د. رشيد يوسف
لم تكن الإمبريالية
فى حاجة الى ثورة وطنية تعطيها سببا كى تحتل البلاد ، فقد كانت الدول الاستعمارية
تعرف مقاصدها وهى تبنى عمارتها الحربية وتتوسع فى تجييش الجيوش قبل أن يولد عرابى
،
فالرأسمالية تنزف
دماً من مسامها كما يقول كارل ماركس ، ولعل – ساكن الجنان – محمد على باشا قد أدرك
فى أخريات عمره حجم الأطماع الإنجليزية فى مصر ، فبعد أن قامت دول التحالف الأربع (
إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا ) بتكسير أسنان الذئب العجوز ، وحصرت أملاكه فى
باشوية مصر فقط له ولأولاده من بعده ، وقلّصت جيشه الى 18 إلف مقاتل فقط ، بعد أن
كانت الجيوش المصرية قد بلغت 240 الف مقاتل ، هنالك أستوعب محمد على قوانين عصره
التى طال تجاهله لها ، ففهم أن لهذا العالم سادة ، وأنهم يتطلعون الى تقسيم الأملاك
العثمانية فيما بينهم ، وأنهم لن يسمحوا أن يعتلى عرش الأستانة رجلا قويا صاحب
شوكة مثل محمد على ، ولذلك أعادوه الى مصر وأعادوا مصر ولاية عثمانية تابعة تدفع
الجزية التى حددها السلطان العثمانى بأربعين مليون قرش سنويا ، لذلك انتبهت حواس
الشيخ حينما عرضت عليه إنجلترا سنة 1844مشروع إقامة خط سكة حديد يربط القاهرة
بالسويس فأدرك أن نجاح هذا المشروع سوف يضع مصر فى الطريق بين بريطانيا وأملاكها
فى الهند ، وهو ما سوف يجلب الاحتلال الإنجليزي لمصر ، ولأن حالة الضعف التى آل
اليها حكم الباشا لم تكن تسمح له بأن يرفض المشروع الإنجليزي صراحة ،
لذلك أخذ يراوغ الوفد
الإنجليزي مبدياً عدم الاهتمام ،
ولأن حالة الضعف التى
آل إليها حكم محمد على لم تكن تسمح له بأن يرفض المشروع الإنجليزي ( الذى يربط
القاهرة والسويس بخط سكة حديد ) صراحة ، لذلك أخذ يراوغ الوفد الإنجليزي مبدياً
عدم الاهتمام ، ويصف روبرت كيرزون هذه المقابلة فيقول ( وجدنا الباشا حين لقيته
شيخا عفيا متين البنيان ، عريض الكتفين ، عريض صفحة الوجه ، واسع انفتاح المنخرين
، تضفى عليه نظرته الحادة الوثابة هيئة أسد أغبر هرم . تحدثنا ثلاثة أرباع الساعة
عن مدى إمكان مد السكة الحديدية بطول برزخ السويس ، وكان هذا المشروع أكبر هم يشغل
باله حينئذ . ولكن الحادثة التى سجلت هذا اللقاء بقوة فى ذاكرتي والتى دهشت لها
لأنها تمثل عادات تختلف عن عاداتنا كل الاختلاف ، لم تكن فى ذاتها إلا حادثة هينه
، فقد رأيت الباشا يطلب منديله فأخذ يبحت عنه فيما حوله ، ثم ينقب فى جيوبه ، فلم
يجده ، وكان أثناء بحثه لا يكف عن التعبير عن دهشته وحيرته بهتافات مختلفة ،
إستجاب لها آخر الأمر خادم سعى إليه من أقصى الحجرة وقال له " إبحث عنه فى
جيبك الآخر " فأجابه الباشا " فعلت فلم أجد فيه منديلى " فرد عليه
الخادم " إذن عد للبحث عنه فى جيبك الأول " فلما أجابه الباشا " ليس
عندى منديل " أو بكلام من هذا القبيل ، كان الرد السريع الذى أتى إليه من
الخادم " بل عندك منديلك " وتكرر القول والرد " ليس عندى منديل "
– " بل عندك منديلك " وانتهى الأمر بأن تقدم هذا الخادم إلى الباشا وأخذ
ينقب فى جيب سترته دون أن يجد المنديل ، فأخذت يده تدور حول خصر الباشا يتحسس
المنديل فلعله قد طواه طرف الشال الذى يتلفع به ولكن بلا جدوى ، حينئذ أمسك الخادم
بسيده وأماله إلى اليمين فوق الأريكة ونظر تحته ليرى ما إذا كان قد قعد على منديله
، ثم عدله وأماله من جديد إلى اليسار، وظل الباشا طوال هذه المناورة العجيبة على
أتم ما يقدر عليه من هدوء واستسلام ، ثم دس الخادم ساعده إلى الكوع فى أحد جيوب
سرواله الكبير المنتفخ وأخرج علبة نشوق ومسبحة وأشياء أخرى صفها على الأريكة ولكنه
لم يجد المنديل ، فانتقل ساعده إلى الجيب الآخر ومده إلى عمق مهول حتى أخرج من قاع
الجيب المنديل المفقود ، وفى حركة ملؤها التوقير والتجلة دفعه بقوة إلى يد الباشا
ثم تراجع إلى الطرف القصى من الحجرة حيث كان ) وغنى عن البيان أن الحكاية ليست
حكاية المنديل ، ولكنها طريقة الباشا فى المراوغة والتهرب من الرد ، إذ أدرك أن
الوفد الإنجليزي الجالس أمامه ليس وفدا للتفاوض على مد خط سكة حديد ولكنه وفد
للتفاوض على احتلال مصر ، ولأن الباشا لم يعط رداً قاطعا ، فقد وصلت معدّات إنشاء
السكة الحديد من إنجلترا إلى الإسكندرية. وظلت متروكة على الشاطئ خمسة عشرعاماً
إلى أن علاها الصدأ ، واستُخدم جزءٌ من هذه القضبان في إنشاء خط يصل بين محاجر
الدخيلة وميناء المكس، وهو أول خط حديد في مصر ، وعندما عرض دليسبس مشروع قناة
السويس على محمد على ، قال الباشا الذى كان على أعتاب الثمانين ( إذا ما حفرت
فرنسا ومصر سرير قناة السويس ، فإن إنجلترا هى التى سترقد عليه ) أكثر من هذا فإنه
قال لديليسبس . إنه يطلب ضمانات من أوربا لصيانة مصر ضد أى اعتداء أجنبي . قبل أن
يعطى موافقته على حفر قناة السويس ، مسألة إحتلال إنجلترا لمصر إذن كانت متوقعة
بقوة قبل أن يولد أحمد عرابى
.
0 تعليقات