية الزراعية كانت بمهام
وزارات الزراعة والحكم المحلي والتموين وهيئات ووزارات ومؤسسات أخرى إذا ما اقتضت
الظروف في أي قرية مصرية .. كانت هي من تدير عملية تقسيم الأحواض
الزراعية طبقاً لخرائط وزارة الزراعة ومن ثم تقوم بتحديد مشرف زراعي لكل حوض ويرأس
الجميع المشرف الزراعي بالتنسيق مع مديرية الزراعة ، ومن مكتب المشرف الزراعي تعلن
كشوف الدورة الزراعية قبل كل موسم زراعي لتحدد ماسوف يزرعه الفلاحون ومن ثم تقوم
الجمعية الزراعية بعمل كشوف البذور والتقاوى والسماد والمبيدات والعلاجات المختلفة
وترسلها إلى بنك التسليف الذى يقوم بدوره وعبر مشرفه التعاوني بتوزيعها ، كذلك
تدار من هذا المكتب داخل مبني الجمعية الزراعية المعاينات التي تحدد نوع
الاحتياجات الخاصة للتربة من محسنات أو معالجات أو أسمدة إضافية كذلك المعاينات
التي يترتب عليها تكاليف مقاومة الآفات والحشائش وتطهير المصارف والترع وتقرير
نسبة مايدفعه كل مزارع حسب مساحته وزراعته مضروباً في قيمة ماقدم له
من خدمات طوال الموسم الزراعي .. إلي آخره
باختصار كانت الجمعية
الزراعية هي مركز الحياة بالنسبة للفلاح وبالتالي كان موظف الزراعة وموظف بنك
التسليف في القرية هو شخص له من الاهتمام والأهمية وربما القوة والسطوة أحياناً ما
للكبار والوجهاء من قيمة وحضور ..
وكانت وظيفة المشرف
التعاوني التي شغلها عم عبده زغلوله الذي لم يكن أفندياً يرتدي القميص والبنطلون
والجواكت وماشابه ذلك من ملابس البهوات والأفندية الذين كانوا يهبطون على القرية
من المركز المدنى أو يخرجون من القرية إلى المركز المدني بحكم التعلم والتوظف في
هذا المركز في أعداد قليلة ومعروفة لجميع سكان القرية .. كانت وظيفة المشرف
التعاوني من اهم الوظائف بالنسبة لفلاحي القرية المصرية ..
فالمشرف التعاونى هو
الذى يقوم من مكتبه الثابت في الجمعية الزراعية كمندوب لبنك التسليف بإدارة مخازنه
الملحقة بمبني الجمعية الزراعية وهو من يأمر أمين مخازنه المعاون له بتوزيع مابها
من بذور وتقاوي وأسمدة ومخصبات ومحسنات تربة حسب مايوجد ببطاقة حيازة كل فلاح
طبقاً لكشوف الحصر المحصولي
سواء المزمع زراعته
أو المنزرع فعلاً على الطبيعة ..
كذلك هو من كان يقوم
بتسليم (السلف المالية) التى في حوزته كعهدة من البنك إلى الفلاحين وفقاً لمقتضيات
خدمة زراعة محاصيل الدورة الزراعية
، كذلك فهو
من كان يتولى عملية دفع مقدمات اثمان المحاصيل المسلمة من الفلاحين للدولة عقب
نهاية كل محصول ، وكذلك الأثمان النهائية بعد التسلم النهائي للمحصول ، ثم صرف
ماينتج عن فروقات تقييم جديد للمحاصيل أو حوافز جديدة مقدمة من الدولة لأنواع بعينها
من المحاصيل التي كان يأتي القطن على رأسها ..
لك أن تتخيل بعد ذلك
حجم الطوابير التي كانت تقف أمام المشرف التعاوني كل يوم وحجم الطلبات والتوسلات
والوسائط التي تقف أمامه بمايجعل لهذه الوظيفة من أهمية وهيبة ويجعل من صاحبها
مركز قوي بشري مهاب في القرية ..
ولما كان أحد أبناء
العائلات الكبرى في هذه القرية التي ذهب إليها عم عبده زغلوله منتدباً من بنك
التسليف الزراعي كان يقوم بوظيفة المشرف الزراعي تكاثرت شكاوى الفلاحين من محاباته
لأقاربه ولبعض العائلات في توزيع بذرة القطن ووصلت الشكاوى لجهات أعلى فتم نقله هو
ومساعده إلى مركز آخر ، وعلى أثرها انتدب بنك التسليف عم عبده زغلوله مؤقتاً كمشرف
تعاوني لهذه القرية مع احتفاظه بمسئولياته كمشرف تعاوني في قريته لحين صدور قرارات
البنك الرئيسي بتعيين الطاقم الجديد وهي عملية كانت تستغرق ماهو ليس أقل من ثلاثة
أشهر وربما أكثر ..
وسيندهش الكثيرون
حينما يعرفون أن عم عبده زغلوله هذا الذي يجلس وأمامه الأوراق المحملة بالأرقام
والحسابات المعقدة وفي يده القلم ونظارة القراءة لم يكن يحمل أي شهادة تعليمية ،
ولن يندهش الذين عاصروا مرحلة الستينيات والسبعينيات لأنه عندما قامت الدولة
بتأميم تجارة القطن في ستينيات القرن الماضي عوضت تجار القطن بأن عينتهم في وظائف
داخل الاتحاد التعاوني والجمعيات الزراعية وبنك التسليف الذى كان تابعاً لوزارة
الزراعة ، ففتحت المجال معهم لأبناء القرى الذين كانوا يعملون كوسطاء تجاره أو
كعمال للتجار الكبار أن يدخلوا ضمن وظائف الجمعيات وبنك التسليف طالما كانوا
ينجحون في مجرد اختبار القراءة والكتابة دونما أي اشتراط للحصول علي أي من
الشهادات الدراسية ، ثم أن بنك التسليف نفسه عندما شرع في نشر فروعه في الأقاليم
والمراكز والقرى المصرية اضطر إلى ان يستعين بعمالة الجمعيات الزراعية من الكتبة
الذين كان من بينهم من لم يكونوا يحملون أية شهادات دراسية اللهم ربما الابتدائية
أو الإعدادية ..
ومع ذلك كان عم عبده
زغلولة نابغة في عمله لدرجة أنه بمجرد أن ينتهي من تقفيل يومياته وضبط حسابات
اليوم علي ماتبقي من محتويات المخازن وعهد نقدية يقوم متأبطاً حقيبته الجلدية
المنتفخة بدفاتره وأوراقه راكباً إلى إدارة البنك في المدينة لتسوية مالديه ثم
يجلس بين موظفي الحسابات ليتبارى معهم في حل أعقد العمليات الحسابية في وقت لم تكن
فيه الأجهزة الالات الحاسبة قد دخلت الخدمة في بنك التسليف الذي كان يعتمد على الدفاتر
المطولة واقلام الكوبيا والتي كانت هى فقط ماتتوافر للمحاسبين وكتاب الحسابات
والصرافين في بنك التسليف ..
رغم حرب الشكاوى
المجهولة التي شنها أصحاب المصالح الشهيرة (إنقذونا من سفاح كرموز) تم عم عبده زغلولة مهمته فى القرية التي ارسلوه فيها وعاد إلى التفرغ في
عمله بقريته الصغيرة التى كانت تنحصر مابين هامش المدينة ومابين القرى الكبيرة ،
وكقرية هامشية كانت تتسم بمساحات الأراضي الزراعية المفتتة الملكية بحيث يندر أن
تجد فيها من يملك أكثر من ثلاثة أفدنة بينما كان غالبيتها من المزارعين يمتلكون
ماهو أقل ، ولأن زمامها كان عبارة عن لسان يحده النيل من الناحية الرئيسية فكان
قسم كبير من فلاحيها يعتمدون علي زراعة مساحات صغيرة تبدو كشرائط أرضية خضراء على
شاطئ النيل وكانت تسمى (كنارات) جمع (كناره) وكانت هذه الكنائر أو الكنارات لاتزرع
سوى الخضروات ، وكان عم عبده زغلولة هو نجم هذه القرية وفارسها الأول ورجل خدماتها
ليس فقط لأنه كان مشرفها التعاوني ، لكنه كان قد تعود أن يحمل علي كاهله بحكم
طبيعة عمله وكونه أبناً من أبناء القرية البسطاء هموم جيرانه وأصدقائه في. القرية
ولذلك صار عضواً في لجنة الاتحاد الاشتراكي في القرية (قبل حله في منتصف سبعينيات
القرن الماضي) وهذا قد زاده اهتماماً بكل شئون قريته وأهلها ..
بالتأكيد سيسأل البعض عن مدي
درايتي بهذه الأخبار ومن ثم درايتي بعم عبده زغلولة ، وسأحكي لكم قصتي مع عم عبده
زغلولة والتي ربما ستساعدكم في التعمق أكثر في طبيعة شخصية هذا الرجل الاستثنائية
الخارقة رغم بساطته المادية والاجتماعية ..
هذا ما اقترح تأجيله إلى حلقة ثانية إذا لم يكن في
هذا افتئاتاً على أوقاتكم أو إثقالاً
لامبرر له على شخوصكم المحترمة
ومقاماتكم الرفيعة
..
..
______________
0 تعليقات